تذكير أهل الإيمان بوجوب الاطمئنان
لَمَّا كانت الصلاة أفضل عمل يتعبَّد به المرء إلى الله، ويتقرب به إليه، أمر سبحانه وتعالى بالمحافظة عليها، فقال تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ [البقرة: 238]، وهذا الأمر يشمل المحافظة على الصلوات في أوقاتها بجميع شروطها، والمحافظة هي المداومة على الشيء والمواظبة عليه[1].
وقد امتدح الله في سورة "المؤمنون" المؤمنينَ المحافظين على صلواتهم، فقال تبارك وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 9 - 11]،قال الشنقيطي: ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الْوَارِثِينَ الْفِرْدَوْسَ - أَنَّهُمْ يُحَافِظُونَ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا تَشْمَلُ إِتْمَامَ أَرْكَانِهَا، وَشُرُوطِهَا، وَسُنَنِهَا، وَفِعْلِهَا فِي أَوْقَاتِهَا فِي الْجَمَاعَاتِ فِي الْمَسَاجِد[2].
وفي الحديث عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قَالَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[3].
وقد ذم الله وتوعَّد من لم يحافظ على صلاته، فقال تعالى: ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مريم: 59].
قال الشنقيطي: واختلف أهل العلم فيالمراد بإضاعتهم الصلاة، فقال بعضهم: المراد بإضاعتها تأخيرها عن وقتها، وممن يروى عنه هذا القولابن مسعود، والنخعي، والقاسم بن مخيمرة، ومجاهد، وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم، وقالالقرطبيفي تفسير هذه الآية: إن هذا القول هو الصحيح، وقال بعضهم: إضاعتها الإخلال بشروطها، وممن اختار هذا القولالزجاج، وقال بعضهم: المراد بإضاعتها جحد وجوبها، ويروى هذا القول وما قبله عن محمد بن كعب القرظي، وقيل: إضاعتها: إقامتها في غير الجماعات، وقيل: إضاعتها: تعطيل المساجد والاشتغال بالصنائع والأسباب.
ثم قال رحمه الله: وكل هذه الأقوال تدخل في الآية؛ لأن تأخيرها عن وقتها وعدم إقامتها في الجماعة، والإخلال بشروطها، وجحد وجوبها، وتعطيل المساجد منها - كل ذلك إضاعة لها، وإن كانت أنواع الإضاعة تتفاوت[4].
ومما يدخل في المحافظة على الصلاة: المحافظة على شروطها وأركانها، ومنها: الطمأنينة، ويقصد بها: استقرار الأعضاء زمنًا ما في مواطنها؛ كالركوع والسجود، والرفع منهما، وغير ذلك[5]، ومنها: كذلك الاعتدال، ويقصد به: استواء القامة ونصبها أثناء القيام والجلوس، وبعد الرفع من الركوع والسجود، وحال السلام[6].
ودليل ذلك: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَدَخَلَ رَجُلٌ فَصَلَّى، ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ السَّلَامَ، فَقَالَ:ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ ثَلَاثًا، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَمَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ، فَعَلِّمْنِي، قَالَ: إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ، فَكَبِّرْ ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا[7].
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ، صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّعْدِيلَ والاطمئنان مِنَ الْأَرْكَانِ؛ بِحَيْثُ إِنَّ فَوْتَهُ يُفَوِّتُ أَصْلَ الصَّلَاةِ، وَإِلَّا لَمْ يَقُلْ: لَمْ تُصَلِّ، فَإِنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّخَلَّادَ بْنَ رَافِعٍ[8] لَمْ يَكُنْ تَرَكَ رُكْنًا مِنَ الْأَرْكَانِ الْمَشْهُورَةِ، إِنَّمَا تَرَكَ التَّعْدِيلَ وَالِاطْمِئْنَانَ، فَعُلِمَ أَنَّ تَرْكَهُ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ[9].
وعن رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ [10] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لِرَجُلٍ: " إِذَا رَكَعْتَ فَاجْعَلْ رَاحَتَيْكَ عَلَى رُكْبَتَيْكَ، وَمَكِّنْ لِرُكُوعِكَ، فَإِذَا رَفَعْتَ فَأَقِمْ صُلْبَكَ وَارْفَعْ رَأْسَكَ، حَتَّى تَرْجِعَ الْعِظَامُ إِلَى مَفَاصِلِهَا"[11].
وعليه فإن مَن أخلَّ بالاعتدال أو الاطمئنان، أو أخل بكليهما، فصلاته باطلة، ويجب عليه إعادتها[12].
وفي الحديث عَنْأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ، قَالَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَلَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ فِيهَا الرَّجُلُ يَعْنِي صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ[13]؛ أَيْ: لَا تجُوزُصَلَاةُ مَنْ لَا يُسَوِّي ظَهْرَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالْمُرَادُ الطُّمَأْنِينَةُ، وَاسْتدلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى وُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ فِي الْأَرْكَانِ[14].
وعن حذيفةَ رضي الله عنه أنه رأى رَجُلًا لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فقَالَ له: مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا[15]، فدَلَّ هَذا عَلَى أَنَّإِتْمَامَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِفِي الصَّلَاةِ وَاجِبٌ، وَأَنَّ تَرْكَهُ مُحَرَّمٌ[16].
وعن سلمان الفارس يقال: الصلاة مكيال، فمن أوفى أوفى الله له، وقد علمتم ما قال الله في الكيل: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾ [المطففين: 1][17].
هذا، وقد عد النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم الإخلال بالاعتدال والاطمئنان نوعًا من السرقة، ففي الحديثعن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:أسوأ الناسِ سرقةً الذي يسرِق من صلاته، قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتمُّ ركوعَها ولا سجودها[18].
قال الباجي: قصَد صلى الله عليه وسلم أن يُعلِّمهم أن الإخلالَ بإتمام الركوع والسجود كبيرةٌ، وأنه أسوأ مما تقرَّر عندهم أنه فاحشة، وإنما خص الركوعَ والسجود؛ لأن الإخلالَ في الغالب إنما يقعُ بهما، وسماه سرقةً على معنى أنه خيانةٌ فيما اؤتُمِن على أدائِه[19].
وإنما كان الذي يسرق من صلاته أسوأ الناس سرقةً؛ لأن السارق يسرق من غيره، وهذا يسرق من نفسه، ثم هو يسرق ما لا يجوز أن يسرق بحالٍ، يسرق روح الصلاة، وهو الخشوع والطمأنينة، وإتمام الركوع والسجود، ولا معنى للصلاة بغيرها، وقد قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1، 2].
فالصلاةَ قوت القلوب، كما أن الغذاء قوت الجسد، فإذا كان الجسد لا يتغذَّى باليسير من الأكل، فالقلب لا يقتات بالنَّقر في الصلاة، بل لا بد من صلاةٍ تامة تُقِيت القلوب[20].
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|