كان قدَرًا أن أسلك دربَ سفرٍ بعينه مرتين في أقلّ من شهرين، خلال إجازة الصيف المنصرمة، وكان قدَرًا أن تتشابه الرحلتان في كثيرٍ من التفاصيل الصغيرة، فضلاً عن الخطوط العامة.
لكن أبرز الفروق: أن الرحلة الثانية لم تكن سوى امتدادٍ للأولى، دفع إليه حنينُ الحنايا، وغليلٌ لم يُشف، ولوعةٌ فررتُ منها إليها، لم أجد طريقًا لعلاجها إلا ذلك، ولو أمكن أن أفرَّ إليها من جديدٍ لفعلت!
تراءى لي الطريقُ الضاربُ في مَهْمَهِ الصحراء حبلاً ممدودًا إلى ماضٍ قريبٍ مجيد، تشبَّثتُ به، وأخذتُه حيث أخذني، وددتُ أن أهرب من كل شيء، من قعقعات الحروب، وهدأة السلام، من اعتمال العوالج، ورتابة الأيام، وددتُ أن أهرب من متناقضات الحياة إلى ذلك الماضي، الذي استقرَّ هنالك هادئًا، ساكنًا سكونَ شيخٍ وقور، يرمق كل هذا الصخب بابتسامةٍ صامتة، وملامحِ عتاب، وددتُ أن أهرب إلى ذلك الماضي الساكنِ سكونَ معالمه التي ربضت على جوانب دربيَ الذي سلكتُه.
هل رأيتم سكينة أجدادنا وجدّاتنا، يومَ أن صخبنا ذاتَ عيدٍ من بين أيديهم ومن خلفهم؟ ألا لَشدَّ ما تشبههم -وهم أبناء الماضي- آثارُه التي تكاد -وهي جامدة- تنبض بالحياة، وتنطق بالحكمة، وترجّع أغنيات العتاب بلحنٍ مترسّل، كما نبض أولئك، ونطقوا، ورجّعوا!
لم أجرؤ في كل مرةٍ أمكنني أن أجرؤ فيها على الاقتراب من تلك المعالم، سمعتُها تعاتبني، رأيتها تُشيح عني، تُبعدني بكل طاقتها، تصدّني بيديها: أيها العاق، أيتها الأجيال العاقة! جعلتمونا مزاراتٍ للمتعة، وكتابة الذكريات التافهة، وتصوير الابتسامات البلهاء، بجانب كل هذه العظمة والأصالة؟!
صباحَ يومَي السبت 24 شعبان، و 7 شوال، عام 1433، كان لي موعدٌ مع "سكة الحديد الحجازية"، الممتدةِ بقاياها من عرباتٍ وقلاعٍ وحصون، على مسافاتٍ طويلةٍ في بلادنا وبلدانَ أخرى، تهيَّأ ليَ المرورُ ببعض ما كان منها بين مدينتَي "العلا" و"تبوك"، وتهيَّأ لي العيش في أجواء "السكة" بكاملها فيما بعد.
عَصَفَ بي رأيُ عيني، فما كدتُ أعودُ حتى أخذتُ أقرأ، وأشاهد، وأبحث، وأسمع، وأسأل، أتأمل مختلفَ الصور بمقلةٍ دامعة، وتنهُّداتٍ متلاحقةٍ حزينة، أتابع "السكة" عبرَ الصور الفضائية محطةً محطة، أقرِّب الصورة وأبعدها، ثم أرجع البصر، فينقلبُ إليّ البصرُ خاسئًا، وهو حسير!
قرأتُ خلال أيام قُلاًّ من كُثرٍ مما تعلق بتلك "السكة" من فصولٍ، وكتبٍ، وبحوثٍ، ومذكرات، وطاوَعَتْني نفسي، أو ربما كنتُ من طاوَعَها، فطالت قراءاتي تاريخَ تلك الحقبة، وأحداثَ الاختلافِ والاتفاق، والهجوم والحصار، والكرِّ والفرّ.
كان ذلك -مع قلّته- قدرًا كافيًا؛ سُمًّا نفسيًّا زعافًا، أودى بي في تِيهٍ من الصمت الحزين، والنفس الضائقة، حتى بات من حولي يظن بي مرضًا، وما بيَ من مرض!
لست أبالغ بكل صدق، لكنني لا أجد تفسيرًا لهذا إلا هذا!