شرح وتخريج حديث: «كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به»
شرح وتخريج حديث «كلُّ جسدٍ نبتَ من سُحْتٍ فالنارُ أولى به»
نعوذ بالله من أكل الحرام، فإنه شؤم وخبيث، وعاقبته النار، وقد أمر الله -تعالى- بأكل الطيبات، قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168]، وقال: ﴿ فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [النحل: 114].
ولكن قد يتهاون بعض الناس في أكل الحرام مع سوء عاقبته، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِي المَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الحَلالِ أَمْ مِنَ الحَرَامِ»[1].
وحديث هذه الرسالة «كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» من جملة الأحاديث التي قد وقع بعضُ لبسٍ في فَهْمِها، فاجتهدتُ في تخريجِه وجمع بعض ما يتعلَّق به إزالةً للَّبْس؛ رجاءَ المنفعةِ العامةِ والخاصَّةِ.
قال أبو نعيم: حدثنا أبو عمرو بن حمدان، ثنا الحسن بن سفيان، حدثني يعقوب بن سفيان قال: حدثني عمرو بن منصور البصري، ثنا عبدالواحد بن زيد عن أسلم الكوفي عن مرة الطيب، عن زيد بن أرقم، قال: كان لأبي بكر الصِّدِّيق- رضي الله عنه- مملوك يغل عليه، فأتاه ليلة بطعام، فتناول منه لقمة، فقال له المملوك: مالك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ قال: حملني على ذلك الجوع، من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية، فرقيت لهم فوعدوني، فلما أن كان اليوم مررت بهم، فإذا عرس لهم فأعطوني، قال: إن كدت أن تهلكني فأدخل يده في حلقه، فجعل يتقيَّأ، وجعلت لا تخرج! فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء، فدعا بطست من ماء، فجعل يشرب ويتقيَّأ حتى رمى بها، فقيل له: يرحمك الله! كل هذا من أجل هذه اللُّقْمة؟ قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها؛ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلُّ جَسَدٍ نَبَتَ من سُحْتٍ فالنَّارُ أوْلَى به»؛ فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة[5].
ورواه عبدالرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة نحوه، والمنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر نحوه.
قال ابن جرير: حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبدالرحمن بن أبي الموال، عن عمر بن حمزة بن عبدالله بن عمر: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ لحم أنبَته السُّحْتُ فالنَّارُ أوْلَى به»، قيل: يا رسول الله، وما السُّحْتُ؟ قال: «الرشوة في الحكم»[14].
أنَّ معنى الحديث قد ورد من حديث أبي بكر وعمر مرفوعًا وموقوفًا، ومن حديث جابر بن عبدالله، ومن حديث كعب بن عجرة، ومن حديث ابن عباس، ومن حديث عائشة، ومن حديث حذيفة، ولا يخلو طريق منها من مَقال، وأمثلُها حديثُ جابر الذي رواه أحمد من حديث عبدالرزاق عن معمر، فإنه حسنٌ لذاته، ويليه حديثُ كعبِ بنِ عجرةَ الذي أخرجه ابن حبان في صحيحه، وبالجملة فإن الحديث بمجموعه تحصلُ به طمأنينةُ القلبِ أنه ثابتٌ صحيحٌ.
الشرح:
السُّحْتُ المقصود به في هذا الحديث الشريف كلُّ كسبٍ قبيحٍ، غيرِ مشروعٍ، وقد يقصد به الرشوة[21]، كما قال الله -تعالى-: ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [المائدة: 63].
يعني به الرشوة التي كانوا يأخذونها على حكمهم بغير كتاب الله لمن حكموا له به[22] لكن المقصود هنا المعنى العام؛ لأنه جاء في بقية الروايات بلفظ: "نبت من حرام" فتعيَّن أنَّ المقصودَ بالسُّحْتِ هنا كلُّ كسبٍ خبيثٍ مُحرَّمٍ.
(نبت من حرامٍ) وصفٌ غالبٌ، واللهُ أعلمُ، والمعنى: أنَّ كلَّ جسمٍ تغذَّى بالحرامِ وإن افتُرضَ أنَّه لم يَنبتْ به لحمُه فإنه يكونُ يومَ القيامةِ في النارِ عقوبةً له، إلا أن يشاءَ ربِّي شيئًا.
وكما في الرواية الأخرى: "لا يدخلُ الجنةَ"؛ أي: لن يدخلَها معَ أولِ الدَّاخلين حتى يُطهَّرَ منها، ويُجازَى على أكلِ الحرامِ، أو يؤخذَ من حسناتِه فتُعطَى لأصحابِها إن كانت ممَّا يتعلَّق بحقوق العباد، فإن تابَ قبلَ موتِه، وردَّ الحقوقَ لأهلِها تابَ اللهُ عليه، وغفرَ له، وبدَّل سيئاتِه بحسناتٍ، وإنْ لم يتبْ فالنارُ أوْلَى به، لكنْ إنْ دخلَ النارَ لا يَخلُدُ فيها، ما دام قد ماتَ على الإسلامِ؛ لقولِهِ صلى الله عليه وسلم: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ»[23]، وهذا بإجماعِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ.
2- قد يمحق البركة: قال الله تعالى: ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ [البقرة: 276]. قال العلماء: يمحق الربا؛ أي: يذهبه، إما بأن يذهبه بالكليَّة من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به؛ بل يُعذِّبه به في الدنيا، ويُعاقبه عليه يوم القيامة.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: يُقَالُ يومَ القيامة لآكل الربا: خذ سلاحَك للحربِ، قال: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279].
قالَ العلماءُ: استُشْكِلَ وقوعُ المحاربةَ وهي مفاعلةٌ من الجانبين معَ أنَّ المخلوقَ في أسْرِ الخالقِ، والجوابُ: أنَّه مِنَ المخاطَبةِ بما يُفهَمُ؛ فإنَّ الحربَ تنشأُ عن العداوةِ، والعداوةُ تنشأُ عن المخالفةِ، وغايَةُ الحرْبِ الهَلاكُ، ومَنْ عَادَى الله يُغلَبُ ولا يفلِحُ. وكأنَّ المعنى: فقدْ تعرَّضَ لما لا طاقة له به من حرب الله ورسوله، والتي يلزم عنها الهلاك والدمار، فأطلَقَ الحرْبَ وأرادَ لازمَها؛ أي: أعمَلُ به ما يعمَلُه العدَو المُحَارِبُ، وفي هذا تهدِيدٌ شدِيدٌ؛ لأنَّ من حارَبَه الله أهلَكَه، وهو من المَجازِ البليغِ؛ لأنَّ من كَرِه من أحبَّ الله خالفَ الله، ومن خالَفَ الله عاندَه، ومن عاندَه أهلكَه.
من كانَ مالُه مختلطًا بالحلالِ والحرامِ، فلا حرجَ من التعاملِ معه، والأكلِ من طعامِه، وقبولِ هديتِه، والاستفادةِ من ممتلكاتِه بوجه مشروعٍ، بشرطِ ألا يكونَ في عينِ المحرمِ، على الأشهرِ من أقوالِ أهل العلم[29].
وقد استُدلَّ لذلك بأنه لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ، أهْدى اليهود لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَاةً[30]، وأكل منها صلى الله عليه وسلم هو وبعض أصحابه[31]. وقد وصفهم الله جل جلاله في كتابه بأكل الرِّبا، فقال عنهم: ﴿ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ﴾ [النساء: 161] وقال عنهم -أيضًا-: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ [المائدة: 42].
قال البغوي: "فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَهَنَ دِرْعَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ بِشَعِيرٍ أَخَذَهُ لِقُوتِ أَهْلِهِ، مَعَ أَنَّهُمْ يُرْبُونَ فِي مُعَامَلاتِهِمْ، وَيَسْتَحِلُّونَ أَثْمَانَ الْخُمُورِ.
قال بعض العلماء: يقصدُ في نيتِه القسمَ المباحَ من مالِه.
مسائل تتعلق بالحديث:
هل أولاد من يتَكسَّبُ بمُحرمٍ يَدخُلُون في قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم "النارُ أوْلَى به"؛ لأنهم نبتتْ أجسادُهم من مالٍ حرامٍ؟
وهل لو ماتَ الولدُ الصغيرُ الذي أطعمَه والدُه من الحرامِ يكونُ في النارِ؟
الجوابُ:
لا يكونُ في النارِ؛ لأنَّه لم يكلفْ بعدُ، ولأنَّه إنما تلقَّى طعامَه وشرابَه من مصدرٍ مشروعٍ، من جهةِ نفقةِ والديهِ أو أحدِهما؛ لأنَّ المالَ المُحرَّمَ من جهةِ كسبِه، فإنَّ إثمَه على كاسبِه دونَ من أخذَه منه بطريقِ المباحِ؛ فإنَّ الولدَ ولو كان مكلفًا لمْ يسرقْه، إنما تلقَّاه من نفقةِ أبيه عليه، ولم يباشر المُحَرمَ ولا علمَ له به، ولا قدرةَ له[34].
وكذلك الزوجةُ والأولادُ غيرُ القادرين على الاستقلالِ فإنَّه لا حرجَ عليهم فيما يُنفقُ عليهم من قبلِه، وإنَّما إثمُه وتحريمُه على من اكتسبَه دونَ غيرِه، ومن هنا نعلمُ سببَ قبولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم دعوةَ اليهودِ، وأكلِه من طعامِهم، معَ كونِهم يكسِبون المالَ بطرقٍ مُحرَّمة.
قال الشيخُ ابنُ عثيمين: أقولُ: خذوا النفقةَ من أبيكم، لكم الهناءُ وعليه العناءُ؛ لأنكم تأخذون المالَ من أبيكم بحقٍّ؛ إذ هو عندَه مالٌ وليس عندكم مالٌ، فها هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبلَ الهديةَ من اليهودِ، وأكلَ طعامَ اليهودِ، واشترى من اليهودِ، مع أنَّ اليهودَ معروفون بالرِّبا.
وكذلك لو كانَ مالُهُ مختلطًا، قال الشيخُ ابنُ بازٍ: أمَّا إذا كانَ عندَه كسبٌ طيبٌ ولكنْ في مالِه اختلاطٌ، في مالِه شيءٌ من الشبهةِ فهذا أسهلُ، والأمرُ فيه أوسعُ.
توبةُ آكلِ المالِ الحرامِ:
المالُ الحرامُ قد يكونُ مُحرَّمًا لذاتِه أو مُحرَّمًا لغيرِه، فأمَّا المحرمُ لذاتِه؛ كالمالِ المسروقِ والمغصوبِ فلا يُنتَفَعُ منه بشيءٍ، بل يجبُ ردُّه لأهلِه، ما أمكن، وأما المحرمُ لغيرِه كثمنِ الكلبِ والخِنزيرِ فإنَّه ينتفعُ به بقدرِ الحاجةِ فقط.
قال شيخ الإسلام ابن تيميةَ: "فإن تابتْ هذه البغيُّ وهذا الخَمَّارُ، وكانوا فقراءَ جازَ أن يُصرفَ إليهم من هذا المالِ قدرَ حاجتِهم، فإنْ كانَ يقدرُ يتَّجرُ أو يَعملُ صنعةً؛ كالنسجِ والغزلِ، أُعطِيَ ما يكونُ له رأسُ مالٍ، وإن اقتَرضُوا منه شيئًا ليكتسبُوا به... كانَ أحسنَ "؛ ا هـ.
وهذا ليس معارضًا للحديث؛ لأن هذا المالَ الذي كسبَه الخَمَّارُ أو كسبتْه البغيُّ إنما خبُثَ لكسبِه لا لذاتِه، ولم يتعلقْ به حقُّ آدميٍّ؛ ولذلكَ لما تابت البغيُّ وتاب الخَمَّارُ شُرِعَ أن تُنفق تلك الأموال التي اكتسبوها بالحرام في مصالح المسلمين؛ لأن هذا المال ليس خبيثًا في ذاته، إنما حرم وخبث لكسبه من وجه غير مشروع، بخلاف ما لو تابَ الخَمَّارُ من بيعِ الخمرِ وبقيَ عندَه من الخمرِ شيءٌ، فإنه يؤمرُ بسَكْبِها وإتلافِها؛ لأنها مُحرَّمةٌ لذاتها؛ ا هـ.
ما الحكم لو ورث المال المُحرَّم؟
يجب رد الحقوق المتعلقة بالعباد إلى أهلها قبل كل شيء؛ كالمال المسروق أو أكل الميراث أو غيره.
قال شيخ الإسلام رحمه الله - وسئل عن مُرابٍ خلَّف مالًا وولدًا وهو يعلم بحاله، فهل يكون حلالًا للولد بالميراث أو لا؟
أما القدْر الذي يعلم الولد أنه رِبًا: فيخرجه، إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن، وإلا يتصدَّق به، والباقي: لا يحرم عليه.
لكنَّ القَدْر المشتبهَ يستحبُّ له تركُه إذا لم يجبْ صرفُه في قضاءِ ديْنٍ أو نفقةِ عيالٍ، وإن كانَ الأبُ قبضَه بالمعاملاتِ الربويةِ التي يرخصُ فيها بعضُ الفقهاءِ جاز للوارث الانتفاعُ به، وإن اختلطَ الحلالُ بالحرامِ وجُهِلَ قدرُ كلٍّ منهما جَعَلَ ذلك نصفين [35].