البقرة الهزيلة

البقرة الهزيلة
د. علي أحمد الشيخي

(قصة وعبرة)


يُحكى أن رجلًا توهَّم إصابته بمرض، حتى خُيِّل إليه أنه بقرة، فكان يردد دومًا: اذبحوني؛ فإن لحمي سيكون لذيذًا سائغَ الطعم؛ ولهذا امتنع عن الطعام والشراب حتى ساءت حالته، وقد عجز الأطباء عن علاج علته، فدُلَّ أهلُه على أبي الطب الشيخ الرئيس ابن سيناء، فلما ذهبوا إليه ووصفوا له حالة المريض، قال لهم: أخبروه أن القصَّاب سيأتي لذبحه قريبًا، وعندما حضر ابن سيناء، قال لهم: أروني أين البقرة التي تريدون مني أن أذبحها، فلما سمع المريض كلام ابن سيناء خار خوار البقرة، فقام ابن سيناء وأضجعه على جنبه الأيمن متجهًا للقبلة كحال الذبيحة عند الذبح على الطريقة الإسلامية، وطلب من ذويه أن يشدوا وَثاقه، ثمَّ أخذ يشحذ السكين أمام ناظريه، وبدا المريض في قمة الارتياح، فأهوى عليه ابن سيناء والسكين في يده كما يفعل الجزار تمامًا، وبعد أن أوهمه بتمرير السكين على رقبته قام برفعها، وقال لهم: إن بقرتكم هذه هزيلة جدًّا لا تصلح للذبح، ففكوا وثاقه، فإن رغبتم في ذبحها مستقبلًا، فأطعموها جيدًا حتى تسمن، وعندها سوف أعود لذبحها، ثم خرج ابن سيناء بعد أن وصف لهم عقارًا طلب منهم أن يدُسُّوه له مع طعام التسمين كما أوهم المريض، ولم يمضِ شهر واحد حتى صلح حال المريض وبرئ من العرَض الذي كان يشكو منه تمامًا.

فالوهم يُشوِّه الحواسَّ، فتصنعُ جدرانًا شاهقة تحجبُ عن رؤية جمال الحياة، ومرض عضال، يصفه البعض بأنه مرض الأصحاء القاتل، وهو تضخيم للواقع، الذي يقود إلى متاعب نفسيَّة وجسميَّة، وسببه الأوحد الفشل والعجز في الحياة، ويكون نتيجة لعدم تقدير الذات وتدني الثقة بها، والسواد الأعظم من الناس لم يكتشفوا ذواتهم على حقيقتها، فجلُّ إمكاناتهم وطاقاتهم لا تزال كامنة، تنتظر التحرير والتنقيب، وقد قال أحدُ المفكرين: سَنُدهش من أنفسنا عندما ننطلق، فالإنسان مثل الطائر يهوي إلى الأرض إذا توقَّف جناحاه عن الحركة، وقال بعضهم: لا تذهب إلى المحيط ومعك ملعقة، بل اصطحب على الأقل سطلًا، وابعد عنك العواطف السلبية والمعتقدات التي تحدُّ من قدرتك، وحدِّد أولوياتك قبل أن تبدأ، ولا تدع الآخرين يُلقون القمامة في عقلك، واحذر من عرج الخاسرين كالذي يتصنعه مدافع الفريق عندما يعجز عن اللحاق بمهاجم الخصم، فإنه يتظاهر بالعرج أمام الجمهور طلبًا للعذر منهم، وهذا هو ديدن الفاشلين الذين اتخذوا التبرير سلاحًا، فتجدهم يبررون فشلَهم بالظروف أو المدير أو الواسطة أو أي مبرر آخرَ، وهم هنا عندما يشيرون بإصبع السبَّابة إلى المتهم، فإنهم في الوقت نفسه يشيرون بثلاثة أصابع إلى صدورهم، وفي هذا إشارة صريحة إلى أن السبب الحقيقيَّ للإخفاق هو ذواتهم، وليس المتهم المزعوم.

والكِبْرُ - في رأيي - هو وجه آخر للوهم؛ إذ إن الشخص يضخم نفسه أضعافًا أكثر من حجمه الطبيعي؛ ولهذا تجده يخفق في أهدافه؛ لأنه لم يقدرها حق قدرها، وهذا ناتج عن صغر العقل، فالغرور قد يدفع صاحبَه إلى التنكُّر للحق، والعاقل كالغصن كلما ازداد خيرًا تواضع وانحنى، وهو دليل على الذلِّ - أعني الكِبر - أكثر منه دليلًا على الكبر، فالعبد إذا أنعم الله عليه بموهبة لا يراها في إخوانه، فلا يفسدها بالاستطالة عليهم.

وما أجمل أن يُعيد الإنسانُ تنظيمَ نفسه بين الحين والآخر؛ للتخلص من الوَهَنِ الذي يعتريه، أو الهواء الذي يحويه صدره كبرًا، وقد قيل: كلما زاد استخدامك لما لديك، زاد ما لديك لاستخدامه، ويقول زيج زيجلار: عندما تخطو خطوة على السلم إلى القمة، فإنك تخطو مبتعدًا عن الزحام الموجود أسفل السلم، وستكون الخطوة التالية أكثر سهولة، والرؤية أكثر وضوحًا؛ (أراك على القمة: 97).

فهلَّا كسرنا حاجز التردد، وجرَّبنا الجديد الذي نهابه، وهلَّا وثقنا بابن الوطن وبالصناعة الوطنية، وتخلصنا من عقدة الأجنبيِّ ووَهمِ صُنع في اليابان أو ألمانيا أو أمريكا، ومثل ذلك ينسحب على الحَكَم الأجنبيِّ في منافساتنا الرياضيَّة المحليَّة، فهل من عودة للوعي؟!

فاصلة: الفوز ليس هو كلَّ شيء؛ وإنما الجهد المبذول من أجل الفوز هو كل شيء.