الله - عزَّ وجلَّ - لرأفته ورحمته وشفقته بعباده، يجعل ما فيه قِوامُ حياتهم مركَّبًا فيهم بالغريزة، فركَّب فيهم غريزة الأكل والشرب، ولو تركها أحد لهلك.
وكذلك ركَّب فيهم التوجه إلى إله واحد، والركونَ إلى هذا الركن الشديد، والتألُّهَ والتعبد له سبحانه، فلو تركه أحد لهلك.
فلا عجبَ أن يكون أولَ وأعظمَ الواجباتِ على العباد توحيدُ رب العباد - سبحانه وتعالى - كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: ((فليكن أولَ ما تدعوهم إليه أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئًا...)) الحديث.
وحتى نعرف كيف نوحِّده - سبحانه وتعالى - ربًّا، فلا بد أن نعرفه.
ولقد أعلمَنا الله - عزَّ وجلَّ - بأسمائه وصفاته، ومحابِّه ومراضيه، ومكروهاته، وواجباته، ومحرماته، إما مباشرةً في القرآن، أو عبر سنة النبي - عليه الصلاة والسلام - التي هي وَحْيٌ يُوحى، والتي هي الحكمة في قول الله - تعالى -: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [النساء: 113].
وقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((ألا إني أوتيت القرآنَ ومثلَه معه)).
وما عَرف اللهَ - عزَّ وجلَّ - أحدٌ إلا وأحبَّه؛ لذلك كان العارفون بالله مِن أشد الناس حبًّا له - سبحانه - ومِن أشد الناس خوفًا منه أيضًا؛ ولذا قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يومًا لأصحابه: ((لو تعلمون ما أعلمُ لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذَّذْتم بالنساء على الفرُش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله))؛ رواه الترمذي، وابن ماجه، وأصله في الصحيحين.
فالأول: هو توحيد الله - عزَّ وجلَّ - بأفعاله، ومعرفة صفاته وأسمائه.
وصفات الله - عزَّ وجلَّ - متعددة؛ لشرف الموصوف، وأسماؤه كثيرة كذلك، ولا تنحصر في مائة اسم فقط كما هو شائع.
والثاني: هو توحيد الله - عزَّ وجلَّ - بأفعال العباد.
والقرآن كله من أوله إلى آخره فيه تقريرُ هذين النوعين من التوحيد؛ فهو إما خبر عن الله - عزَّ وجلَّ - وأسمائه وصفاته، أو دعوة لعبادته وحده لا شريك له، وإما أمر أو نهي، وذكر كرامة أهل طاعته وتوحيده، أو ذكر شقاء أهل معصيته والشرك به.
والنوع الأول هو توحيد المعرفة والإثبات، وهو توحيد علمي خبري اعتقادي، يتضمن ما ينبغي أن يعلمَه العبدُ ويعتقده في ذات الله - عزَّ وجلَّ.
وأول شيء يجب على العبد إثباتُ ذات الله - سبحانه وتعالى - فإن لكل مُحدَث مُحدِثًا، ولا يُعقل أن هذه السموات والأرض، والمحيطات والأنهار، والنجوم والجبال، وكل ما في الكون - لا مُوجد له ولا خالق.
قال - تعالى -: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ [الطور: 35].
وهذا توبيخ لهم واستنكار لأقوالهم؛ فإن كل إنسان يعلم أن كل مخلوق في الكون له مُوجد.
وهذا في البطلان أشد من سابقه؛ فإن هذا المخلوق الفاني الذي سبقه العدمُ - لم يَخلق نفسَه، ولا يستطيع لها موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، فكيف يخلق غيرَه، فضلاً عن أن يخلق هذا الخلق العظيم كالسموات والأرض؟ وهناك معانٍ أساسيةٌ هامة لربوبية الله - عزَّ وجلَّ - وهي مقتضى معاني كلمة (رب) في اللغة.
فالرب في اللغة هو:
• المربي المتعهد بالإنشاء والتربية والتهذيب.
• وهو المالك الذي يملك كلَّ شيء.
• وهو السيد المُطاع الذي له الحكم والفصل والطاعة.
ولذا ينبغي إفراد الرب بهذه المعاني، فالله هو الذي يخلق ويرزق ويدبر، ويحيي ويميت، ويعطي ويمنع، ويبسط ويقبض، ويخفض ويرفع.
وهو الملك المالك جل جلاله؛ قال - تعالى -: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1 - 2].
وهو الملك الحقيقي سبحانه، بل هو ملك الملوك - عزَّ وجلَّ - فكل مَلِكٍ في هذه الدنيا مُلكه غير حقيقي؛ بل هو مُلك زائف زائل، فلا المال ماله، ولا البشر مماليكه، ولا يشارك اللهَ - عزَّ وجلَّ - في ذلك أحدٌ، وكما جاء في الحديث: ((إن أخنع اسم عند الله - عزَّ وجلَّ - رجل تَسَمَّى بملك الأملاك)).
وهو كذلك الحاكم السيد المطاع الذي له حق التشريع، وكل البشر خاضعون لحكمه وشريعته، لا يملكون أن يبدلوها، ولا يملكون عصيانها.
وعاب الله - عزَّ وجلَّ - على اليهود والنصارى اتخاذَهم أحبارَهم ورهبانَهم أربابًا، وما عبدوهم أو سجدوا لهم، ولكن اعتقدوا أنَّ لهم حقَّ التشريع والحكم من دون الله، أو مع الله؛ قال الله - تعالى -: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31].
ولذلك فالعبدُ لا يؤمن حتى يسلِّم بحكم الله - عزَّ وجلَّ - قال - تعالى -: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
وقال - تعالى -: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44].
وسببُ كفر مشركي قريش قديمًا أنهم جحدوا حقَّ السيادة والطاعة لله - عزَّ وجلَّ - فكانوا يقرُّون أن الله - عزَّ وجلَّ - هو الذي خلقهم ورزقهم، كما حكى عنهم القرآن الكريم، فقال: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [الزخرف: 87]، وكانوا يقرون كذلك أنه يملك تدبير الكون والأرض والسموات، ولكنهم جحدوا أن يَسري حكمُه عليهم، فقالوا: يسوِّي بين الحر والعبد، والغني والفقير، والعظيم والحقير؟!
وكانوا أهلَ جاهلية، لا يعرفون قدرَ الله - عزَّ وجلَّ - وعظمةَ صفاتِه وكمالَها، حتى كان أحدُهم يقول لصاحبه يومًا عند الكعبة: أتدري أن الله يسمعُ ما نقول، فقال الآخر: ما نجهر به يسمعه، أما ما نُسِرُّ به فلا يسمعه، وهذا ظن الجاهلية الذي أهلكهم.
وعدَّدَ الشيخ بعد ذلك ذكْر صفاتِ الله - عزَّ وجلَّ - وأسمائه، وأهميةِ الإيمان بها، ولكن - قبل الخوض في ذلك - نذْكر القواعدَ التي استنبطها العلماءُ للإيمان بأسماء الله - عزَّ وجلَّ - وصفاته:
أولاً: قواعد الإيمان بأسمائه - سبحانه وتعالى -:
1- أسماء الله - عزَّ وجلَّ - لا تنحصر في تسعة وتسعين اسمًا فقط كما هو شائع بين كثير من الناس؛ لحديث: ((إن لله تسعةً وتِسعين اسمًا، مَن أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر))؛ متفق عليه.
بل إنها لا تُحصى، كما جاء في الحديث عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حديث دفع الهم، وفيه: ((أسألك بكل اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علمتَه أحدًا من خلقك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك...)).
فدَلَّت هذه العبارة على أن لله - عزَّ وجلَّ - أسماءً لا يعرفها البشر؛ بل استأثر الله - عزَّ وجلَّ - بعلمها.
2- أن من أسماء الله - عزَّ وجلَّ - ما لا يطلق إلا مقترنًا بمقابله، فإن أُطلق وحده أوهم نقصًا - تعالى الله عن ذلك - ومن هذه الأسماء: (المعطي، المانع)، (الضار، النافع)، (المعز، المذل)، (الخافض، الرافع)، (القابض، الباسط)؛ إذ لم تُطلق في الوحي إلا كذلك.
3- المنتقم لم يأتِ في القرآن إلا مع (ذو)؛ كقوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [آل عمران: 4] أو مقصورًا على المجرمين، قال - تعالى -: ﴿ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ﴾ [السجدة: 22].
4- هناك أفعال وردت في القرآن، هي في سياقها الذي سِيقتْ فيه تُفيد المدح والكمال، ولكن لا يجوز أن يُشتق لله - عزَّ وجلَّ - منها أسماءٌ، أو تُطلق في سياق غير السياق الذي جاءت فيه، مثل قول الله - تعالى -: ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ [البقرة: 15]، فلا يصح أن يقال عن الله: (المستهزئ)، وقوله - تعالى -: ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 54]، فهو خير الماكرين سبحانه، ولكن لا يسوغ أن يُقال: هو (ماكر)، وقوله - تعالى -: ﴿ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ [التوبة: 67]، فلا يُقال عن الله: (ناسٍ).
5- دلالة أسماء الله - عزَّ وجلَّ - حقٌّ على حقيقتها مطابَقةً وتضمنًا والْتزامًا.
فدلالة اسم (الرحمن) على الله - عزَّ وجلَّ - مطابقةً، وعلى صفة الرحمة تضمنًا، وعلى صفة الحياة وغيرها التزامًا.
فالله - عزَّ وجلَّ - هو الرحمن، قال - تعالى -: ﴿ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ﴾ [الإسراء: 110]، وكذلك فالاسمُ يتضمن صفةً، وليس جامدًا لا يعبر عن معنًى كبعض أسماء البشر، وكذلك فيلزم من كونه الرحمن أن يكون حيًّا قادرًا حكيمًا عليمًا.
6- معنى كلمة "أحصاها"؛ أي: حفظها وأطاقها وتعبَّد لله بها، فيحفظها إن استطاع، وما كان يطيق أن يتصف بشيء منه فليفعل، فإذا علم أن الله من أسمائه: الكريم، حاول أن يكون كريمًا، وإذا علم أن من أسمائه الحكيمَ حاول أن يكون حكيمًا، وهكذا.
وأما العبادة فيجتهد في تحصيل آثار هذه الأسماء في قلبه، ويدعو الله بها.