إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فقد أمرنا الله تعالى بالسعي في طلب الرزق الحلال، ويسَّر طلب الرزق لعباده، قال سبحانه: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ [الملك: 15].
وأمر الله تعالى باختيار الطيب مما في الأرض، فقال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172].
ونحن أيها الأحبة مسؤولون عن نعمة المال من جهتين، من جهة كسبه، ومن جهة إنفاقه، فعن أبي برزة الأسلمي، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ »؛ أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
أيها الأحبة الكرام، لقد تساهل كثير من الناس في الكسب وأخذ المال من غير حلِّه دون مبالاة ولا خوف من الله تعالى، حتى ظن بعض الناس أن الحلال ما حل في أيديهم، فيأكل الحرام وربما يطعم أبناءه من المال الحرام عياذًا بالله، ولقد أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِي المَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الحَلاَلِ أَمْ مِنَ الحَرَامِ»؛ رواه البخاري في صحيحه.
وفيما يلي جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من الكسب المحرم:
عن كعب بن عجرة، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعيذُكَ باللَّهِ يا كعبُ بنَ عُجرةَ من أمراءَ يَكونونَ من بعدي فمن غشِيَ أبوابَهم فصدَّقَهم في كذبِهم وأعانَهم على ظُلمِهم فليسَ منِّي ولستُ منهُ ولا يرِدُ عليَّ الحوضَ ومن غشيَ أبوابَهم أو لم يغشَ ولم يصدِّقهم في كذبِهم ولم يُعِنهم على ظلمِهم فَهوَ منِّي وأنا منهُ وسيَرِدُ عليَّ الحوضَ يا كعبُ بنَ عُجرةَ الصَّلاةُ برهانٌ والصَّومُ جنَّةٌ حصينةٌ والصَّدَقةُ تطفئُ الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النَّارَ يا كعبُ بنَ عُجرةَ إنَّهُ لا يربو لحمٌ نبتَ من سحتٍ إلَّا كانتِ النَّارُ أولى بِهِ؛ أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
وعن جُنْدَبٍ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ: وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَقَالُوا: أَوْصِنَا. فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهَرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ »؛ أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟ »؛ رواه مسلم في صحيحه.
وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا »؛ رواه البخاري.
وعن أبي هريرة أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ مَرَّ علَى صُبْرَةِ طَعامٍ، فأدْخَلَ يَدَهُ فيها، فَنالَتْ أصابِعُهُ بَلَلًا، فقالَ: « ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ » قالَ: أصابَتْهُ السَّماءُ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: « أفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعامِ كَيْ يَراهُ النَّاسُ، مَن غَشَّ فليسَ مِنِّي »؛ أخرجه مسلم.
واعلموا - رحمكم الله وغفر لكم - أن من صور المعاملات المحرمة الميسر الذي قال الله تعالى عنه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ﴾ [المائدة: 90 – 91].
قال ابن عثيمين رحمه الله تعالى موضِّحًا بعض صور الميسر: "لا يجوز للإنسان أن يستقدم عمالًا، أو تجارًا، أو أن يتفق مع شخص من أهل البلد على أن يتجر في هذا الدكان، ويعطيه كل شهر كذا وكذا، ويكون بقية الربح لهم، فإن هذا من الميسر؛ لأنه قد يربح الدكان ربحًا كثيرًا تكون النسبة التي اتفقوا عليها قليلة بالنسبة إلى هذا الربح، وقد لا يربح إلا قليلًا فتكون النسبة كثيرة، وقد لا يربح شيئًا أبدًا وقد يخسر فهذا العقد متضمن للقاعدة الميسرية، وهي: إما غانم وإما غارم، فلا يحل ولا يجوز". انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
معاشر الأحبة الكرام:
ما أجمل أن يسير المسلم في حياته على نور من الله، يعلم الحلال فيأتيه، ويذر الحرام ويتركه، ويتقي الشبهات ويجتنبها، ويسأل أهل العلم عما يشكل عليه عملا بقول الله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].
فاحذر - أخي الحبيب - من كل كسب محرم خبيث، ولا تغرنك الدنيا الفانية، فإنها سراب خادع ولذة عابرة، والمال فيها ظل زائل وعارية مستردة.
واعلم - وفقك الله وسددك - أنك إن اتقيت الله رزقك من حيث لا تحتسب، كما وعد ربنا سبحانه بقوله: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنَّك لن تدع شيئًا اتقاءَ الله تبارك وتعالى، إلا آتاك الله خيرًا منه »؛ رواه أحمد وصحَّحه الألباني.
وأعلم - بوركت - أن القليل الحلال خير من الكثير الحرام، ولا تغتر بمن استدرجه الله، فأغدق عليه الأموال وهو لا يتورع عن الحرام، فإن الله يُمهل ولا يهمل، وليس كثرة المال دليلًا على رضا الله عن العبد؛ فالغنى الحقيقي غنى النفس، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكن الغِنَى غِنى النَّفْس »؛ أخرجه البخاري.