عن ثابت بن الضحاك الأنصاري - رضي الله عنه - أنه بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم – تحت الشجرة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا، فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر فيما لا يملِك"
وفي رواية: "لعن المومن كقتله"
وفي رواية: "من ادعى دعوى كاذبة ليستكثر بها لم يزده الله إلا قلة".
قوله: (من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا، فهو كما قال).
قال الحافظ: (الملة: الدين والشريعة، وهي نكرة في سياق الشرط، فتعم جميع الملل من أهل الكتاب كاليهودية والنصرانية، ومن لحق بهم من المجوسية والصابئة، وأهل الأوثان والدهرية والمعطلة وعبدة الشياطين والملائكة وغيرهم.
قال ابن المنذر: اختلف فيمن قال: أكفر بالله ونحو ذلك، إن فعلت ثم فعل، فقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وقتادة، وجمهور فقهاء الأمصار لا كفارة عليه، ولا يكون كافرًا إلا أن أضمر ذلك بقلبه، وقال الأوزاعي والثوري والحنفية وأحمد وإسحاق هو يمين، وعليه الكفارة، قال ابن المنذر: والأول أصح لقوله: مَن حلف باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله، ولم يذكر كفارة زاد غيره، ولذا قال: من حلف بملة غير الإسلام، فهو كما قال، فأراد التغليظ في ذلك؛ حتى لا يجترئ أحد عليه، وقال بعض الشافعية: ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبًا، والتحقيق التفصيل، فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر، وإن قصد حقيقة التعليق، فينظر فإن كان أراد أن يكون متصفًا بذلك كفر؛ لأن إرادة الكفر كفر، وإن أراد البعد عن ذلك لم يكفر، قال عياض: يستفاد منها أن الحالف المتعمد إن كان مطمئن القلب بالإيمان وهو كاذب في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه، لم يكفر، وإن قاله معتقدًا لليمين بتلك الملة، لكونها حقًّا كفر، وإن قالها لمجرد التعظيم لها احتُمِلَ)[1].
قال الحافظ: (وينقدح بأن يقال: إن أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النسخ، لم يكفر أيضًا، قال: ولهذه الخصلة في حديث ثابت بن الضحاك شاهد من حديث بريدة أخرجه النسائي وصححه من طريق الحسين بن واقد عن عبدالله بن بريدة عن أبيه رفعه من قال: إني بريء من الإسلام فإن كان كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا لم يعد إلى الإسلام سالِمًا؛ يعني إذا حلف بذلك.
قوله: (ومن قتل نفسه بشيء عُذِّب به يوم القيامة)، وفي رواية: "عذب به في نار جهنم".
قال ابن دقيق العيد: هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية، ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم؛ لأن نفسه ليست ملكًا له مطلقًا، بل هي لله تعالى، فلا يتصرف فيها إلا بما أذن له فيه)[2].
قوله: (وليس على رجل نذر فيما لا يملك)
وأخرج مسلم من حديث عمران بن حصين في قصة المرأة التي كانت أسيرة، فهربت على ناقة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فان الذين أسروا المرأة انتهبوها، فنذرت إن سلمت أن تنحرها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم، ولأبي داود من حديث عمر بلفظ: لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة رحم ولا فيما لا يملك
قال الحافظ: واختلف فيمن وقَع منه النذر في ذلك هل تجب فيه كفارة، فقال الجمهور: لا، وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية: نعم، ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك كالقولين، واتفقوا على تحريم النذر في المعصية، واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة، واحتج من أوجبها بحديث عائشة لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين، أخرجه أصحاب السنن، قال: واستدل بحديث لا نذر في معصية لصحة النذر في المباح؛ لأن فيه نفي النذر في المعصية، فبقِي ما عداه ثابتًا، واحتج من قال أنه يزرع في المباح بما أخرجه أبو داود من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه أحمد والترمذي من حديث بريدة أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال: أوفِ بنذرك، وزاد في حديث بريدة، إن ذلك وقت خروجه في غزوة، فنذرت إن رده الله تعالى سالِمًا، وفي رواية أحمد في حديث بريدة إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا[3]
قال الحافظ: وقد اختلف في جواز الضرب بالدف في غير النكاح والختان، ورجح الرافعي في المحرر، وتبعه في المنهاج الإباحة، والحديث حجة في ذلك
قوله: (لعن المؤمن كقتله)؛ أي: لأنه إذا لعنه فكأنه دعا عليه بالهلاك، وقيل: يشبهه في الإثم[4]. والله أعلم.
تتمة:
قال في الاختيارات: الحالف لا بد له من شيئين من كراهة الشرط وكراهة الجزاء عند الشرط، ومن لم يكن كذلك لم يكن حالفًا سواء قصده الحض والمنع أو لم يكن، قال أصحابنا: فإن حلف باسم من أسماء الله تعالى التي قد يسمى بها غيره وإطلاقه ينصرف إلى الله تعالى، فهو يمين إن نوى به الله أو أطلق، وإن نوى غيره فليس بيمين، قال أبو العباس: هذا من التأويل؛ لأنه نوى خلاف الظاهر، فإن كان ظالِمًا لم تنفعه وتنفع المظلوم، وفي غيرهما وجهان؛ إذ الكلام المحلوف به كالمحلوف عليه، وأظن أن كلام أحمد في المحلوف به نصًّا، قال في "المحرر": فإن قال اسم الله مع الواو أو عدمه أو منصوبًا مع الواو، ويعني في القسم باسم، فهو يمين إلا أن يكون من أهل العربية ولا يريد اليمين.
قال أبو العباس: يتوجه فيمن يعرف العربية إذا أطلق وجهان؛ كما جاء في "الحاسب" و"النحوي" في الطلاق؛ كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة في اثنين، ويتوجه أن هذا يمين بكل حال؛ لأن ربطه جملة القسم يوجب في اللغة أن يكون يمينًا، لكنه لحن لحنًا لا يحيل المعنى، بخلاف مسألة الطلاق قال في "المحرر": وإن قال إيمان البيعة لازمة لي أو تلزمني إن فعلت كذا، فهذه يمين رتبها الحجاج، تتضمن اليمين بالله تعالى، والطلاق والعتاق وصدقة المال، فإن عرفها الحالف ونواها، انعقدت يمينه بما فيها وإلا فلا، وقيل: تنعقد إذا نواها وإن لم يعرفها، وقيل: لا تنعقد إلا بما عدا اليمين بالله بشرط النية، قال أبو العباس: قياس إبمان المسلمين تلزمني أنه عرف إيمان البيعة انعقدت بلا نية، ويتوجه أيضًا أنها تلزمه بكل حال يعرفها وهو مقتضى قول الخرقي وابن بطة
ثم قال صاحب "المحرر": ولو قال إيمان المسلمين تلزمني إن فعلت كذا، ألزمه يمين الظهار والطلاق والعتاق والنذر واليمين بالله، نوى ذلك أو لم ينو؛ ذكره القاضي، وقيل: لا يتناوله اليمين بالله تعالى.
قال أبو العباس: قياس إبمان البيعة تلزمني ألا تنعقد إبمان المسلمين تلزمني إلا بالنية وجمع المسلمين.
كما ذكره صاحب المحرر كأنه من طريقين ولو قال: عليَّ لأفعلنَّ فيمين، لأن هذه لام القسم، فلا تذكر إلا معه مظهرًا أو مقدرًا.
قال في "المحرر": وإن عقدها يظن صدق نفسه، فبان بخلافه، فهو كمن حلف على عدم فعل شيء في المستقبل، ففعله ناسيًا.
قال أبو العباس: وهذا ذهول؛ لأن أبا حنيفة ومالكًا يحنثان الناسي ولا يحنثان هذا؛ لأن تلك اليمين انعقدت بلا شك، وهذه لم تنعقد، ولم يقل أحد: إن اليمين على شيء تغيِّره عن صفته، بحيث توجب إبجابًا أو تحرم تحريمًا لا ترفعه الكفارة، ويجب إبرار القسم على معين، ويحرم الحلف بغير الله تعالى وهو ظاهر المذهب، وعن ابن مسعود وغيره: لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا