بعض المحاذير الشرعية في الأوقاف (1)
بعض المحاذير الشرعية في الأوقاف (1)
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم؛ أما بعد:
ففي هذا المقال ذكر لبعض المحاذير الشرعية في الأوقاف من جهة الواقف، وأقصد بها بعض الأمور المخالفة للشرع، والتي قد يقع فيها الواقف في وقفه؛ منها:
أولًا: ألا يبتغي الواقف بوقفه وجه الله عز وجل: كأن يوقف من أجل جاه أو شهرة أو ليقال: فلان أوقف كذا؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضيَ الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: ((إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل تعلم العلم، وعلمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم، وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن يُنفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحب على وجهه، ثم أُلقي في النار))[1].
ثانيًا: أن يقصد الواقف من الوقف الإضرار بالورثة كحرمانهم من الميراث:
وهذا مخالف لقول الله تعالى في الوصية: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا ﴾ [النساء: 12]؛ أي: لتكون وصيته على العدل، لا على الإضرار والجور والحيف بأن يحرم بعض الورثة، أو ينقصه، أو يزيده على ما قدر الله له من الفريضة، فمتى سعى في ذلك، كان كمن ضاد الله في حكمته وقسمته[2].
ومخالف أيضًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلَّم؛ لحديث سعد بن أبي وقاص رضيَ الله عنه لما قال له النبي صلى الله عليه وسلَّم: ((إنك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك))[3].
وعليه؛ فلا يجوز للواقف أن يقصد بوقفه الإضرار بورثته، بل يحرص على إخلاص النية لله تبارك وتعالى.
ثالثًا: أن يشترط الواقف شرطًا مخالفًا للشرع:
مما لا شك فيه أن شرط الواقف لا يجوز العمل بموجبه إذا خالف الشرع، ولذلك نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إجماع الأمة على أن من شروط الواقفين ما هو صحيح معتبر يعمل به، ومنها ما ليس كذلك[4].
ولذلك فسر كثير من العلماء قول الفقهاء: "شروط الواقف كنصوص الشارع"، بأنها كالنصوص في المفهوم والدلالة على مراد الواقف، لا في وجوب العمل بها[5].
فلم يُجزْ أحد من أهل العلم العمل بشروط الواقف إذا خالفت شرع الله تعالى، سواء في ذلك الحنفية[6]، والمالكية[7]، والشافعية[8]، والحنابلة[9]، وغيرهم من أهل العلم.
قال الكمال ابن الهمام الحنفي رحمه الله: "شرائط الواقف معتبرة إذا لم تخالف الشرع، والواقف مالك، له أن يجعل ملكه حيث شاء ما لم يكن معصية"[10].
وقال الدردير المالكي رحمه الله: "واتبع وجوبًا شرطه إن جاز شرعًا، ومراده بالجواز: ما قابل المنع"[11].
وقال ابن حجر الهيثمي الشافعي رحمه الله: "إن قلت شرائط الواقف مراعى كنص الشارع، قلت: محل مراعاته حيث لم يخالف غرض الشارع"[12].
وقال: "أما ما خالف الشرع كشرط العزوبة في سكان المدرسة - مثلًا - فلا يصح"[13].
وقال البلباني الحنبلي رحمه الله: "ويجب العمل بشرط الواقف إن وافق الشرع"[14].
وقال ابن القيم رحمه الله: "وكذلك الإثم مرفوع عمن أبطل من شروط الواقفين ما لم يكن إصلاحًا، وما كان فيه جنف[15]، أو إثم، ولا يحل لأحد أن يجعل هذا الشرط الباطل المخالف لكتاب الله بمنزلة نص الشارع، ولم يقل هذا أحد من أئمة الإسلام، بل قد قال إمام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق))[16].
فإنما ينفذ من شروط الواقفين ما كان لله طاعة، وللمكلف مصلحة، وأما ما كان بضد ذلك، فلا حرمة له كشرط التعزب والترهب المضاد لشرع الله ودينه... والمقصود: أن الله تعالى رفع الإثم عمن أبطل الوصية الجانفة الآثمة، وكذلك هو مرفوع عمن أبطل شروط الواقفين التي هي كذلك، فإذا شرط الواقف القراءة على القبر، كانت القراءة في المسجد أولى وأحب إلى الله ورسوله وأنفع للميت، فلا يجوز تعطيل الأحب إلى الله الأنفع لعبده، واعتبار ضده"[17].
وعلى كل حال: فإن ما يختلف فيه العلماء من اعتبار بعض الشروط أو ردها، فإنما هو ناتج عن اختلافهم هل هي من الشروط المخالفة لأمر الله تعالى، أو من الشروط المرغوبة عند الشارع، أو من الشروط المباحة، فالجميع متفقون على عدم اعتبار ما خالف الشرع - وإن اختلفوا في ضابط ما خالف الشرع - كما أن الجميع متفقون على مراعاة ما وافق الشرع، واختلفوا في اعتبار ما ليس بمكروه ولا مستحب، والله أعلم[18]؛ ا.هـ.
رابعًا: أن يرجع الواقف في وقفه:
ذهب الفقهاء إلى أن الوقف متى أصبح لازمًا، فلا يجوز الرجوع فيه، فلا يباع ولا يرهن، ولا يوهب ولا يورث، ولكن الفقهاء اختلفوا فيما لو شرط حين الوقف أن له الرجوع فيه، أو شرط أن له الخيار، فذهب الحنابلة والشافعية في الصحيح إلى أنه لا يصح الشرط ولا الوقف، فيكون الوقف باطلًا، وفي احتمال عند الحنابلة والشافعية ذكره ابن سريج أنه يصح الوقف ويبطل الشرط[19].
قال النووي: "لو وقف بشرط الخيار أو قال: وقفت بشرط أني أبيعه أو أرجع فيه متى شئت، فباطل، واحتجوا له بأنه إزالة ملك إلى الله سبحانه وتعالى كالعتق، أو إلى الموقوف عليه كالبيع والهبة، وعلى التقديرين، فهذا شرط مفسد، وقال ابن قدامة: إنْ شرط الواقف أن يبيع الموقوف متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه، لم يصح الشرط ولا الوقف؛ لأنه ينافي مقتضى الوقف ويحتمل أن يفسد الشرط، ويصح الوقف بناء على الشروط الفاسدة في البيع، وإن شرط الخيار في الوقف فسد، نص عليه أحمد؛ لأنه شرط ينافي مقتضى العقد فلم يصح، ولأنه إزالة ملك لله تعالى، فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالعقد"[20].
واختلف فقهاء الحنفية فيما لو شرط الواقف الخيار لنفسه حين الوقف، فإن كانت مدة الخيار معلومة كأن قال: وقفت داري هذه على كذا على أني بالخيار ثلاثة أيام، فعند أبي يوسف يجوز الوقف والشرط؛ لأنه لا يشترط تمام القبض عنده، فيجوز شرط الخيار.
وقال محمد: الوقف باطل؛ لأنه يشترط عنده تمام القبض لينقطع حق الواقف، وباشتراط الخيار يفوت هذا الشرط، واختار هلال قول محمد.
وفي رواية أخرى عن أبي يوسف أن الوقف جائز، والشرط باطل، وهو قول يوسف بن خالد السمتي؛ لأن الوقف كالإعتاق في أنه إزالة الملك لا إلى مالك، ولو أعتق على أنه بالخيار عتق وبطل الشرط، فكذا يجب هذا.
وإن كانت مدة الخيار مجهولة، بأن وقف على أنه بالخيار دون تحديد مدة الخيار، فالوقف والشرط باطلان بالاتفاق، هكذا ذكر الكمال بن الهمام في فتح القدير، لكن الطرابلسي ذكر في الإسعاف أن يوسف بن خالد السمتي قال: الوقف جائز والشرط باطل، على كل حال[21].
ولو قال الواقف حين الوقف: على أن لي إبطاله أو بيعه أو رهنه، أو على أن لفلان أو لورثتي أن يبطلوه أو يبيعوه وما أشبه ذلك، كان الوقف باطلًا على قول الخصاف وهلال، وجائزًا على قول يوسف بن خالد السمتي لإبطاله الشرط بإلحاقه إياه بالعتق[22].
وما مر من الخلاف عند الحنفية في شرط الخيار أو البيع أو الهبة وما أشبه ذلك حين الوقف، إنما هو في غير وقف المسجد، أما في وقف المسجد لو اشترط أنه بالخيار أو اشترط إبطاله أو بيعه، صح الوقف وبطل الشرط باتفاق[23].
وعند المالكية قال الدسوقي: يلزم الوقف ولو لم يحز، فإذا أراد الواقف الرجوع في الوقف، لا يمكن من ذلك، وإذا لم يحز عنه، أجبر على إخراجه من تحت يده للموقوف عليه، ثم قال: واعلم أنه يلزم، ولو قال الواقف: ولي الخيار كما قال ابن الحاجب، وبحث فيه ابن عبدالسلام بأنه ينبغي أن يوفى له بشرطه، كما قالوا: أنه يوفى له بشرطه إذا شرط أنه إن تسور عليه قاضٍ رجع له، وأن من احتاج من المحبس عليهم باع[24].
وقال الدردير: إذا شرط الواقف لنفسه الرجوع أو البيع إن احتاج له فله ذلك[25]؛ ا.هـ.
وعلى هذا لا يجوز للواقف الرجوع في وقفه حتى لو شرط لنفسه ذلك؛ لأنه إزالة ملك لله تعالى، والله أعلم.
خامسًا: أن يكون الواقف غير جائز التصرف (صبي دون الحلم – مجنون أو معتوه -محجور عليه لسفه أو لغفلة – عبد):
يشترط أن يكون الواقف جائز التصرف، ويقصد به صلاحية الشخص لممارسة الأعمال التي يتوقف اعتبارها الشرعي على العقل، إذ لا بد أن تتوافر في الواقف الشروط التالية[26]:
1- العقل: فلا يصح وقف المجنون؛ لأنه فاقد العقل، ولا وقف المعتوه؛ لأنه ناقص العقل، ولا وقف مختل العقل بسبب مرض أو كبر؛ لأنه غير سليم العقل؛ لأن كل تصرف يتطلب توافر العقل والتمييز[27].
2- البلوغ: فلا يصح وقف الصبي، سواء أكان مميزًا أم غير مميز؛ لأن البلوغ مظنة كمال العقل، ولخطورة التبرع[28].
3- الرشد: فلا يكون محجورًا عليه لسفه أو غفلة، وأجاز بعض الفقهاء وقفه في حالة واحدة، وهي أن يقف على نفسه أو على جهة بر وخير، لأن في ذلك مصلحة له بالمحافظة عليها[29].
4- الاختيار: فلا يصح وقف المكره[30].
5- الحرية: فلا يصح وقف العبد؛ لأنه لا ملك له؛ ا.هـ.
كانت هذه بعض الأمور المخالفة للشرع، والتي قد يقع فيها الواقف في وقفه، فليتنبه لها، ولنذكر الناس بها، و((من دل على خير فله مثل أجر فاعله))[31]، ويتبع إن شاء الله تعالى بمقال آخر يتناول بعض المحاذير الشرعية المتعلقة بالمال الموقوف.
وصلى الله وسلم، وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|