الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده.
لم تكن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم خاصَّة بالآدميين، وإنما هي رحمةٌ عامة، وصل مداها إلى البهائم والعجماوات، بل وحتى الجمادات، وهو صلى الله عليه وسلم في هذا كان أُسوةً للعالمين من المسلمين وغير المسلمين، فسيرته - صلى الله عليه وسلم - العطرة مضرب المَثَل، وأقواله وأفعاله المباركة التي حُصِرَت في هذا الجانب كانت مثار العجب؛ إذْ كيف بهذا النبيِّ المشغول بدعوته ورسالته وتعليم الناس دينَهم، والمشغول كذلك بحرب أعدائه والدفاع عن عقيدته ودينه، والمشغول بقيادة أُمَّته، وسياسة دولته، ورعاية شؤون رعيَّته، وغير ذلك من المهام الجِسام، والأمور العظام، كيف به لا ينسى هذه المخلوقات التي لم يُؤْبَه لها، ولم يُنظر إليها بعين الشفقة والرحمة إلاَّ في ظلِّ تعاليم النبيِّ صلى الله عليه وسلم ومَن اتَّبعه من المسلمين، مُحْرِزين بذلك قَصَب السَّبق على تلك المدَنيَّة الغربية الوهمية التي أعلت من شأن الحيوان، وجعلت له حقوقاً، وأنشأت من أجله الجمعيات والمؤسسات والمستشفيات الخيرية، وفي نفس الوقت استباحت تشريد الضعفاء من بني الإنسان في كلِّ مكان، فأظهرت اعوجاجَ منهجِها.
وقد تعدَّدت مظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم بالبهائم والعجماوات، وسُنَّته مليئةٌ بالمواقف التي تدل على هذه الرحمة، كما أنَّ شريعته مليئةٌ بالأحكام المتعلقة بها، فلم ينسَ النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم أنْ يضع ضمن منهجه الشمولي المتكامل الذي شمل كلَّ مناحي الحياة وجوانبها، لم ينس أحكام التعامل مع هذه العجماوات، وكتبُ الفقه مليئةٌ بالأحكام المتعلِّقة بها، ممَّا يدلُّ على رُقِيِّ الإسلام ونبيِّ الإسلام، وكذا رحمته ورأفته بالحيوانات، والأمثلة على ذلك كثيرة، ونذكر منها:
نماذج من رحمته صلى الله عليه وسلم بالحيوانات:
1- نهيه عن اتخاذ الحيوانات هدفاً.
أ- عن أنسِ بنِ مالكٍ - رضي الله عنه؛ أنَّه دَخَلَ دَارَ الْحَكَمِ بنِ أَيُّوبَ فَرَأَى غِلْمَانًا - أو فِتْيَانًا - نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا، فقال أَنَسٌ: (نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ)[1].
ب- عن جابرِ بنِ عبد الله - رضي الله عنه - قال: (نَهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْتَلَ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ صَبْرًا)[2].
وصبر البهائم: أنْ تُحْبَسَ وهي حيَّةٌ؛ لِتُقتَل بالرمي ونحوه[3].
ج- عن ابنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (لاَ تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا)[4]. والمعنى: لا تتخذوا الحيوانَ الحيَّ غَرَضًا ترمون إليه، أي: هدفاً للرمي فيُرمى إليه بالنُّشَّاب، وهي السِّهام[5].
2- نهيه عن أخذ فراخ الطائر:
عن عبد الله بنِ مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: كُنَّا مَعَ رَسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتْ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (مَنْ فَجَعَ هذه بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا)[6].
3- حثه على الإحسان في ذبح البهائم:
عن شَدَّادِ بن أَوْسٍ - رضي الله عنه؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فإذا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وإذا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)[7].
4- نهيه عن حدِّ السكين بحضرة الذبيحة:
عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: مَرَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ وَاضِعٍ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ، وهو يَحُدُّ شَفْرَتَهُ، وَهِيَ تَلْحَظُ إليه بِبَصَرِها، فقال: النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (أتُريدُ أَنْ تُمِيتَها مَوْتَاٍت؟! هَلاَّ حَدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا؟)[8].
5- نهيه عن قطع اللحم من الحيوان الحي:
عن أبي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ - رضي الله عنه - قال: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ؛ وَهُمْ يَجُبُّونَ أَسْنِمَةَ الإِبِلِ، وَيَقْطَعُونَ أَلْيَاتِ الْغَنَمِ، فقال: (مَا قُطِعَ مِنَ الْبَهِيمَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ؛ فَهِيَ مَيْتَةٌ)[9].
فيَا لِهذا الخُلُقِ العظيم، ويَا لِصاحب هذه الرحمة! تأمَّل أخي؛ لم يكتفِ أنْ يرحمَ الحيوانَ بتحريم إيذائه، وتعذيبه وقتلِه صبراً، حتى بلغت رحمتُه أن يرحم الحيوان في مشاعره، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنَّ هذا الطائر يتألَّم بفَقْدِ فرخيه، فيطلب من أصحابه أنْ يردُّوا عليه فرخيه؛ دفعاً لإيذائه، ومراعاةً لمشاعر الأمومة التي يحملها، ثم يؤكِّد على امتلاك الحيوان لمشاعر وأحاسيس، منها شعور الخوف والألم النفسي، فينهى عن أن تُحدَّ السكين بحضرة الذبيحة.
6- رحمته بالجمادات:
ومن ملامح الرحمة التي لا يُمكن أنْ يمتلكَها إلاَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: رحمتُه بالجماد، فها هو صلى الله عليه وسلم يحضن جذع النخل الذي كان يخطُب عليه، فبكى لِفراقه؛ كما جاء عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِلَى جِذْعٍ، فَلَمَّا اتَّخَذَ الْمِنْبَرَ تَحَوَّلَ إِلَيْهِ، فَحَنَّ الْجِذْعُ، فَأَتَاهُ، فَمَسَحَ يَدَهُ عَلَيْهِ)[10]، وها هو صلى الله عليه وسلم يتحدَّث عن أُحُدٍ، فيقول: