وقفات مع قوله جل جلاله : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم )
وقفة مع قول الله تعالى
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ... ﴾
كان في بداية فرض الصيام أن من نام بالليل، لم يأكل ولم يشرب ولم يقرب امرأته حتى الليلة الآتية، فكان الصيام يبتدئ من النوم لا من طلوع الفجر، ثم إن ناسًا أتوا نساءهم، وأخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة تبيح لهم الأكل والشرب والجماع طوال الليل إلى طلوع الفجر، وأخبرهم أن ما بيَّنه لهم من الواجبات والمحرمات هي حدوده تعالى؛ فلا يحل القرب منها ولا تعديها، وبيان الشرائع والأحكام والحدود بما يوحيه إلى رسوله من الكتاب والسنة؛ ليعد بذلك المؤمنين للتقوى؛ إذ لا يمكن أن تكون تقوى، ما لم تكن شرائع تتبع، وحدود تحترم.
﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ ﴾ بمعنى الإفضاء ﴿ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ بالجماع، نزل نسخًا لما كان في صدر الإسلام على تحريمه وتحريم الأكل والشرب بعد العشاء ﴿ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ﴾ كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ ﴾ تخونون ﴿ أَنْفُسَكُمْ ﴾ بالجماع ليلة الصيام، وقع ذلك لعمرَ وغيره، واعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ ﴾ قبل توبتكم ﴿ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ ﴾ إذ أحل لكم ﴿ بَاشِرُوهُنَّ ﴾ جامعوهن ﴿ وَابْتَغُوا ﴾ اطلبوا ﴿ مَا كَتَبَ اللَّهُ ﴾؛ أي: أباحه من الجماع أو قدَّره من الولد ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ﴾ الليل كله ﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ﴾ يظهر ﴿ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾؛ أي: الصادق؛ بيان للخيط الأبيض، وبيان الأسود محذوف؛ أي: من الليل، شبَّه ما يبدو من البياض وما يمتد معه من الغبش بخيطين أبيض وأسود في الامتداد ﴿ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ ﴾ من الفجر ﴿ إِلَى اللَّيْلِ ﴾؛ أي: إلى دخوله بغروب الشمس ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ ﴾؛ أي: نساءكم ﴿ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ ﴾ مقيمون بنية الاعتكاف ﴿ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ متعلق بعاكفون، نهي لمن كان يخرج وهو معتكف فيجامع امرأته ويعود ﴿ تِلْكَ ﴾ الأحكام المذكورة ﴿ حُدُودُ اللَّهِ ﴾ حدَّها لعباده؛ ليقفوا عندها ﴿ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ أبلغُ من: لا تعتدوها، المعبَّر به في آية أخرى ﴿ كَذَلِكَ ﴾ كما بين لكم ما ذكر ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ محارمه[1].
قال ابن عباس في رواية الوالبي: وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء، حرُم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسًا من المسلمين أصابوا من الطعام والنساء في شهر رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية[2].
أخبرنا سعيد بن محمد الزاهد قال: أخبرنا جدي قال: أخبرنا أبو عمرو الحيري قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا ابن أبي مريم قال: أخبرنا أبو غسان قال: حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد قال: نزلت هذه الآية: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ [البقرة: 187] ولم ينزل: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعد ذلك: ﴿ مِنَ الْفَجْرِ ﴾، فعلموا أنه إنما يعني بذلك الليل والنهار؛ رواه البخاري عن ابن أبي مريم، ورواه مسلم عن محمد بن سهل عن أبي مريم [3].
اللغة[4]:
• ﴿ الرفث ﴾ بفتحتين: كلام يقع وقت الجماع بين الرجال والنساء، يُستقبح ذكره في وقت آخر، وأطلق على الجماع للزومه له غالبًا، وفي المصباح: رفث في منطقه رفثًا من باب طلب، ويرفِث بالكسر لغة. والرفث: النكاح؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، وفي الأساس واللسان: وقيل: الرفث بالفرج الجماع، وباللسان المواعدة للجماع، وبالعين الغمز للجماع. والأصل في تعدية الرفث بالباء، وإنما جاءت تعديته في الآية بإلى؛ لتضمينه معنى الإفضاء.
• ﴿ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾: تخونون أنفسكم وتنقصونها حظها من الخير، واشتقاق الاختيان من الخيانة كالاكتساب من الكسب، وفيه زيادة وشدَّة.
شرح الكلمات[5]:
﴿ لَيْلَةَ الصِّيَامِ ﴾: الليلة التي يصبح العبد بعدها صائمًا.