المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مالك بن نبي


رحيل
01-13-2020, 07:51 PM
https://www.9ory.com/uploads-01-2020/9ory-com_157875660481951.gif





مالك بن نبي
خالد سعد النجار

يعدّ “مالك بن نبي”واحداً من أعلام الفكر الإسلامي الذين حجب فكرهم عن الناس عدم اهتمام الدارسين بهم..إنه المفكر العملاق الذي نذر حياته في خدمة القضايا الإنسانية العادلة ابتداء منالقضية الجزائرية إلى القضايا القومية والإسلامية وانتهاء بمعضلات العالم الثالث، فلقد أمضى أكثر من ثلاثين عاماً متأملاً يحلّل ويضع شروط النهضة للمجتمع الإسلامي، ورغم التعتيم والتهميش الذي مورس ضده حياً وميتاً، إلا أن فكره بقي حياً يُقرأ وأفكارهما زالت تنبض بالحيوية والفعالية، تتداولها أجيال ما بعد الاستقلال في الجزائر وفيالعالم الإسلامي برمته.
ولد “مالك بن نبي”عام (1905م) في قسنطينة بشرق الجزائر في أسرةفقيرة، بين مجتمع جزائري محافظ، في تلك الفترة التي شهدت أحداثاً كبيرة في تاريخ الجزائر وتاريخ الدول العربية، فقد سقطت الخلافة العثمانية واحتلت فرنسا الجزائر وبسطت هيمنتها على تونس والمغرب وكانت معظم الدول العربية تحت الاستعمار وما ترتب على ذلك من ردود الأفعال سواء في شكل حركات جهادية للتحرر أو دعوات إصلاحية.
وكانت مراحل دراسته الابتدائية والثانوية بين مدينتي (تِبِسّة) و (قسنطينة)، فتتلمذ في المدرسة نفسهاعلى أساتذة وطنيين، في العربية، زرعوا في نفسه بذرة العمل الوطني، كما درس على أساتذة فرنسيين عنصريين، أشعروه بالخطر الاستعماري الفرنسي لمسخ الشخصية الإسلاميةالعربية في الجزائر، وتشويه تاريخ الوطن.
حفظ القرآن في الكتّاب في المرحلة الابتدائية وواصل تعليمه إلى المرحلة الثانوية حيث اشتد شغفه بالاطلاع والثقافة.. وإلى جانب تعلمه في المرحلة الثانوية كان يتلقى دروساً في اللغة العربية على يد “الشيخ عبد المجيد”الذي أثر في تكوينه الفكري وغرس فيه حاسة النقد الاجتماعي، كما تأثر أيضاً - كما يذكر في مؤلفاته- في المدرسة الثانوية بالسيد “مارتن”الذي أسهم في إثراء حصيلة تلامذته ومنهم “مالك بن نبي”بالمفردات اللغوية وغرس فيهم ملكة التعبير وتذوقه وحبب إليهم المطالعة.
وفي هذه المرحلة أيضاً بدأت تتبلور أفكاره وتتحدد رؤيته السياسية والاجتماعية فقد تأثر بالمناخ الثقافي الذي كان يسود منطقة الشرق الجزائري في القسنطينة حيث شاعت فيها روح الإصلاح والثقافة العربية والاتصال بالمشرق العربي، وحيث كان الشيخ “عبد الحميد بن باديس”يقوم بمهمته الإصلاحية بالإضافة إلى ما اكتسبه من قراءته للصحف بمختلف اتجاهاتها (الشهاب) و(الإقدام) و(الإنسانية).
سافر عام (1925م) إلى مرسيليا وليون وباريس بحثاً عن عمل ولكن دون جدوى، فعاد إلى الجزائر حيث عمل في تِبسَّة مساعد كاتب في المحكمة، وأتاح له عمله هذا الاحتكاك بمختلف شرائح المجتمع أيام الاستعمار مما ساعده على تفسير ظواهر مختلفة فيما بعد.
وفي عام (1928م) تعرّف مالك بن نبي على الشيخ “عبد الحميد بن باديس”(1887- 1940م)، وعرف قيمته الإصلاحية.
وفي عام (1350هـ -1930م) وكانت فرنسا تحتفل بعيدها المئوي لاحتلال الجزائر اضطر مالك بن نبي للسفر إلى فرنسا مرة أخرى وحاول الالتحاق “بمعهد الدراسات الشرقية”، أملاً في التخرج محامياً، فهيأ نفسه لامتحان الدخول، وانتظره هنالك واستعدّ له، ثم اجتازه وكله ثقة في النجاح، لكن النتيجة كانت خيبة الأمل المقررة مسبقاً، فقال عنها: “لقد طلبني مدير المعهد، وفي هدوء مكتبه الوقور شرع يشعرني بعدم الجدوى في الإصرار على الدخول لمعهده، فكان الموقف يجلي لنظري بكل وضوح هذه الحقيقة: إن الدخول لمعهد الدراسات الشرقية لا يخضع بالنسبة لمسلم جزائري لمقياس علمي وإنما لمقياس سياسي، ونزلت كلمات المدير على طموحي نزول سكين المقصلة على عنق المعدوم.. وفي ذلك اليوم لم يتحطم فقط أملي، بل شعرت أن حلم والدتي ووالدي قد تحطم أيضاً على صخرة الإرادة المقررة في خبايا الدوائر الاستعمارية في فرنسا مثلما في الجزائر”
وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه نتيجة امتحان الدخول لهذا المعهد، زار متحفاً للفنون والصناعات كان سبباً في تفكيره لأول مرة في مشكلة الحضارة عندما شاهد عينات التقنية من القاطرة البخارية الأولى والطائرة، وكما كان للوقائع المفاجئة أثرها في تأكيد مسار مالك الفكري، فإنها أيضاً قادته وهو طالب يتلقى مساعدة مالية من والده تعينه على الدراسة في باريس إلى أن يبحث عن مطعم يقدم وجبات غذائية بسعر مناسب يتفق ومقدرته المالية، وكان ذلك سبباً في انتسابه “للوحدة المسيحية للشباب الباريسيين”الذي أتاح له التعرف من قرب على الجانب الروحي للحضارة الغربية، كما أسهمت هذه الوحدة في تعرف مالك على الحياة الأوروبية بشكل تفصيلي عن طريق صديقه الأوروبي الذي كان يأخذه معه إلى منزله ويكتشف “مالك”من خلال تلك الزيارات واقع الحياة الأسرية العائلية الأوروبية.
ولما لم يتمكن من الالتحاق “بمعهد الدراسات الشرقية”اضطّر لتعديل أهدافه وغاياته، والتحق بمدرسة “اللاسلكي”غير البعيدة عن “معهد اللغات الشرقية”للتخرج كمساعد مهندس، ممّا يجعل موضوعه تقنياً خالصاً، بطابعه العلمي الصرف، على العكس من المجال القضائي والسياسي.. ‏ لكن تشاء الأقدار أن يدخل “مالك بن نبي”من هذا الباب نفسه إلى عالم الفكر السياسي.
فهناك في مدرسة “اللاسلكي” كان مطلوباً منه أن يكون مُلماً بالرياضيات ليتمكن من الالتحاق بهذه المدرسة ودخل مالك عالم الرياضيات الذي أحدث له تغييراً عميقاً في النظر وفي التفكير لديه فكانت فترة دراسته للرياضيات نقطة تغيير جذري في اتجاهه الفكري - كما يقول ذلك في مذكراته - ودخل من خلالها إلى مناخ الكم والكيف حيث يخضع كل شيء إلى المقياس الدقيق ويتسم فيه الفرد أول ما يتسم بميزات الضبط والملاحظة..
ورغم جده واجتهاده إلا أنه لم يتمكن من إجراء الامتحان التطبيقي الضروري لتخرجه مهندساً بعد أن أنهى دراسته في الكهرباء والميكانيكا بسبب اعتذار المؤسسات والمصانع التي يمكن التطبيق فيها لنشاطه في مقاومة الاستعمار.
وفي عام (1351هـ - 1931م) تزوج مالك أثناء دراسته في فرنسا من شابة فرنسية أسلمت وسمت نفسها (خديجة) حيث هيأت له أسباب الراحة وساعدته على مواصلة دراسته ومواصلة تكوينه الفكري وقد أفرد لها صفحات مهمة في مذكراته لدورها القوي في حياته وكيف كانت جانباً مضيئاً له في غربته في فرنسا.. كما أنه في تلك الفترة التقى بصديقه “حمودة بن الساعي”الذي كان للقائه به تأثير كبير عليه.
بقي مالك في باريس من عام (1939م-1956م)، ثم ذهب إلى القاهرة للمشاركة في الثورة الجزائرية من هناك.
وفي مصر كانت مرحلة أخرى له مع التأليف وإتقان اللغة العربية وعقد الحلقات العلمية المفتوحة لجميع الطلبة في منزله بالقاهرة، حيث تتم مناقشة مؤلفاته وشرح أفكاره حيث تأثر بها عدد كبير من الطلبة العرب والمسلمين الذين كانوا يتلقون تعليمهم في القاهرة؛ إذ أن المناقشات والتحليلات الدقيقة لمشكلات العالم الإسلامي كانت توقظ أذهان العديد من الطلبة وتوضح لهم الحقائق وكانت معظم الموضوعات التي تناقش حول مشكلات الحضارة.
وتعتبر فترة وجود مالك بن نبي في مصر من أغنى مراحل عطائه الفكري الذي ألف فيها العديد من الكتب بالإضافة إلى ترجمة البعض الآخر من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية.
كما أن محاضراته ومناقشاته مع العديد من المفكرين والمثقفين المصريين والعرب ساعدت على ظهوره في الحياة الفكرية ليس فقط في مصر بل في العالم العربي وأثناء إقامته في مصر قام بزيارة سوريا ولبنان وألقى فيهما عدداً من المحاضرات وفي جولة أخرى زار المملكة العربية السعودية والكويت وليبيا.. وبقي في مصر يحاضر ويناقش ويؤلف إلى عام (1383هـ - 1963م) حيث عاد إلى الجزائر وقد تم تعيينه مديراً عاماً للتعليم العالي..
وكان مالك قد تزوج أثناء إقامته في القاهرة بسيدة جزائرية.. أنجبت له ثلاث بنات هن: نعمة وإيمان ورحمة.
ثم انتقل إلى الجزائر عام (1963م) بعد الاستقلال حيث عيّن مديراً للتعليم العالي، ولكنه استقال من منصبه عام (1967م) وانقطع للعمل الفكري وتنظيم ندوات فكرية كان يحضرها الطلبة من مختلف المشارب، وكانت النواة لملتقى الفكر الإسلامي الذي يُعقد كل عام في الجزائر. وظل مالك بن نبي يُنير الطريق أمام العالم الإسلامي بفكره إلى أن توفى في 31 أكتوبر عام (1973م).
مؤثرات البناء الفكري
إن البناء الفكري لأي مفكر أو عالم لا يبدأ من فراغ فلا بد من المؤثرات الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية أو بعض الأعمال الفكرية التي تسهم في نمو هذا التفكير.
ولقد أوضح المفكر المسلم مالك بن نبي في العديد من مؤلفاته وفي مذكراته التي أطلق عليها عنوان “مذكرات شاهد للقرن”أن هناك مواقف صادفته في طفولته وشبابه سواء في المنزل أو الشارع أو المدرسة كان لها تأثير عميق في حياته وبعض هذه المواقف دفعته إلى تغيير تخصصاته الدراسية وبالتالي تغيير خطط حياته كما أن هناك العديد من الأعمال الفكرية التي تركت بصماتها في فكره فقد كان - رحمه الله - غزير القراءة يقرأ في كل مجال وقد بدأ في القراءة منذ أن كان صغيراً بالمدرسة الابتدائية، أما في المرحلة الثانوية فقد بدأت الصياغات الأولى لفكرة تأخذ اتجاهين:
“الأول”: الارتباط بالإسلام وتراثه.
“الثاني”الانفتاح على الحضارة الغربية وعلومها.
وقد قرأ مؤلفات الشيخ أحمد رضا والشيخ محمد عبده والشيخ عبد الرحمن الكواكبي واطلع في الفترة التي قضاها في قسنطينة -وتعد من أبرز الفترات في حياته وتفكيره ليس بتأثير أساتذته فقط بل بإطلاعه- على مختلف المؤلفات الأدبية والتاريخية والفلسفية والاجتماعية مما أثر في عمق تفكيره وشمولية معرفته.
فقد اطلع على ألوان من الأدب العربي القديم كشعر امرئ القيس والشنفري وعنترة والفرزدق وأيضاً في الشعر الحديث لحافظ إبراهيم ومعروف الرصافي وجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي.
ويعتبر التراث العربي الإسلامي ومنابعه الأولى وخاصة “القرآن الكريم”الباعث الروحي الذي يمثل الأساس الأول في تكوين مالك وقد وضع في القرآن أول مؤلف له وهو “الظاهرة القرآنية”ومن المؤلفات التي أثرت في مالك “مقدمة ابن خلدون”حيث استمد منها نظريته في الدورة الحضارية وعن التغيير الاجتماعي من دورة الدولة عند ابن خلدون وان اختلف عنه في أنه لم يقف عند أحد نتاجات الحضارة وهي (الدولة) بل استقرأ الواقع الاجتماعي الإسلامي التاريخي والمعاصر ومحاولاته للوصول إلى الحضارة وبين كيفية العودة بالمجتمعات إلى مرحلة الحضارة وإمكان ذلك بإدراك شمولها ومراحل تطورها بصفتها واقعة اجتماعية.
أيضاً قرأ مالك مؤلف “ازوالد اشبنجلر”(تدهور الحضارة الغربية) ومؤلف “ارنولد توينبي”(دراسات التاريخ) وتأثر بهما واخضع هاتين الدراستين للعديد من التحليلات الصحفية في مؤلفه (شروط النهضة).
واطلع على كتابات المستشرقين عن الإسلام مثل كتاب “أوجين يونج”(الإسلام بين الحوت والدب)، وكتاب “ايزابيل هارت”(تحت ظلال الإسلام الدافئة) كما تأثر مالك بعدد آخر من الفلاسفة والمفكرين الغربيين مثل “نيتشه”وكان قد قرأ كتابه (هكذا تكلم زرادشت) وقد شغله فكرياً كما يقول - يرحمه الله - وقرأ لـ “كانت”وتأثر به وظهر ذلك واضحاً من خلال فكرة مالك عن (الواجب والحق) التي احتلت مكاناً بارزاً في كتاباته.
وعلى الرغم من القيادات الفكرية والأيديولوجية التي كانت سائدة في قسنطينة أثناء دراسة مالك فيها إلا أن مالك كان أقرب إلى التيار الإصلاحي وأثناء وجوده في باريس كان الحي اللاتيني يموج بالعديد من التيارات الفكرية والمذاهب إلا أن مالك كان يدعو إلى الإسلام.. والقارئ لفكر مالك يلمس عمق إيمانه وقوة عقيدته واستقامة منهجه السلوكي والفكري.
إن ما يميز مالك كمفكر أنه يدين بالفضل في تكوينه النفسي والفكري إلى عدد كبير من الأشخاص وليس فقط العلماء والمفكرين والأدباء والأساتذة أمثال “حمودة بن الساعي” والشيخ محمود شاكر في القاهرة، حيث أفاده في مجال اتقان اللغة العربية والاطلاع على مصادر التراث الإسلامي وتعريف مالك بالعديد من العلماء والأدباء ورجال الفكر في مصر.
أما “حمودة بن الساعي”فقد كان تأثيره عميقاً في بناء مالك النفسي والفكري منذ أن تعرف عليه في باريس أثناء دراسة حمودة بن الساعي للدكتوراه حول الإمام الغزالي في جامعة السوربون فأخذ مالك معه إلى عالمه الفكري بحكم تخصصه في العلوم الإسلامية واهتمامه شخصياً بالإصلاح... وكان مالك يطلق عليه صفة (معلمي) تقديراً له ولدوره في تكوينه الفكري وتشجيعه له لكتابة أول مقالة له بعنوان “خطاب مفتوح للضمير العالمي”وعلى إلقاء محاضرته “لماذا نحن مسلمون؟ “وكان يحضر معه المحاضرات المفتوحة في جامعة السوربون التي يقدمها كبار الأستاذة في مختلف الموضوعات.
ومن الشخصيات التي كان لها دور تربوي عظيم في نفسه وسلوكه (جدته لأمه) وهي امرأة صالحة أخذت بيده طفلاً في عالم الخير والقيم المعنوية الإسلامية بما يتناسب وإدراكه وبما يتفق والتربية الصالحة ولقد أدت دور المربي الأول الذي صاغ رؤياه الأولية نحو القيم الأخلاقية وأيضاً من حكاياتها عند الاستعمار كانت البذور الأولى لمأساة الاستعمار والاحتلال الأجنبي تجد طريقها في عقل ذلك الطفل وأيضاً والدته كان لها تأثير عميق في نفسه وقد حزن حزناً شديداً عليها عند وفاتها.
أيضاً في دائرة تأثير المرأة في حياته من جدته ووالدته نجد أن دور زوجته الفرنسية المسلمة “خديجة” كان واضحاً فكما يقول عنها إنها أخذت بيده إلى عمق الحضارة الأوروبية معايشة وواقعاً وفكراً وذوقاً وجمالاً.. وفي مثل هذا المناخ الاجتماعي داخل المنزل وخارجه كان مالك يكتسب تطوراً نفسياً جعله ينفر من الأشياء التي تخالف الذوق الجمالي وهو يفسر هذا بقوله:
" إن الاستعدادات التي تدفعني إلى هذا الموقف كانت أصيلة في نفسي وإنما وجودي في فرنسا ومعايشتي لزوجتي طورت هذه الاستعدادات الوراثية إلى أفكار اجتماعية خاصة".
ويقول في موقع آخر من مؤلفاته يوضح عمق تأثير زوجته في شخصيته: " مضت زوجتي تتفنن من أجل توفير جميع وسائل الراحة لي داخل البيت حتى من الناحية الفكرية، إذ كانت تأتي على الأشياء التي أشاهدها في عالمنا الجديد بشهادة من يعرفها من داخلها، لقد كنت أرى في تلك الأشياء القيم الحضارية التي أصبحت الشغل الشاغل بالنسبة لي من الناحية النظرية ولكن زوجتي ألبستها لباسها وصيرتها ملموسة أمامي، لقد أصبحت في الحقيقة أعيش في الورشة المختصة بالجانب التطبيقي لملاحظاتي عن البيئة الجديدة، وبصياغة توقعي واستطلاعي الشخصي تجاهها، سواء من حيث الفكر والسلوك أو من حيث ما أزكي من فضائلها وما أرفض من رذائلها".
هذه الشهادة من مالك بن نبي لدور جدته ووالدته وزوجته مهمة لإبراز كم للنساء من آثار عميقة في بناء الأسرة والأبناء.. أيضاً ما يتعلق بزوجته “خديجة” وخصوصاً لمن يتعمق في معظم ما كتب عنها نجد أن استقراء مالك للحضارة الغربية لم تكن انبهاراً واستحواذاً كما يحدث للبعض!! ولكنه معايش وواقع عملي مكنه من التعمق في الثقافة الأوروبية وسبب لتحرره من نفوذها ومعرفته لمصادرها ومواردها ودوافعها الخفية وبواعثها العميقة، كما أنه يتميز عن كثير من المفكرين الذين عادوا من أوروبا في تلك الفترة؛ فلم ينحرف مع التيار الجارف الذي كان سائداً ولم يحدث عنده تحول نوعي في أفكاره وآرائه كما حصل للبعض في مرحلته.. وكما يحدث للبعض في واقعنا المعاصر الآن!!
السمات الفكرية لابن نبي
تميزت كتب الأستاذ مالك في عمومها - موضوعاتها ومصطلحاتها ومفرداتها - ببصمات خاصة، فجاءت كتبه تحمل عناوين جديدة ومضامين جديدة لم يعرفها الفكر العربي والإسلامي الحديث بالدقة التي تمت بها معالجته لموضوعات تلك الكتب، ومن أهم معالم التجديد في فكر مالك بن نبي، أنه تجاوز الأساليب التقليدية لدى الباحثين الإسلاميين، وهي الأساليب التي تبحث في العقائد والعبادات والمعاملات والأدب والتاريخ والسياسة، وتحاول أن تنقى الفكر الإسلامي من بعض الأخطاء والتفسيرات التي سادت في عصور الانحطاط... تلك المحاولات كانت تعالج قضايا تحيط بالإنسان المسلم، والمجتمعات الإسلامية، أي أنها تتعامل مع العالم الخارجي أكثر من تعاملها مع عناصر التغيير الداخلية، تغيير الأفكار والنفوس طبقا لقوانين التغيير الاجتماعي.
لكن “مالك بن نبي”الذي أتقن اللغة الفرنسية، وتثقف بها، وعاش بضميره الإسلامي، والذي كان يعانى من وطأة الاستعمار الأوروبي لبلاده الجزائر، كان يفكر برؤية أكثر عمقا وشمولا وتحديدا، وعنده أن الإصلاح والنهوض الفعلي يبدأ من تغيير الإنسان المسلم، والتغيير الأهم ينطلق من الفكر، وعنده أن " الحضارة ما هي إلا نتاج فكرة جوهرية" تدفع بالمجتمع نحو دوره التاريخي الحضاري. وهو الذي شد انتباه قرائه إلى البعد النفسي والاجتماعي لقانون التغيير كما جاء في الآية القرآنية: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
إن كثيرين يستشهدون بهذه الآية في كتاباتهم وفى خطبهم، غير أن “مالك بن نبي”يظل صاحب التجليات الفكرية الأكثر عمقا ووضوحا، فيضع تلك الآية كأحد قوانين التغيير الاجتماعي وكأحد شروط النهضة، ولا ينسى أن ينبهنا ألا نتعامل مع نص هذه الآية حسب إيماننا بها فقط، بل يجب أن يتم ذلك في ضوء التاريخ، وفهم حركة التاريخ وما يجسده من خصائص اجتماعية ودينية واقتصاديه وغير ذلك من مكونات المركب الحضاري الذي تبلغه الأمم بعد مسيرة طويلة أهم عناصرها: الإنسان وأفكاره المبدعة وقدرته على استثمار الوقت استثمارا ايجابيا.
ومالك بن نبي صاحب مفهوم “القابلية للاستعمار”الذي اشتهر شهرة بالغة ويعني: مجموعة الصفات البنيوية التي تسهل على الاستعمار مهمته الاستيلائية، وهو مفهوم شديد الجاذبية حيث يبدو كأنه يلخص نصف مشكلة الاستعمار، فهو يطلب منا إلقاء الضوء على العيوب الداخلية في بني المجتمعات التي وقعت ضحية الاستعمار، بعد أن كان التركيز المعتاد لحركات التحرر ينصب أساساً على الدور الذي قامت به القوى الاستعمارية في تأبيد التخلف أو حتى صناعته بعد إذ لم يكن موجوداً.
ولكن ابن نبي في جميع الأحوال كان رجلاً غيوراً على المسلمين وما كان يبتغي من هذا المفهوم إلا حث إخوانه في الدين على نفض غبار التقاعس والكسل العقلي والجسدي والنهوض لبناء حضارة الإسلام من جديد، حضارة قوية لا يستطيع الاستعمار اختراقها.
ولم يقعد مالك بن نبي معقدا سلبيا أمام الحضارة الغربية فلم يشعر بالنقص والدونية أو التفوق تجاه الغرب، بل اهتم بقضية إحياء الحضارة العربية الإسلامية ويقظة العالم الإسلامي ــ الذي هو خارج التاريخ ــ فدرس قضية النهضة باحثا أسباب التخلف والانحطاط المنتشرين فيه، ومتأملا ما اقترحه التيار الإصلاحي، والتيار الحداثي، فالأول طرح قضية إصلاح العقيدة، والثاني ركز على استيراد كل ما هو غربي. لكن يختلف مالك بن نبي عن الإصلاحيين في تقويمه لتخلف المسلمين، إذ يرى أنهم لم يفقدوا إيمانهم بل فقدوا مهمته الاجتماعية، بينما الحداثيين ربطوا التقدم باستيراد الأشياء وحصروا التخلف في العقيدة الإسلامية.
أما غالبية أفراد العالم الإسلامي فلم يكن مشروعهم واضح وله أهداف واضحة ومحددة للنهضة ليجابهوا تلك المشاكل الحضارية بحلول جدية، فشاع عند المسلمين التواكل، وأن مجتمعاتهم مكتملة لما بلغته من روحانيات، بينما عند ابن نبي البناء الثقافي يجب أن يؤسس على المبادئ الأخلاقية، والذوق الجمالي، والمنطق العملي، والتقنية.. فبهذا أراد بحث العناصر الأساسية للشروط النفسية والثقافية لتجنيد المجتمع. فمفكرنا ينظر إلى انحطاط المسلمين من الطريقة التي طبق بها الإسلام وليس نتيجة لهذا الدين في حد ذاته.
ولعل ما مّيز فكر مالك بن نبي وإنتاجه الأدبي تكوّنه المزدوج بين الثقافتين الغربيةوالعربية الإسلامية نتيجة لما كان يسود الجزائر من صراع بين الثقافتين التي كانت تجسد التصادم بين الانتماء الحضاري من جهة والرغبة في التطور من جهة أخرى.
وقد ترك ذلك أثرا بالغا في نفسه وفي كتاباته التي تتميز بالتزاوج بين المصدرين. فبجانبالاستدلال من التراث والتاريخ الإسلاميين مثل حادثة عمر بن الخطاب مع المرأة التيجادلته في الصداق، وحادثة صفين بين علي ومعاوية، نجد الحديث عن مفكرين معاصرين فيأوربا والعالم مثل البريطاني “تونبي”والألمانيان “كيسرلنج”و “شاخت”وأعمال الهندي “ماهاتما غاندي” وغيرهم.
وبجانب الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي كان يستدل بها في نصوصه والتي تلقاها في الزوايا والمدارس الأهلية، نجد المعادلات الرياضيةوالتفسيرات الفيزيائية والكيميائية للظواهر الاجتماعية التي تنم عن فكر رياضي وتقني دقيق وحاد.
وقد كان في هذا الجانب لرصيده التعليمي في مجال الهندسة الكهربائية بدون شك أثر في استعارته تلك الوسائل الرياضية والمعايير الحديثة من بيانات إحصائية ودوال ومعادلات غيرها.
ويمكن اعتبار الإطار العام لفكر مالك بن نبي “مسألة الحضارة”... فقدعنون جميع مؤلفاته تحت شعار كبير هو “مشكلات الحضارة”. وتكاد محاوره الفكرية تكونواضحة من خلال العناوين الفرعية التي اختارها لكتبه التي تزيد عن العشرين كتابا.
ففي فترة ما يقرب من عشرين سنة من التأليف (1946-1967م) أخرج إلى النور: “شروطالنهضة”“وجهة العالم الإسلامي”“مشكلة الثقافة”“الصراع الفكري في البلدانالمستعمَرة”“البناء الاجتماعي الجديد”“ميلاد مجتمع”“تأملات في البناء الجديد”“مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي”“الظاهرة القرآنية”“المسلم في عالمالاقتصاد”“الفكرة الإفريقية الآسيوية”وغيرها من الكتب.
ولذلك فيمكن توزيع أعمالهعلى عدة مجالات علمية أهمها فلسفة التاريخ والسياسة الثقافية والاقتصاد وعلم النفس الاجتماعي والفكر الإسلامي، وكما توزعت أعمال على مختلف المجالات كذلك توزعت جغرافيا في عدة عواصم ابتداء من الجزائر وباريس ثم القاهرة ودمشق وبيروت.
قراءة ناقد في فكر مالك بن نبي
من أجمع ما كُتب في هذا الموضوع بحث للأستاذ “محمد العبدة “بعنوان “قراءة في فكر مالك بن نبي”نشرته مجلة البيان [1] ننقله بنصه، حيث يقول -بارك الله فيه-:
إذا عُدَّ المفكرون من المسلمين في هذا العصر فإن “مالك بن نبي”هو من هذه القلة الذين ينطبق عليهم هذا الوصف؛ فالمفكر هو الذي يدرس ويتأمل ويقارن، ويحلل المشكلة إلى أجزائها، ثم ينسق ويركب ويجتهد في إيجاد الحلول.
وقد ترددت كثيراً قبل الكتابة عن مالك بن نبي؛ لا لأنه عميق الغور، غوَّاص في البحث والتنقيب، أو لأن تتبع آرائه وأفكاره يحتاج إلى جهد، بل لأنه يطرح أفكاراً وآراءً لا تتناسب مع عمق تفكيره، يقف الإنسان أمامها حائراً: من
أين جاءته؛ وما هي الخلفية الثقافية التي جعلته يتبنى هذا الرأي أو ذاك؛ وهل هو
مؤيد أم معارض؟ وقد كان ذلك التردد وإعادة القراءة مرات ومرات حتى لا نظلمه، وليستبين الحق وتتضح الصورة، وتحل الإشكالات.
إن الكتابة عن مالك بن نبي ضرورية للأجيال التي يجب عليها أن تتعرف على ما كتبه أصحاب الخبرة والتجربة في مجال الصراع الفكري المحتدم بين أوربا المستعمرة والعالم الإسلامي منذ نهاية القرن الثامن عشر، فلم يعد من المجدي طرح الحلول العامة والعائمة ولابد من الدخول في التفاصيل، ومعرفة أسباب الفشل وأسباب النهضة، ولكن العجب لا ينقضي عندما ندرك أننا في كثير من الأحيان لا نستفيد مما كتبه السابقون لنا الذين تصدوا للإصلاح في أوائل هذا القرن.
يقول الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر - في تقديمه لكتاب “في مهب المعركة”مصوراً هذه الظاهرة: “فإذا نحن نرى أنفسنا في ضوء ما كَتب قديماً، كأننا لم نتقدم خطوة في فهم البلاء الذي ينزل بنا ولا يزال ينزل، وأشد النكبات التي يصاب بها البشر نكبة الغفلة... “[2].
ولمالك مشكلة خاصة في انصراف بعض الشباب المسلم عن قراءة إنتاجه الفكري، وهي إحدى الأسباب وليست السبب الوحيد على كل حال؛ فقد كتب سيد قطب - رحمه الله -:
" لقد كنت أعلنت مرة عن كتاب لي تحت الطبع بعنوان “نحو مجتمع إسلامي متحضر”ثم عدت في الإعلان التالي عنه فحذفت كلمة “متحضر”، ولفت هذا التعديل نظر كاتب جزائري (يكتب بالفرنسية) ففسره على أنه ناشئ عن (عملية دفاع نفسيه داخلية عن الإسلام) وأسف لأن هذه العملية - غير الواعية تحرمني مواجهة المشكلة على حقيقتها.
أنا أعذر هذا الكاتب... لقد كنت مثله من قبل... كانت المشكلة عندي -كما
عنده اليوم- هي مشكلة (تعريف الحضارة).. ثم انجلت الصورة (المجتمع المسلم) هو (المجتمع المتحضر)[3]
وفهم الشباب المسلم أن هذا الكاتب الجزائري واقع تحت ضغط آتٍ من مصادر أجنبية، فكان ذلك سبباً لابتعادهم عن قراءة فكر مالك، ولكن القضية هي قضية مصطلحات؛ فمالك يتكلم عن المجتمع الإسلامي الموجود وأنه يحتاج إلى رفعه إلى مستوى الحضارة حتى يستأنف دوره - وطبعا لا يعني هنا الحضارة الغربية وإنما الحضارة بتعريفه هو - وسيد يتكلم عن المجتمع الإسلامي المنشود وأنه إذا وُجد فثَم الحضارة، والإسلام هو الوحيد الذي ينتج حضارة متكاملة، ولاشك أن سيداً - رحمه الله - أنقى وأوضح تصوراً وفكراً، وهو ينظر إلى الحضارة الغربية من علٍ؛ لأنه المسلم المتميز بعقيدته وتصوراته، ولكن مالكاً هنا يبحث في التفاصيل والجزئيات، وكيف يركبها لينتقل بالمسلم من حالة التخلف والركود إلى حالة (الإقلاع) للدخول في دورة الحضارة مرة ثانية، وسيد يرى استيراد النظريات العلمية (مجردة) ومالك يقول: هذه الأشياء المستوردة هي نتاج حضارة وثقافة، هذه الأشياء صنعها علم النفس وعلم الاجتماع أيضاً، ولذلك سواء استوردناها أو صنعناها لابد أن تكون هناك ثقافة تحيط بها حتى تضعها في مكانها المناسب، وحتى لا تتحول إلى (تكديس) وهذه الثقافة هي الثقافة الإسلامية.
إن ظاهرة انصراف بعض الناس عن فكر معين - بسبب كلمة تقال من عالم مشهور - ليست جديدة ولا غريبة، فعندما ترجم أحد العلماء للمؤرخ ابن خلدون؛ تكلم فيه وانتقد عليه بعض التصرفات الشخصية عنده، فكان ذلك من أسباب إعراض الناس عن (المقدمة) التي تعتبر أعظم ما أنتجه المسلمون في علم الاجتماع وفن النقد التاريخي، ولمالك إيجابيات كثيرة سنتكلم عنها إن شاء الله، وله أخطاء، ولابد من عرض كليهما حتى يتبين وجه الصواب لمن أراده، وهو واضح جلي والحمد لله.
يتبع

.

رحيل
01-13-2020, 07:52 PM
مالك بن نبي
خالد سعد النجار




نبذة عن حياته:
وُلد مالك بن نبي في مدينة قسنطينة في الجزائر عام (1905م)، ونشأ في أسرة فقيرة؛ لأن جده لأبيه هاجر إلى طرابُلس الغرب احتجاجاً على الاستعمار الفرنسي وحمل معه كل أملاك العائلة، هذا الميلاد جعله يتصل بالماضي عن طريق من بقي حياً من شهوده. [4]
انتقل والده إلى (تبسة) فعاش فيها طفولته وكانت هذه المدينة الصغيرة بعيدة نوعاً ما عن (الحضور الفرنسي) وذلك لاحتكاكها بالقبائل المجاورة؛ فحفظها الطابع البدوي عن الاختلاط مع الفرنسيين، وفي (تبسة) كان يدرس في الصباح العربية والقرآن ثم يذهب في الساعة الثامنة إلى المدرسة الحكومية الفرنسية، وفي المرحلة التكميلية كان يتابع دروس العربية والدين، وكانت المدرسة الفرنسية تشجعه على المطالعة عن طريق إعارة الكتب.
تعرَّف على تلاميذ ابن باديس من الشباب، وشعر أنه - وإياهم - على خط فكري واحد، وكان يقرأ (الشهاب) و (المنتقد) قبلها ولكنه لم يتصل بالشيخ ابن باديس ولا تتلمذ عليه، وفي (تبسة) حيث تعيش أسرته لم يتتلمذ أو يؤيد تأييداً قوياً الشيخ العربي التبسي، وكأن هناك حاجزاً نفسياً بينه وبين المشايخ، ويعترف بعد ربع قرن: (حينما تفحصت شعوري حول هذا الموضوع تبين لي أن السبب يكمن في مجموعة من الأحكام الاجتماعية المسبقة، وفي تنشئة غير كافية في الروح
الإسلامي) [5].
ويتابع الحديث عن الأسباب الاجتماعية: (فأحكامي المسبقة ربما أورثتنيها طفولتي في عائلة فقيرة في قسنطينة، زرعت لاشعورياً في نفسي نوعاً من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة التي كان الشيخ العربي ينتمي إلى واحدة منها)[6]. وكنت أعتقد أنني أقرب إلى الإسلام بالبقاء قريباً من البدوي أكثر من البلدي الرجل الذي يحيط به وسط متحضر، وكان الشيخ العقبي يبدو في ناظري
بدوياً، بينما يبدو الشيخ ابن باديس بلدياً،
فقد تبين لنا أسباب جفائه لزعماء جمعية العلماء وهو شاب، أما عندما نضج فكرياً فسيكون له موقف مبني على أسس عنده سنتكلم عنها إن شاء الله.
بعد الانتهاء من الثانوية عمل متطوعاً في محكمة (تبسة) وهناك تعرف من خلال تجوال أعضاء المحكمة في الريف - على رجل الفطرة الذي يستضيف أعضاء المحكمة رغم أنهم حكموا عليه بالضرائب والغرامات، ثم عمل موظفاً في
محكمة (أفلو) التي تقع جنوب وهران في غرب الجزائر، وهناك أيضاً تعرف على الكرم العربي والفطرة الصادقة: (فالناس في المدن لا يستطيعون فهم هذه العقلية أو ذاك النبل في عروق البدوي). [7]
وتعرف على فضائل الشعب الجزائري قبل أن يفسده الاستعمار، ثم انتقل للعمل في محكمة (شاتودان) ولم يطق معاملة موظفيها؛ فاستقال وتوجه إلى فرنسا وذلك عام (1930م) في محاولة للانتساب إلى معهد الدراسات الشرقية، ولكن طلبه رُفض؛ لأن الدخول لهذا المعهد - كما يقول هو -لا يخضع لمقياس علمي وإنما لمقياس سياسي. انتسب إلى مدرسة اللاسلكي ودرس الكهرباء والميكانيكا، وهذه الدراسة أعطته بُعداً آخر يقول عنها: (فتح لي عالم جديد يخضع فيه كل شيء إلى المقياس الدقيق للكم والكيف، ويتسم فيه الفرد-أول ما يتسم-بمَيزات الضبط والملاحظة).
ولكن دخوله مع العمل الطلابي المغربى وتعرفه على صديقه (حمودة بن الساعي) بدأ يغير من اتجاهه العلمي إلى التعمق في الدراسات الاجتماعية.
تخرج مهندساً كهربائياً عام (1935م) وبدأ رحلة شاقة في البحث عن عمل في البلاد العربية وغيرها، وكانت الأبواب توصد في وجهه دائماً وسبب ذلك في رأيه هو أنه أراد تمزيق شبكة الاستعمار ولم يدرِ أن سمك القرلق(الاستعمار) كان له بالمرصاد.
زار الجزائر في هذه الفترة، ولاحظ وقوع الناس في حُمى الانتخابات والدجل السياسي بعد المؤتمر الجزائري.
عاد إلى فرنسا في مطلع الحرب العالمية الثانية مودعاً الجزائر بهذه العبارة: (يا أرضاً عقوقاً! تطعمين الأجنبي وتتركين أبناءك للجوع، إنني لن أعود إليك إن لم تصبحي حرة!)، وبقي في فرنسا حتى عام (1956م) أصدر فيها باللغة الفرنسية: (الظاهرة القرآنية)، (شروط النهضة)، (وجهة العالم الإسلامي)، (الفكرة الإفريقية الآسيوية).
زار مصر عام (1956م) وبقي فيها حتى عام (1963م)، وكان له في مصر تلاميذ وأصدقاء، وزار خلالها سورية ولبنان ألقى فيها المحاضرات حول موضوع (مشكلات الحضارة)، وفي القاهرة أصدر: (حديث في البناء الجديد)، (مشكلة الثقافة)، في مهب المعركة، (تأملات في المجتمع العربي).
عاد إلى الجزائر عام (1963م) حيث عُين مديراً عاماً للتعليم العالي وأصدر في الجزائر: (آفاق جزائرية)، (يوميات شاهد للقرن)، (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي)، (المسلم في عالم الاقتصاد).
استقال من منصبه عام (1967م) وتفرغ للعمل الفكري.
توفي في (31/10/1973م) في الجزائر - رحمه الله - وغفر له -.
شخصيته:
يجتمع في مالك بن نبي خطان رافقاه طوال حياته، فهو شخصية عاطفية، خيالية أحياناً، يفكر بأحلام الفلاسفة ويهيم بالتجريد. يقول عن نفسه: (أنا شديد التأثر بالحدث، وأتلقى صدمته بكل مجامعي وبانفعالية تستطيع أن تنتزع مني دموع الحزن حين يثير الحدث الحبور من حيث المبدأ)، وقد بكى عندما اندحر الجيش الفرنسى أمام ألمانيا عام (1940م) مع أنه يكره الاستعمار الفرنسى، ويعلق هو على هذا التصرف: (رأيت في ذاتي عنصراً آخر كشف كل التعقيد في ضمير مسلم) ولم يوضح ما هو هذا العنصر الآخر ولكن يبدو لي أنه عدم التوازن بين القيم الأخلاقية وأيها يصلح لتطبيقه على الحدث، وعندما سمع حديث والدته وذكرياتها عن الحج لم يستطع حبس دموعه فكان يتظاهر بالعطش ليخرج إلى الشرفة فيطلق العنان للدمع.
هذه العاطفة أنتجت له شخصية حالمة أحياناً، فعندما يسمع ويقرأ عن شاعر مثل (طاغور) تتفتح أمامه الأحلام عن الشرق وأن الإنقاذ ربما يأتي من روحانية الهند كما يسميها، وعندما يسمع بأنباء الخلاف بين الملك عبد العزيز آل سعود وإمام اليمن يكتب رسالة إلى سفارة اليابان يدعو حكومتها للتدخل باسم التضامن الآسيوي لمساعدة ابن سعود حتى لا تتمزق الجزيرة العربية، وطبعاً لم يستجب (الميكادو) لطلبه!
وفي الجانب الآخر نجد شخصية مالك الناقد المحلل الذي يمتلك القدرة الفائقة على النفاذ لأعماق المشكلة وبيان أسبابها، من خلال النظرة العلمية الصارمة، ومن خلال اطلاع واسع على الثقافة الغربية وكيف تنشأ الحضارات مع معرفة بواقع المجتمعات الإسلامية من خلال معرفته الشخصية بالمجتمع الجزائري، وهو في مقارناته وتحليلاته يشبه سلفه المغربي المؤرخ ابن خلدون، حيث تلتقط الذاكرة كل جزئية وكل حادثة ثم يبدأ التحليل والمقارنة ثم يخرج بالنتائج التي يرتضيها، يقول عن سكان (أفلو) عندما عمل عندهم كمساعد في المحكمة:
“فملكية الإنسان لأرض ما تخلق في نفسه غرائز اجتماعية قد سلم منها الراعي، ففي دعوى أمام القضاء في (تبسة) يستطيع كل فريق أن يقدم عشرة شهود زور بالمجان، وشهود كل واحد من الطرفين سيحلفان أنهما يقولان الحقيقة، أما في (أفلو) فقد لاحظت الرجل يرفض غالباً أن يحلف ولو كان ذلك لدعم حقه الواضح”.
وعندما أراد القيام بعمل علمي مشترك مع صديقه (ابن الساعي) فشلت المحاولة؛ فعلق قائلاً: “ولم أكن أعلم أن العمل الجماعي بما يفرض من تبعات إنما هو من المقومات التي فقدها المجتمع الإسلامي ثم لم يسترجعها بعد خصوصاً بين مثقفيه”.
هذان الخطان استمرا في حياة ابن نبي، فالعاطفة التي تجمح إلى الخيال أحياناً جعلته يعقد في الخمسينات آمالاً كباراً على “مؤتمر باندونغ”وظن أنه سيحل مشكلة العالم الثالث، ومن رفات (غاندي) سينطلق يوماً انتصار اللاعنف ونشيد السلم العالمى[8]. كما استمر النقد التحليلى للمجتمع الإسلامي ومواطن الضعف فيه فتكلم عن الذين يظنون أن الإصلاح يبدأ من (علم الكلام) كالشيخ محمد عبده، يقول: “إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم على وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده ونملأ به نفسه”.
ويكتشف مالك جرثومة المرض، فالذين تركوا الطواف حول القبور وأخذ البركات من الدرويش لم يستطيعوا الاستمرار فتحولوا إلى الطواف حول وثن جديد وهو وثن الأحزاب السياسية والانتخابات [9]، ولأن العمائم أسلمت القيادة إلى (المطربشين)؛ لأن العلماء لم يكونوا على جانب من الخبرة بوسائل الاستعمار في مجال الصراع الفكري حتى يفطنوا إلى هذا الانحراف (الغوغائية السياسية).
العوامل المؤثرة في ثقافته:
1 - وُلد مالك بن نبي في عصر سمع فيه من جدته لأمه قصص الاحتلال الفرنسي للجزائر، وعاش مأساة بلد يخطط الاستعمار لشل فاعليته، ومن ثم لتحويله إلى فريسة سهلة الالتهام، عاشها مالك يوماً بيوم في المدرسة الفرنسية حيث لا يسمح (لابن البلد) إكمال الدراسة الثانوية التي تؤهله للدراسات الجامعية، وعاشها في تحول المجتمع عن فطرته وكيف ساد الصعاليك بمعونة الإدارة الفرنسية، وكيف أصبحت العائلات العريقة فقيرة، ذليلة بسبب الاستيلاء على أراضيها، وكان اليهود هم الواسطة لانتقال الملكية من أبناء البلاد إلى أبناء المستعمر؛ فاليهودي دائماً كان يقرض بفائدة 60%، وعندما درس في فرنسا وعاش مع الجالية الجزائرية رأى الاستعمار من زواياه المختلفة، وشعر بخبث الأساليب التي يقوم بها لتمزيق العالم الإسلامي.
2 - القراءات الغزيرة المتنوعة، فقد بدأ بالقراءة منذ أن كان صغيراً في الابتدائية، وقرأ كتب علم النفس والاجتماع وهو لا يزال في المرحلة الثانوية، وكان يقرأ كل الصحف التي تصل إلى قسنطينة أو تبسة، ولا شك أن هذا الاطلاع الواسع على الثقافة الغربية هو في جانب منه على حساب الثقافة الإسلامية وكان له أثر عليه أيضاً، فكثرة قراءاته لأعمال الفلاسفة جعلته يعتبر عصر الفارابي عند المسلمين هو عصر خلق الأفكار مع أن الفارابى وأمثاله لم يقدموا شيئاً يذكر للحضارة الإسلامية، وكانت نغمة (الإنسانية) و (العالمية) سائدة عند الفلاسفة الغربيين، ونجد مالك يكررها فيتكلم عن حضارة اليوم التي تسير نحو الشمول والعالمية [10] ويستعمل أحياناً عباراتهم التي هي نتيجة انفصام عندهم بين الدين والعلم مثل قوله: (إن الطبيعة توجد النوع... ) [11] أو وهبته الطبيعة.
3 - ثقافته الإسلامية: يعترف مالك بأن الذي كان يرده عن الغلو في هذا الاتجاه (القراءات الكثيرة للفكر الغربي) هو ما كان يتلقاه من دروس في التوحيد والفقه، وقراءاته للكتب التي تأتي من المشرق العربي مثل: (الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق) لأحمد رضا، و(رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده، و(طبائع الاستبداد) للكواكبي، والمجلات الإسلامية الجزائرية مثل (الشهاب) التي يصدرها الشيخ ابن باديس، ولا شك أن ثقافته الشرعية ضعيفة ولكن عنده اطلاع على التاريخ الإسلامي وقدرة على فهم الآيات والأحاديث التي تتعلق بسنة التغيير الاجتماعى وبسبب عمق تفكيره وتحرُّقه على العالم الإسلامي كان يرى أن بذرة عودة الوعي للأمة الإسلامية هي في حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي يعتبرها امتداداً لما قام به ابن تيمية في التجديد، ولنفس السبب أيد جمعية العلماء في الجزائر وكان يعقد الأمل عليهم في الاصلاح وإن اختلف معهم بعدئذ، ولبُعده عن المشرق ولضعف ثقافته الشرعية كان يمجّد جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده ويرى أن الأول هو مصلح الشرق؛ فثقافته الإسلامية خليط من آراء مدرسة الأفغاني ومحمد عبده ومن فهمه لآيات القرآن وسنن التغيير، وأنه لابد من الرجوع إلى طريقة القرآن والسنة في رفع الناس إلى مستوى الروح كما يعبر هو، والحقيقة أنه يجمع أشياء متناقضة وإن بدت منسجمة بالنسبة له.
4 - ومن المؤثرات الواضحة في شخصيته ما عاناه من الفقر الشديد في طفولته، وحياة النَّصَب والتعب التي عاشها في شبابه بحثاً عن العمل، سواء في الجزائر أو فرنسا، فقد عمل بعد تخرجه من الثانوية في مصنع للأسمنت في مدينة (ليون) بفرنسا، فكان يحمل الأكياس على ظهره، ومرة باع بعض ملابسه حتى يوفر وجبة غداء، وبعد تخرجه من الهندسة طرق أبواب العمل في الدول العربية والإسلامية ولكن دون جدوى.
هذه الأوضاع النفسية جعلته يكره - وهو صغير - الدور المترفة التي كانت تفضح أمام ناظريه بؤس أقاربه، وأحكامه المسبقة كانت بسبب العيش في عائلة فقيرة زرعت لاشعورياً في نفسه من الغيرة والحسد حيال العائلات الكبيرة، وكان يعجبه مطالعة صحيفة (الإقدام) التي يصدرها الأمير خالد الجزائري والتي كانت تركز على موضوع الفلاح الجزائري وبؤسه.
هذا ما يفسر لنا ميله للدول التي بدأت بتطبيق الاشتراكية كالجمهورية العربية المتحدة والجزائر بعد استقلالها وبتأثير من هذه الدول كان يظن أن الاتحاد السوفييتي ليس عنده مُناخ استعماري وهو صديق للشعوب!
مشكلة الحضارة:
ينطلق فكر ابن نبي من سؤال لا يزال يلح على المسلمين منذ أن صدموا بالحضارة الغربية وهى تطرق الأبواب وتدخل من كل المنافذ، وكان السؤال: ما هي أسباب تقهقر المسلمين؟ وما هي شروط النهضة ليستعيد المسلمون دورهم وفاعليتهم المفقودة وليكونوا شهداء على الناس؟. وكانت الإجابة عن هذا السؤال هي محور كتابات وأقوال الذين تصدوا لحركة الإصلاح والنهوض بالأمة على اختلافهم في القرب أو البعد عن الصواب. بل إن كثيراً منهم كانوا (لا يعالجون المرض بقدر ما يعالجون أعراضه)[12]، وأما الإجابة المتبادرة: (لابد من العودة للدين) فهي وإن كانت صحيحة بلا شك ولكنها بحاجة إلى تفاصيل، فعندما ندخل في عمق الموضوع ونبدأ بالعمل سنجد أن هذا المسلم المقتنع بهذا الجواب يحمل بين جنتبيه أمراضاً اجتماعية وفكرية ونفسية تعيقه عن فهم الكتاب والسنة فهماً صحيحاً، ليتحول هذا الفهم إلى فعالية للتغيير، وهذه الأمراض كانت نتيجة تراكم عصور من الابتعاد عن العلم النافع والعمل المثمر، فالأمة الإسلامية (كالفارس الذي أفلت الركاب من قدميه ولم يسترده بعد، فهو يحاول أن يستعيد توازنه) [13]
كيف نصوغ عقل هذا المسلم مرة أخرى حتى يعود إلى فعاليته؟ من هنا ينطلق ابن نبي ليقول: (إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، ما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها)[14].
فالمسلم الآن لا يعيش حالة “حضارة” وإنما هو من بقايا حضارة وهي الحضارة الإسلامية طبعاً، ولابد من إدخاله مرة ثانية في دورتها، فالإنسان السابق على الحضارة (العربي قبل البعثة مثلاً) هو مثل جُزَيء الماء قبل وصوله إلى خزان ينتج الكهرباء، فهذا الجزيء منطو على طاقة مذخورة، قابل لتأدية عمل نافع، ولكن هذا الجزيء يفقد طاقته بعد أن استنفذها في إنتاج الكهرباء، وإذا أردنا أن نعيد له قوته علينا أن نرفعه مرة ثانية إلى مكان عال، أو أن يتبخر ثم يتكثف ليعود جزءاً من طاقة مائية تقع قبل خزان معين) [15].
ورفع المسلم إلى هذا المكان السامق لا يتم إلا بشحنة إيمانية عالية وأخلاق كأخلاق الصحابة، ولا يتم هذا إلا (بتوتر روحي) حسب تعبير مالك.
ماذا يقصد بالحضارة؟
(هي: مجموع الشروط الأخلاقية والمادية، التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده - في كل طور من أطواره -وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية) [16]
أو: (هي: إنتاج فكرة حية تطبع على مجتمع الدفعة التي تجعله يدخل التاريخ) [17].
(هي ليست كل شكل من أشكال التنظيم للحياة البشرية في أي مجتمع كان، ولكنها شكل نوعي خاص بالمجتمعات النامية واستعداد هذه المجتمعات لأداء وظيفة معينة) [18]، وهي جوهر الوجود للمجتمع، وعكسها هو: الهمجية والعودة إلى البدائية المترحلة [19]، فالعرب انتقلوا بالإسلام إلى حضارة، والشعوب الأخرى انتقلت بعقيدة من العقائد إلى حضارة، فهي قدرٌ محتوم لمجتمع يتحرك لبناء نفسه ولأهداف معينة.
أما العوامل التي تشكل الحضارة؛ فقد صاغها على شكل المعادلة التالية:
ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت.
ولكن هذه المعادلة لابد لها من مُركّب أو مفاعل، وهذا المركب هو (الدين) سواء كان ديناً حقاً كالإسلام، أو بقايا دين أو عقيدة تبلغ عند أصحابها مبلغ الدين في الحماسة لها والتضحية في سبيلها.
(لكي نقيم حضارة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات، وإنما بأن نحل هذه المشكلات الثلاث من أساسها) [20]. فالحضارة لا تستورد ولا تفصل لكل أمة على مقاسها، وهي التي تلد منتجاتها وليس العكس.
من هذه التعاريف يتبين لنا أن: ابن نبي له تعريفه الخاص للحضارة، فهي شكل راق من الحياة الأخلاقية والمادية، وهناك حضارة إسلامية، حضارة غربية... إلخ.
وحسب تعريفه هذا: فإن الصين الحديثة أقلعت باتجاه حضارة، فقد اجتمع لها الحماس للفكر واستخدام التراب والوقت، وقبْلها اليابان وروسيا... ورغم أهمية هذه المعادلة بالنسبة للعالم الإسلامي الذي لم يقلع بعد. ورغم نقد أبن نبي للحضارة الغربية المادية وجشعها، فإن رائحة المادية تفوح من هذه التعاريف، فروسيا أقامت نهضتها الصناعية بعد أن قتلت وشردت الملايين، وقُل مثل ذلك في الصين، فهل المهم هو استغلال الوقت والتراب ولو على حساب الإنسانية؟! وأما العنصر الأخلاقي أو الروحي (Ethes) أو ما أسماه (الفكرة الدينية) التي يكون أصلها من السماء، فقد استوحاها من (كسرلنج) الذي يقول: (وكان أعظم ارتكاز حضارة أوربا على روحها الدينية).
ويعرف الروح الدينية: (ولست أعني بالروح ذلك الشيء الدال على منطق أو عقل أو مبادئ مجردة، وإنما هو بصفة عامة: ذلك الشعور القوي في الإنسان، والذي تصدر عنه مخترعاته وتصوراته وتبليغه لرسالته، وقدرته الخفية على إدراك الأشياء)[21].
فهذا المفكر يعتبر أن (الروح المسيحية) و(مبدأها الخلقي) هما القاعدتان اللتان شيدت عليهما أوربا سيادتها التاريخية، وجاء مالك وأخذ عنه هذه الفكرة ووضعها قاعدة عامة لكل الحضارات، وأخذ عنه أيضاً وعن (شبنجلر) تقسيمه لدورة الحضارة إلى المراحل الثلاث: روحية، وعقلية، وغرائزية، وإن كان ابن خلدون قبلهم قد قال بمثل هذا ولكنه تكلم على الدول ولم يتكلم عن الحضارات، ومقولة: (أنه لا توجد حضارة إلا وللدين أثر فيها) صحيحة من حيث الجملة، وقد قال بها ابن تيمية أيضاً [22]، ولكن يبقى الإشكال هو: وضع الإسلام موضع المساواة مع أي فكرة دينية واعتباره شعلة أخلاقية تصلح لتركيب المعادلة، هنا موضع الخطورة والنقص، فالمفكر (كسرلنج) عندما يتكلم عن النصرانية يتكلم عنها كجزء من الأجزاء المكونة للحضارة الغربية، ولكن الإسلام دين شامل وليس مبدأ أخلاقياً فحسب، وقاعدته الأساسية هي التوحيد الذي ينبني عليه الأخلاق والآداب والتشريعات.. وما يعتبر فناً رائعاً عند من يكتب عن الحضارات يعتبر حراماً في الإسلام.
والواقع أن ابن نبي غير واضح في هذه المسألة، فنراه واعياً لمسألة الشمولية عندما يعتبر العصر الراشدي هو النموذج دائماً وتعاطفه وتأييده للحركات الإسلامية، مثل: حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحركة جمعية العلماء في الجزائر، وربما يكون ضعفه في العلوم الشرعية هو الذي جعله يقع في أخطاء توحي بعدم الشمولية، وخاصة في موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية.
ومع ذلك فإن طرحه لمشكلة الحضارة بمعناها الواسع هو من الأهمية بمكان، ولذلك سنمضي معه في وقفته الطويلة عند هذا الموضوع.
إن ارتفاع المسلم إلى مستوى “حضارة”(فيتعلم كيف يعيش في جماعة، ويدرك في الوقت ذاته الأهمية الرئيسية لشبكة العلاقات الاجتماعية) [23]، ويتعلم كيف يكون لبنة في (البنيان المرصوص)، هذا الارتفاع لابد منه وهو المطلوب الآن، بينما نرى في الواقع أن المسلم الذي لا ينقصه الإخلاص لا يستطيع مجابهة مشاكله وكيف يحلها، لأنه تعلم وأخذ شهادات مدرسية ولكنه لم يتثقف، ولم يتشرب من بيئته في المنزل والمدرسة كيف يكون فعّالاً، وكيف يقوم بأعمال مشتركة مع الآخرين، والإسلام عندما رفع العرب إلى مستوى (حضارة) عدّل من طباعهم حتى تكون وسطاً، ووضعهم بين حدّي الوعد والوعيد، وعدل من غرائز الإنسان ولم يكبتها (حرّم الزنا وشجع الزواج)؟، وهكذا دخل العربي وغير العربي في حضارة الإسلام، وأصبحت شخصية المسلم شخصية سوية ليس فيها عُقد نفسية أو اجتماعية، وعندما عُزل خالد بن الوليد رضي الله عنه- عن قيادة الجيوش في الشام لم يُحدث عزله أي مشكلة، ولو حصلت هذه الحادثة بعد بضعة عقود من السنين لزلزلت الأرض.
والمسلم الذي هو (خارج من حضارة) -كما يعبر مالك بن نبي- يتصرف بأنانية مفرطة، قد تضخمت عنده (الأنا)؛ فلا يرى إلا نفسه ولا يهتم إلا بمصلحته الخاصة، ولا يستطيع أن يقوم بعمل تعاوني مع غيره، وإذا ذهبت إلى منزل هذا المسلم (الطيب) ستجد آثار تضييع المال ودون قصد منه في كثير من الأحيان، فأولاده يحطمون كل شيء، وبقايا الطعام تتناثر فوق السجاد الفاخر، والأم الجاهلة تنظر إليهم وكأن شيئاً لم يكن، ولأنه لم يرتب أموره الاقتصادية تذهب أمواله إلى أصحاب المصانع في الغرب والشرق لتكون عوناً لهم على المسلمين، مع أنه يعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن (إضاعة المال). وعندما أراد بلد كأندونيسيا النهوض باقتصاده استدعى الخبير المشهور (شاخت)، ولكن خطط هذا الخبير لم تنجح في أندونيسيا ونجحت في ألمانيا الغربية، والسبب هو: أن الشعب الأندونيسي لم يرق بعد إلى مستوى (حضارة).
وعندما يتم استيراد الأجهزة الحديثة من أفضل ما أنتجته التقنية الغربية لا يستفاد منها كثيراً في بلادنا، لأنه لا يوجد جو اجتماعي ثقافي يحيط بها ويحفظها، فالنظم الاستبدادية جعلت العقول العلمية تهاجر إلى الغرب.
هذا ما يقصده مالك بن نبي عندما يبدأ ويعيد في موضوع الحضارة، وأن المسلم لا يعيش ولا يتنفس الثقافة الملائمة له، وإنما يحمل أمراض بيئته المتخلفة وهو لا يشعر، ونحن نوافقه من هذا الجانب، ولذلك سنبدأ بعرض بعض المعوقات التي يراها مانعة من دخول المسلم في (بادرة حضارة) وتعرقل مساعيه للانطلاق والنهوض.
يتبع

رحيل
01-13-2020, 07:53 PM
القابلية للاستعمار
عندما يستعرض مالك بن نبي التاريخ الإسلامي يقسمه إلى فترات ثلاث:
1- الفترة الروحية التي دخل المسلمون فيها إلى حضارة إسلامية: وتبدأ ببداية البعثة النبوية وتنتهي عند معركة صفين، وتتميز هذه الفترة (بأروع صور الزهد والتقشف التي كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلها الأعلى، كما تتميز بالتضحية من قبل الصحابة مثل: أبي بكر وعثمان وعمر.. ) [24].
وفي هذه الفترة خضعت كل النوازع للإيمان، وغابت كل الأنانيات والعصبيات، واندفع المسلم بكل طاقاته وإمكاناته، وكانت شبكة العلاقات الاجتماعية على أقوى ما يتصوره إنسان، وبلغة علم النفس: فإن الفرد يكون في أحسن ظروفه ويعيش التوازن الدقيق بين: الروح والعقل، أو بين: الروح والمادة
2- الفترة العقلية: وتمثل أوج ازدهارها المدنية الإسلامية كالفترة الأموية والعباسية الأولى، وفيها تدون العلوم وتتأسس المدينة ويستبحر العمران- كما يعبر ابن خلدون.
(بيد أن العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، فتشرع في التمرد بالتدريج) [25]، وتضعف قليلاً شبكة العلاقات الاجتماعية ولكن المجتمع يستمر قوياً بالاندفاع الأول؛ حتى يصل لمرحلة تنتهي فيها قوة الاندفاع كمحرك استنفذ آخر قطرة من وقوده، وتنتهي هذه الفترة بانتهاء عصر دولة الموحدين في المغرب.
3 - مرحلة الغرائز التي تستمر حتى بداية هذا القرن: حيث يحاول العالم الإسلامي النهوض، وفي هذه الفترة تتغلب الغرائز الفردية والتفكك الاجتماعي، ويعيش المسلم على هامش التاريخ، والمجتمع مكوَّن من أفراد لا ينقصهم التدين في كثير من الأحيان ولكنه تدين فردي، فهو يحاول إنقاذ نفسه في الآخرة، ولكن لم يعد يملك التماسك الاجتماعي وتسخير ما خلق الله له لبناء حضارة، فهم أفراد من بقايا حضارة يحملون بين جنوبهم ما يسميه مالك بن نبي (القابلية للاستعمار)، فالمجتمعات الإسلامية المعاصرة لم تُستعمر إلا لوجود هذه القابلية لديها، وقد يتعرض بلد من البلدان للاحتلال والغزو ولكنه يقاوم، أما الاستعمار فهو صفات نفسية في المستَعمِر والمستعمَر، فهناك فرق بين الاستعمار والاحتلال، وقد استعمرت بريطانيا بلداً كبيراً كالهند ولكن إقليماً صغيراً كأيرلندا الشمالية استعصى عليها، وإن بلداً كاليمن لم يدخله الاستعمار ولكنه مصاب بنفس أمراض العالم الإسلامي.
وقبل أن نمضي مع مالك بن نبي في تحليله للفترة الثالثة، لابد من إبداء تحفظ على هذا التقسيم الحاد للتاريخ الإسلامي الذي يبدو فيه أقرب إلى عقلية المهندس [26] منه إلى عقلية المؤرخ، فتركيزه على صِفِّين جعل حكمه قاسياً على الفترة التي أعقبتها، بل وقع في أخطاء تاريخية وشرعية، والضعف العلمي الذي غلب على الأمة الإسلامية إنما هو بعد القرن التاسع وليس بعد الموحدين مباشرة.
وقد عبر ابن خلدون عن هذه الحالة بنبرة الأسى والحزن: (وكأني بالمشرق قد نزل به ما قد نزل بالمغرب ولكن على مقدار ونسبة عمران، وكأنما لسان السكون ينادي في العالم بالنوم والخمول فأجاب) [27]، ومجيء دولة قوية كالدولة العثمانية لم يغير من الناحية الحضارية شيئاً، حتى إذا جاء القرن الثاني عشر الهجري كانت الأمة الإسلامية في غاية الضعف والتمزق.
(وأصبحت دوافع الحياة فاترة، يعبر عنها قول أحدهم عندما يسأل عن مهمة حياته: “نأكل القوت وننتظر الموت”) [28].
إن الأمراض الاجتماعية والنفسية التي يركز عليها مالك بن نبي ربما تظهر لبادي الرأي أنها صغيرة وليست هي مشكلة المسلمين الرئيسية، والجواب على ذلك: أننا حتى لو اعتبرناها صغيرة ولكنها مهمة جداً لأنها كحبات الرمل التي تستطيع إيقاف آلة ضخمة.
الشلل الأخلاقي:
إن أخطر مرض أصاب المسلمين هو الانفصام بين النموذج القرآني والتطبيق العملي، فقد انعدمت الدوافع الآلية التي حركت الرعيل الأول من الصحابة [29].
ويلخِّصها قول الفرزدق الشاعر للحسين بن علي رضي الله عنه- واصفاً أهل العراق: (قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية)، وبدأ ضمير المسلم يتهرب من الحقائق المنزلة (وحركة الخوارج والمعتزلة مثال على ذلك) [30]، ولكن هذا المرض ازداد فشواً في مجتمع (ما بعد الموحدين)، فأصبح المسلم نتيجة لغروره لا يحاسب نفسه، ولا يعترف بأخطائه، وأصبحت المعادلة: (بما أن الإسلام دين كامل وبما أنه مسلم، فالنتيجة أنه كامل، وبذلك اختلت أي حركة عنده لزيادة الجهد والتقدم)[31].
ونتيجة لهذا الخلل ضعفت الروابط الاجتماعية: (فعالم الأشخاص لا يتألف ضمن منهج تربوي، يهتم بالأخلاق) [32]، وهذا التآلف مهم جداً، قال - تعالى -: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 63]، ومبدأ المؤاخاة الذي قام بين المهاجرين والأنصار أصبح من الخطابات السعيدة، والأخوَّة الإسلامية أصبحت كلاماً للزينة وشعور تحجر في نطاق الأدبيات [33]، وهذا الضعف يقصد به المجتمع ككل ولا يقصد به كل فرد، فلا يزال في الأمة (كأفراد) خير كثير، ولا يزال الناس في الريف أقرب للفطرة.
عدم الفعالية:
وكان من نتائج هذا الانفصام الأخلاقي: أن المسلم يحمل أفكاراً صحيحة ولكنه لا يستطيع تطبيقها في دنيا الواقع، كفريسة تعرضت للشلل حتى يسهل ابتلاعها، لأن البيئة التي تحيط به وتغذيه بثقافتها أصبح مثلها الأعلى هو الزهد الأعجمي والصوفية أصحاب المرقعات، ولا يتمثلون بعمر بن الخطاب أو بعبد الله بن المبارك أو الإمام مالك، (والمسلم في هذه الحالة إنما يغالط نفسه، فيهرب إلى هذه التعلات الصوفية الكاذبة) [34]، وفي المقابل: نجد عند الغربيين أفكاراً قد لا تثبت أمام النقد الموجه لها ولكنهم استخدموها إلى أقصى ما يستطيعون، مثل: فكرة (التقدم)، والمسلم يحمل القرآن ولكنه لا يستفيد منه كثيراً في التخطيط لنهضة قادمة، فعقلية ما بعد الموحدين تشله عن الإبداع، هناك خلل في طريقة تفكيره، فعندما اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية لم يستفد منها المجتمع الإسلامي لأنه لم يكن على المستوى الثقافي الذي يحيط هذا الاختراع بالرعاية، والمشكلة: (أن مجتمع ما بعد التحضر يسير إلى الخلف بعد أن انحرف عن طريق حضارته وانقطعت صلته بها) [35].
أمثلة على هذا الخلل:
1- ذهان السهولة (مرض السهولة): يميل المسلم في تقويمه للأشياء إما للغلو فيها أو للحط من قيمتها، ويتمثل هذا في نوعين من الأمراض: فإما أن الأمور سهلة جداً ولا تحتاج إلى تعب وكد فكر، والحل بسيط، وإما أن الأمور مستحيلة، وأبرز مثال على مرض (السهولة): قضية فلسطين، فقد قيل: إن إخراج اليهود سيتحقق بعد أشهر، ولو نفخنا عليهم نفخة واحدة لطاروا، ولكنهم في الحقيقة لم يطيروا، (وهناك من يظن أنه بخطبة رنانة تحل مشاكل المسلمين، وبعضهم يكره أن تدعوه إلى تفكير عميق في موضوع ما من الموضوعات لأنه يؤثر السهولة ويكتفي بتفسير سطحي، وعندما تخطط السياسة طبقاً لمبدأ السهولة فإنها سوف تجتذب إلى تيارها كثيراً من الناس ذوي النوايا الطيبة، الذين يقدرون الأشياء بناء على سهولات الحاضر لا على صعوبات المستقبل) [36] وأيسر طريق لأصحاب السياسات الانتهازية أن يستخدموا كلمات مثل: الاستعمار والإمبريالية والوطنية؛ للتغرير بالشعوب، هذه الكلمات التي (تليق جداً لتشحيم المنحدر حتى يكون الانزلاق عليه نحو السهولة ميسوراً جداً) [37].
2 - ذهان الاستحالة: وقد يحدث العكس، فيرى المسلم أن الأمور مستحيلة ويقف أمامها عاجزاً، وهي في الحقيقة غير مستحيلة ولكن ربما يضخمها عمداً حتى لا يتعب نفسه في الحل، أو أنه يشعر بضآلة نفسه وصغر همته فيحكم عليها بالاستحالة، وقد مرت فترة كانت بعض الشعوب تنظر إلى صعوبة إخراج المستعمر من بلادها [38].
وقد تجد اليوم بعض المسلمين الذين ينتظرون (معجزة الرجل الوحيد) كأن يأتي صلاح الدين آخر ليوحد المسلمين من جديد، ويعتقدون استحالة أية محاولة لاستئناف حياة إسلامية.
3- طغيان الأشياء: عندما يكون مجتمع ما في حالة نهوض يجب أن يتحقق الانسجام والتوازن بين هذه العوالم (الأشياء والأشخاص والأفكار)، ولكن الحقيقة أن النزعة (الكمية) هي المسيطرة، (فلا يسأل المؤلف عن الموضوع الذي تناوله في بحثه، وإنما يسأل عن عدد صفحات الكتاب، وقد يقع المؤلف نفسه في هذه النزعة فيفتخر بأنه أخرج كتاباً من كذا صفحة) [39].
وعندما تريد إحدى المصالح الحكومية تجهيز مقرها: تزوده بعدد خيالي من المكاتب، بحيث يتعذر توفير المكان اللازم لها، والموظف الكبير يجب أن يكون في غرفته أربعة تلفونات وخمس أجهزة تكييف، ومشكلة التنمية تعالج بزيادة الضرائب التي تشل جميع أوجه النشاط الفردي، وفي هذه الأجواء يظن الفرد أن (التكديس) هو الحضارة، فيشتري منتجات الغرب بكميات أكثر مما يحتاج له، (وإذا كان مجتمع ما قبل التحضر فقيراً في عالم الأشياء، فإن مجتمع ما بعد التحضر مكتظ بالأشياء ولكنها خالية من الحياة)[40].
طغيان عالم الأشخاص:
عندما يتعلق الناس بالأشخاص أكثر من تعلقهم بالمبدأ أو الفكرة فإنهم يرون أن إنقاذهم من الحالة التي هم عليها بـ (البطل القادم) الذي ينتظرونه دون أن يقوموا بجهد يذكر.
فالخلاص لا يتم بتجمع أناس على مبدأ يدافعون عنه، ويتفانون فيه، ويتقنون فن التعاون؛ بل بالرجل الذي يجمعهم ويوحدهم، وقد يطول انتظارهم وهم يمنون أنفسهم بالأماني، وهكذا نسمع الخطباء لا يفتأون يذكرون (أين صلاح الدين) أو (قم يا صلاح الدين)، فهم يريدون (صلاحاً) آخر ينقذهم، ولاشك إن (إجلال رجل القدر) مثل إجلال (الشيء الوحيد) مرض منتشر في أرجاء العالم الإسلامي، وهو أحياناً السبب في إفلاس فادح لسياسات عديدة [41] وقد لا يكون هناك رجل القدر ولكن (رجل النحس) الذي نلقى عليه كل ضعفنا وفشلنا، وبدلاً من أن نتدبر الأحداث، ونبحث بطريقة أعمق عن الأسباب الحقيقية لفشلنا يمكن بكل سهولة أن نلصق التهمة بـ (رجل النحس).
فعندما وقع انفصال سورية عن مصر عام (1961م) قالوا: إن السبب هو رجل النحس (حيدر الكزبري) ولكن من الواضح أن الانقلاب كان لابد واقعا في وجود الكزبري أو في غيابه، فجيم عوامل التشجيع على هذا الانفصال كانت متوفرة، سواء من الأخطاء التي وقعت أو من عدم توفر فكرة مضادة للانفصال[42].
وقد تتجسد الأفكار بأشخاص ليسوا أهلا لحملها فتحسب كل أخطائهم وانحرافاتهم على المجتمع الإسلامي أو على الإسلام، وقد تتجسد بأشخاص يحملونها ولكن إذا ماتوا انتهت هذه الأفكار بموتهم، أو فتر حماس الأتباع، لقد مارس العالم الإسلامي، دور البطولة في كفاحه ضد الاستعمار عندما بزغ في سمائه أبطال مثل عبد الكريم الخطابي، وعمر المختار، وعز الدين القسام.. ولكن مشكلة المسلمين الأساسية لم تحل (لأن من طبيعة هذا الدور أنه لا يلتفت إلى حل المشاكل التي مهدت للاستعمار وتغلغله داخل البلاد) [43] ولا يعني هذا إنكار دور هؤلاء الأبطال، أو التقليل من شأنهم، ولكنها العودة إلى الأصل وهو إنشاء تيار إسلامي قوي يتعلق بالمبدأ ويقوم بالجهد الجماعي، ولذلك جاءت الآية القرآنية حاسمة في هذا الموضوع، إن الواجب على المسلمين قيادة الدعوة وحمل الرسالة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) [آل عمران: 144].
يركز مالك بن نبي في أكثر كتبه على هذا المرض، ويطالب المسلمين، والشباب بشكل خاص، بأن يتحول للارتباط بالمنهج لا بشخص معين، لأن هذا الشخص مثل الرأس الذي يقود عربات القطار، فإذا انحرف انحرف القطار كله، وهذا الذي يثيره الأستاذ مالك صحيح بشكل عام ولكنه بالغ في تهميش دور الأشخاص مع أنهم هم الذين يحملون الفكرة ويجسدونها عملياً حتى يقتنع الناس بها، وكلامه فيه شيء من التجريد والمثالية، وهذا الإسلام، وهو حق صريح، إذا لم يحمله أشخاص يتمثلونه ويثرونه بين الناس فلا ينتشر إلا قليلاً.
طغيان الأفكار:
إذا كان هناك طغيان في عالم الأشياء وعالم الأشخاص، فقد يصل الأمر إلى طغيان في عالم الأفكار، فعندما يكون المجتمع في حالة مضطربة، فلا هو بداية دخول الحضارة، ولا هو خارج تماماً عن الحضارة، في هذه الحالة قد يفقد المتعلم تكيفه مع الوسط الاجتماعي، أو لا يستطيع أن يقوم بعمل مثمر يرضي ضميره، عندئذ يلجأ إلى البحث في الأفكار المجردة النظرية التي لا تأخذ طريقها إلى التطبيق، وبدل أن يتكلم عن معاناة الناس ومشاكلهم والتخطيط لمجتمع أفضل فهو يتكلم عن الماضي الذي ليس له صلة بالحاضر، أو يفتعل معارك وهمية ليكون هو أحد أبطالها، وتدفع المطابع كل يوم عشرات الكتب التي لا تمس الواقع المعاش بل هي هروب مفتعل من الواقع، وقد تطغى الأمور النظرية على مدرس في الجامعة فيتحدث عن تركيب الأدوية وعن النباتات ويجهد نفسه في وصف بعض النباتات بدلاً من أن يمد يده من النافذة ويقطف واحدة منها ليقدمها إلى الطلبة حية نابضة، ولكنه مع الأسف يبحث عنها في الكتاب، فهو كل شئ بالنسبة له [44].
وقد يبلغ الخلل في عالم الأفكار، إلى درجة أن يعرقل المبادرات والجهود، وهو ما يسميه مالك بن نبي “الأفكار الميتة” (فالبديهيات في التاريخ، كثيراً ما قامت بدور سلبي كعوامل تعطيل مثل بديهية: الأرض مسطحة، فإنها حالت دون اكتشاف أمريكا قروناً طويلة) [45]، والبوصلة التي ساعدت كولومبس على اكتشاف أمريكا هي من اختراع المسلمين!، وقد كان من حكم الطب القديم أن الحرارة مثلاً دواؤها الرطوبة ولا بأس بهذه الحكمة ما لم تكن قيداً يقيد الفكر فلو استسلم الطب لحكمة كهذه مع صلاحيتها في بعض الظروف لما وجد (باستور) طريقاً لاكتشاف العلاج النافع لداء (الكلب) مثلاً [46].
ولا شك أن هناك كثيراً من الأفكار خذلت أصحابها لأنها لا تحمل أصولاً صحيحة، فكم أهدر من الوقت في جدل ومناقشات، وكم سودت من صفحات مبنية على أحاديث موضوعة أو ضعيفة، وكم عاش المسلمون متأثرين بأفكار الصوفية التي تدعو إلى البطالة والزهد غير المشروع حيث كان مثلهم الأعلى (المجاذيب).
الحق والواجب:
يميل الفرد بطبيعته إلى نيل حقه، وقد ينفر من القيام بواجبه، والأمة التي تصاب بمرض (السهولة) وعاشت قروناً من التخلف، فإن من أهون الأشياء عليها التي لا تكلفها كثيراً هو المطالبة بالحقوق، ونسيان الواجبات، فهي تشبه الكائن (الأميبى) المتبطل، حتى إذا رأى فريسة هينة أبرز إليها ما يشبه اليد ليقنصها، ثم يهضمها في هدوء وبقى هذا ا الكائن يأكل من حاجاته المتواضعة حتى إذا جاء الاستعمار لم يدع له شيئاً فتحرك ضميره (أي معدته) فمد يده إلى فريسة وهمية أطلق عليها لفظة (الحق) [47].
وكان هذا منشأ سياسة الدجل التي مارسها من يتقن هذه الأدوار، وللمطالبة بالحقوق إغراء شديد فهي كالسم لا يجذب الذباب ويجتذب الانتفاعيين، بينما كلمة الواجب لا تجتذب غير (النافعين) [48]، وعندما يستغلها الزعماء المهرجون لتجميع الغوغاء من الشعب ويلعبون بمفتاح (الحقوق) فسيكون من الصعب أن يستخدموا مفتاح الواجبات وتتحول الأمة إلى استجداء حقوقها من الأمم المتحدة ومجلس الأمن والرأي العام العالمي ولكن ما من مجيب، لأن هذه الأصنام ما نصبت إلا لتخدير الشعوب وتعليمها لغة الاستجداء.
وعلى الصعيد السياسي فإن كلمة الواجب توحد وتؤلف بينما كلمة الحق تفرق وتمزق، وهكذا ما خرجت دولة من دول العالم الثالث من ربقة الاستعمار إلا وتناحرت أحزابها على المطالبة بحق اقتسام الغنيمة، بدلاً من أن يتكلموا عن الواجبات، وهذا ما حصل في الجزائر، واليمن الجنوبي، ونيجريا، والكونغو … [49]
ومن الأمثلة التي ترويها ذاكرة الأستاذ مالك بن نبي حول هذا الموضوع: (شاهدت خلال بعض المواقف السياسية في الجزائر جيلاً من السياسيين يقفون من قضية مهمة بالنسبة للشعب الجزائري وهي قضية الأمية، يقفون منها موقفاً جديراً بالملاحظة، فقد كتب هؤلاء السياسيون المقالات الطويلة لشرح هذا المرض الاجتماعي الخطير، موضحين نتائجه المنكرة في حياة الفرد، وهم في هذا كله يهاجمون الاستعمار في خطب ملتهبة بالحماس متقدة بالوطنية، وهكذا يستمرون في خطبهم ومقالاتهم حتى تتقطع أنفاسهم عن الكلام، وتمر الأعوام تلو الأعوام والمشكلة لا تجد في مجهوداتهم حلها، ذلك أنهم لم يدخلوا إلى المشكلة من طريق حلها، لقد أصدرت الحكومة الفرنسية عام (1940م) قوانين استثنائية قاسية حول تنظيم التعليم في مختلف مراحله بالنسبة للطائفة اليهودية (مسايرة لألمانية الهتلرية) وشعرت الطائفة بأن أطفالها قد أصبحوا مهددين بالأمية غير أنها لم تكتب مقالة واحدة تستنكر هذا الإجراء، ولم يلق واحد منها محاضرة عن هذا الأمر، وإنما اجتمعت النخبة فيها ودرست المشكلة لكي تحدد موقفها منها، وحددت موقفها بأن يتطوع كل ذي علم بقدر ما عنده من العلم، وهكذا أصبح كل بيت من بيوت المتعلمين مدرسة في ساعات معينة، ولا نستطيع أن نبرر هذا بتفوق اليهود المادي أو العلمي لأننا لا نستطيع أن نفترض أن الدكتور أو الصيدلي أو المحامى اليهودي أغزر علماً من زميله الجزائري، فالاختلاف هو في الموقف الاجتماعي إزاء مشكلة معينة) [50].
مثال آخر يتذكره ابن نبي وهو يحلل هذه المشكلة: (وبدلا من أن تكون البلاد (الجزائر) ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات فإنها أصبحت منذ سنة (1936م)، سوقاً للانتخابات، وصارت كل منضدة في المقاهي منبرا تلقى منه الخطب الانتخابية، وهكذا تحول الشعب إلى جماعة من المستمعين يصفقون لكل خطيب، أو قطيع انتخابي يقاد إلى صناديق الاقتراع، وفى هذا اختلاس أي اختلاس للعقول التي أشرفت على قطف ثمار نهضتها) [51].
وهذا المرض لا يزال مسيطراً على العقول، فكثيراً ما نسمع في قرية من القرى أو حي من الأحياء المطالبة بحقهم في فتح طريق أو تنظيف شارع أو فتح مدرسة، وكان بوسعهم أن يتعاونوا لإنجاز مثل هذا العمل.
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم الناس القيام بالواجب عندما أعطى الذي جاء يطلب صدقة حبلا وفأسا وأمره أن يحتطب ولا يتكفف أيدي الناس [52].
العقلية الذرية:
يقصد بهذا المصطلح أن بعض الناس (ينظر إلى الأحداث والوقائع مجزأة منفصلة فردية، كأنما في مجموعها لا تكون حلقة من التاريخ وإنما كوماً من الأحداث) [53].
وهذه العقلية موجودة في أوساط المسلمين بسبب بعدهم عن (الفعل الحضاري) وبسبب التكوين الاجتماعي الذي ورثناه، ومن مظاهرها (أن جهودنا في كل مجال لا تتسمم بالجهد المتواصل ولكن بالمحاولات المتتابعة، فما أن يبدأ نشاط ما حتى يذهب فجأة كأنه وثبة برغوث أو كأنه مركب على صورة الخط المنقط الذي يمر من نقطة إلى أخرى دون أن يصور شيئاً، ولنعتبر على سبيل المثال كم منذ نهاية الحرب ظهرت مجلة في بلادنا ثم اختفت بنفس السرعة) [54].
ومن مظاهر هذه العقلية (العجز عن أن نعقد صلات بين الأفكار وعن أن نعطي لمناقشة مشكلة ما حركة متصلة مطردة لا يحجل فيها الفكر من نقطة إلى نقطة، بل يطرد دائماً من مقدمة إلى نتيجة) [55] (وإذا كان من الممكن تجزئة المشكلة لتجزئة حلولها “فكل الطرق تؤدي إلى روما” ولكن الطريق عبر المنهج هو أطول الطرق بلا شك، إن طريق الحضارة لا يمكن خطه بإقامة مدرسة هنا ومصنع هناك وسدٍّ هنالك، أو بوضع سلة معدنية في جانب هذا الشارع حيث لا أحد يفكر في إلقاء المهملات) [56].
ولو أننا تعودنا الربط والتعميم وتتبع الجزئيات من الكليات لما استغربنا تشابه المشكلات الخارجية التي يواجهها العالم الإسلامي، فالعالم الذي نواجهه (الاستعمار) لا تأتى فيه الأشياء عفواً وإنما كنتائج لخطط محكمة، فعندما تفشل بعثة علمية في بلاد الغرب أو أحد أفراد هذه البعثة نفاجأ: كيف حصل هذا؟ [57].
ولو تتبعنا بعض الظواهر المحيرة في العالم الإسلامي لوجدنا أن المحرك لها واحد، ولكن عقلية تجزئ الأشياء تجعلنا لا نشعر بالقاسم المشترك فيما بينها.
إن هذا النزوع نحو تجزئة مشكلة الحياة إلى ذرة ذرة، وهذا العجز عن التعميم ليس من خواص الفكر المسلم كما يحاول أن يؤكده المستشرق الإنكليزي “جب” (بل هو طراز للعقل الإنساني بعامة عندما يقصر عن بلوغ درجة معينة من النضج، وإن التراث الثقافي الخطير الذي خلفته الحضارة الإسلامية يظل شاهدا على ما كان يتصف به الفكر الإسلامي في عصوره الذهبية بالإحساس “بالقانون” وهو يستلزم القدرة على التركيب، وأصول الفقه الإسلامي أكبر دليل على ذلك) [58].

إيلين
01-13-2020, 08:25 PM
â—ڈ


شكرا ع الطرح المميز فعلا
عاشت الايادي
ويعطيك العافيه وبانتظار جديدك
كنت هنا

â—ڈ

سمارا
01-13-2020, 10:31 PM
بارك الله فيك على الطرح القيم
جزاك ربك خير الجزاء
وجعله في ميزان حسناتك
دمت بحفظ الرحمن

سمأأأأأرا

الدكتور على حسن
01-13-2020, 11:53 PM
كل التحية وكل التقدير
على موضوعك
الاكثر من رائع
ربنا يبارك فى حضرتك يارب
لك كل تحياتى وتقديرى وحبى
الدكتور علــى

خالد الشاعر
01-14-2020, 07:59 AM
الله يجزاكي كل خير على مجهودك
ويجعل الأجر الاوفر بميزان حسناتكِ
ننتظر جديدكِ القادم
مودتى

أبو علياء
01-14-2020, 08:43 AM
جزاكم الله خيراً ونفع بكم
واثابكم الفردوس الاعلى من الجنه
وجعل كل ما تقدمونه في موازين حسناتكم
لكم مني ارق المنى
وخالص التقدير والاحترام

الأمير
01-14-2020, 09:38 AM
بآرك الله فيك
جزآك الله خيرآ
وجعله في ميزآن حسنآتك

روحي تبيك
01-14-2020, 04:53 PM
جزاك الله خير وجعله في ميزان حسناتك
ولا حرمك الأجر يارب
وأنار الله قلبك بنورالإيمان
أحترآمي لــ/سموك

الدكتور على حسن
01-15-2020, 01:27 AM
كل التحية وكل التقدير
على موضوعك
الاكثر من رائع
ربنا يبارك فى حضرتك يارب
لك كل تحياتى وتقديرى وحبى
الدكتور علــى

نور القمر
01-15-2020, 10:14 PM
إنتقاء رآئع وطرح جميل كجمال روحك
دآئمـآ مانرى الإبدآع والتمييز يلآمس إنتقائك
لآحرمنـآ الله من روعة ذآلك الإختيار
وجميل الطرح والإبدآع
لك خآلص ودي..

لَـحًـــنِ ♫
01-16-2020, 12:28 AM
يَآَ مَآَلْ اََلَعَآَفِيَهَ http://www.jnoon-m.com/vb/images/smilies/004.gifhttp://www.jnoon-m.com/vb/images/smilies/004.gif
لَآعِدَمَنِآ هـَ الَعَطَآءْ وَلَآَ هَـ الَمْجَهُودَ الَرَائَعْ
كُْلَ مَآتَجَلَبَهْ أًنَآَمِلكْ بًأًذخْ بَاَلَجَّمَآلْ مُتًرّفْ بَ تمًّيِزْ
وُدِيِّ http://www.jnoon-m.com/vb/images/smilies/137.gifhttp://www.jnoon-m.com/vb/images/smilies/137.gif

دره العشق
01-16-2020, 09:27 AM
شكرآ جزيلا على الموضوع الرائع و المميز
واصل تالقك معنا في المنتدى
بارك الله فيك

ننتظر منك الكثير من خلال ابداعاتك المميزة
لك منـــــــ اجمل تحية ــــ..ــــي

دلوعة عشق
01-16-2020, 09:30 AM
موضوع رائع
رفع الله قدرك فى الدارين
واجزل لك العطاء
شكرا لطرحك المميز

دلوعة عشق
01-16-2020, 09:47 AM
موضوع رائع
رفع الله قدرك فى الدارين
واجزل لك العطاء
شكرا لطرحك المميز

بٰٰقايٰا روحہٰ
01-16-2020, 10:55 PM
رزقك خالقي أعالي جنانه
ووفقك لخير الدنيا والأخره
أسأل الله لك الجنه
دمت بحفظ الله:34:

ڞــمۭــۃ ۛ ּڂۡــڣــﯟڦ ❥
01-26-2020, 05:53 PM
,,~

جزاك الله كل خير
جعله في ميزان حسناتك

,,~

Şøķåŕą
11-22-2022, 12:28 PM
_



سلمت الأيادي ..
ويعطيك العافية لـ جمال الآنتقاء
لروحك جنائن الورد .

نور القمر
10-03-2024, 12:42 PM
طرح قيم وَ مفيد
سلمت يمناك عَ الانتقاء الرائع
كل الشكر وَ التقدير لك
يعطيك العافية

Şøķåŕą
10-30-2024, 07:22 PM
شكراً لك
بإنتظار الجديد القادم
دمت بكل خير