القرآنُ كلامُ الله الخبير بما يُصلح قلوب الخلق ونفوسَهم وشئونهم في الدنيا والآخرة، وفيه سورة تعلو بالإنسانية إلى أعلى مراتبها؛ وهي سورة النساء، سُمِّيت بذلك لذكر النساء فيها وتفصيل كثيرٍ من أحكامِهِنَّ.
ومِنْ مَقَاصِدِها: تنظيم المجتمع المسلم من داخله، من خلال حفظ الحقوق الاجتماعية والمالية، إزالةً لرواسب الجاهلية، وتركيزًا على حقوق النساء والضعفاء.
وقد جاءت أحكام المواريث وكيفية قسمتها بين ورثة الميت- على وجه التفصيل- في هذه السورة في ثلاث آيات، ثنتان منها متتابعتان، والثالثة هي آية الْكَلَالَة، آخر آية في السورة، والكَلَالَة: من لا وَلَد له ولا والِد.
أما الآية الأولى فقوله سبحانه: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ إلى قوله: ﴿ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 11]، والآية الثانية قوله: ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ﴾ إلى قوله: ﴿ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [النساء: 12]، والتي في آخر السورة: قوله تعالى: ﴿ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ ﴾ إلى قوله: ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النساء: 176].
وهذه الآيات هي الأساس والأصل الذي يقوم عليه علم المواريث، وقد جاءت في غاية البيان والتفصيل والوضوح، وصيغت بأسلوب سهل وكلام قليل موجز، وقد دَلَّتْ- بما تحويه من معانٍ بالغة الدلالة على المضمون- على أحكام شرعية كثيرة وفوائد تربوية جليلة، أشير إلى بعضٍ هذه الفوائد في السطور التالية:
لم يكن للمرأة في الجاهلية حقُّ الإرث، وكانوا يقولون: لا يرثنا إلا من يحمل السيف، فأقرَّ لها الإسلام حقًّا في الميراث والوصية زوجةً وأمًّا وبنتًا وأختًا.
ولقد بلغ من تكريم الشَّرْعِ لها، وحِفْظه لحُقُوقِها أنه جعل نصيبها في الميراث هو الأصل الذي يُؤخذ منه، والمعيار الذي يُنْسب إليه غيرُه، يشير إلى ذلك قولُه تعالى: ﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11]، وفي ذلك يقول الطاهر ابن عاشور (ت: 1393هـ):
جعل حظ الأنثيين هو المقدار الذي يُقَدَّرُ به حَظُّ الذَّكَرِ، ولم يكن قد تَقَدَّمَ تعيين حَظٍّ لِلْأُنْثَيَيْنِ حَتَّى يُقَدَّرَ به، فَعُلِمَ أَنَّ المرادَ تضعيفُ حَظِّ الذَّكَرِ من الأولاد على حَظِّ الأنثى منهم، وقد كان هذا المراد صالحًا لأن يُؤدَّى بنحو: (للأنثى نصف حَظِّ الذَّكَرِ)، أو (للأنثيين مثل حَظِّ الذَّكَرِ)؛ إذ ليس المقصود إلا بيان المضاعفة؛ ولكن قد أُوثِرَ هذا التعبير لِنُكْتَةٍ لَطِيفَةٍ، وهي الإيماء إلى أَنَّ حَظَّ الْأُنْثَى صار في اعتبار الشرع أَهَمَّ مِنْ حَظِّ الذَّكَرِ، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية، فصار الإسلام يُنَادِي بِحَظِّهَا في أول ما يقرع الأسماع: قد عُلِمَ أَنَّ قِسْمَةَ المال تكون باعتبار عدد البنين والبنات[1].
وتقديم الخبر على المبتدأ في هذه الجملة للتنبيه مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ على أَنَّ الذَّكَرَ صار له شريك في الإرث وهو الأنثى؛ لأنه لم يكن لهم به عَهْدٌ مِنْ قَبْلُ؛ إذ كان الذكور يأخذون المال الموروث كلَّه، ولا حَظَّ للإناث[2].
ومعنى كلمة (حَظ)؛ أي: نصيب، وفي استعمال هذه الكلمة إشارة إلى أن عطاء الأنثى- ولو كان نصف عطاء الرجل- قدر كبير لها فيه حظ؛ أي: عطاء فيه كرم وسخاء؛ لأن التكليفات المالية عليها دون التكليفات المالية على الرجل بقدر كبير يعدُّ أكثر من النصف[3].
الوقفة الثانية: لا يَحِلُّ لأحد أن يُغَيِّرَ من فرائض المواريث شيئًا:
لو تُرِك تقدير الإرث إلى عقول الناس واختياراتهم، لحصل من الضرر ما الله به عليم؛ وذلك لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن، في كل زمان ومكان، فقد يظن الميتُ بأحد ورثته خيرًا؛ فيُعطيه المال كُلَّه، أو يظن به شرًّا فيحرمه منه، وقد يكون الحال خلاف ذلك، فالذي شرعه الله هو الحق لا ما يخطر بعقولنا نحن؛ ولهذا قال سبحانه: ﴿ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ﴾ [النساء: 11].
ويعلل الرازي (ت: 606هـ) مجيء هذه الجملة في ثنايا الحديث عن أحكام الميراث بقوله: لما ذكر تعالى أنصبة الأولاد وأنصبة الأبوين، وكانت تلك الأنصبة مختلفة والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات، والإنسان ربما خطر بباله أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع وأصلح، لا سيما وقد كانت قسمة العرب للمواريث على هذا الوجه، وأنهم كانوا يُورِّثون الرجال الأقوياء، وما كانوا يُورِّثون الصبيان والنسوان والضعفاء، فالله تعالى أزال هذه الشبهة بأن قال: إنكم تعلمون أن عقولكم لا تحيط بمصالحكم، فربما اعتقدتم في شيء أنه صالح لكم وهو عين المضرة، وربما اعتقدتم فيه أنه عين المضرة ويكون عين المصلحة، وأما الإله الحكيم الرحيم فهو العالم بمغيبات الأمور وعواقبها.
فكأنه قيل: أيها الناس، اتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم، وكونوا مطيعين لأمر الله في هذه التقديرات التي قدرها لكم.
فقوله: ﴿ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ﴾ [النساء: 11] إشارة إلى ترك ما يميل إليه الطبع من قسمة المواريث على الورثة،وقوله: ﴿ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ﴾ [النساء: 11] إشارة إلى وجوب الانقياد لهذه القسمة التي قدرها الشرع وقضى بها[4].
يختم الله الآيات بأسمائه الحسنى؛ ليدل على أن الحكم المذكور له تعلُّق بذلك الاسم الكريم، وقد ختم سبحانه الآية الأولى بقوله: ﴿ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 11].
وفي مناسبة هذا الختام يقول الشيخ السعدي (ت: 1376هـ): فكونه عليمًا حكيمًا يعلم ما لا يعلم العباد، ويضع الأشياء مواضعها، فاخضعوا لما قاله وفصَّله في توزيع الأموال على مستحقِّيها الذين يستحقونها بحسب علم الله وحكمته، فلو وَكَلَ العبادَ إلى أنفسهم، وقيل لهم: وزِّعوها أنتم بحسب اجتهادكم، لدخلها الجهل والهوى وعدم الحكمة، وصارت المواريث فوضى، وحصل بذلك من الضرر ما الله به عليم؛ ولكن تولَّاها وقسمها بأحكم قسمة وأوفقها للأحوال وأقواها للنفع؛ ولهذا من قدح في شيء من أحكامه، أو قال: لو كان كذا وكذا فهو قادح في علم الله وفي حكمته.
ولهذا يذكر الله العلم والحكمة بعد ذكر الأحكام، كما يذكرها في آيات الوعيد؛ ليبين للعباد أن الشرع والجزاء مربوط بحكمته، غير خارج عن علمه[5].
وأما عن مناسبة ختم الآية الثانية بقوله: ﴿ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [النساء: 12]، فيقول البِقَاعِيُّ (ت: 885هـ): لما بيَّن سبحانه الأصول وفصَّل النزاع، وكان ذلك خلاف مألوفهم، وكان الفطام عن المألوف في الذُّروة من المشقة؛ اقتضى الحال الوعظ بالترغيب والترهيب، فختم القصة بقوله: ﴿ واللهُ ﴾؛ أي: الجامع لصفات الكمال من الجلال والجمال، وللإشارة إلى عظيم الوصية كرر هذا الاسم الأعظم في جميع القصة، ثم قال: ﴿ عَلِيمٌ ﴾؛ أي: فلا يخفى عليه أمر من خالف بقول أو فعل، نية أو غيرها ﴿ حَلِيمٌ ﴾ فهو من شأنه ألَّا يعاجل بالعقوبة فلا يغتر بإمهاله، فإنه إذا أخذ بعد طول الأناة لم يفلت، فاحذروا غضب الحليم! وفي الوصفين مع التهديد استجلاب للتوبة[6].
الوقفة الرابعة: التحذير من التهاون في قسمة المواريث وحرمة الإضرار في الوصية:
إذا تأملنا آيتَيْ قسمة الميراث (النساء: 11، 12)، نجد أن تقديم الوصية على الدَّيْن في الآيتين ورد أربع مرات بصيغ مختلفة، ولعل الحكمة في ذلك: التنبيه والحث على تنفيذ الوصية مخافة الإهمال، وفي ذلك يقول الزمخشري (ت: 538هـ): لما كانت الوصية مشابهة للميراث في كونها مأخوذةً من غير عِوَض، كان إخراجها مما يشقُّ على الورثة، ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مظنَّة للتفريط، بخلاف الدَّيْن فإنَّ نفوسَهم مطمئنةٌ إلى أدائه؛ فلذلك قدمت على الدَّيْن تأكيدًا على وجوبها، والمسارعة إلى إخراجها مع الدَّيْن؛ ولذلك جيء بكلمة «أو» للتسوية بينهما في الوجوب [7].
والضرر في الوصية يقع على وجوه:
أحدها: أن يُوصيَ بأكثرَ من الثُّلُث.
وثانيها: أن يُقِرَّ بكل ماله أو ببعضه لأجنبي.
وثالثها: أن يقر على نفسه بدَيْن لا حقيقة له.
ورابعها: أن يقر بأن الدَّيْن الذي كان له على غيره قد استوفاه ووصل إليه.
وخامسها: أن يبيع شيئًا بثمن بخس، أو يشتري شيئًا بثمن غالٍ.
وسادسها: أن يُوصي بالثُّلُث لا لوجه الله؛ لكن لغرض ألَّا يصل المال إلى الورثة[8].
وقد عَدَّ العلماء الإضرار في الوصية من الكبائر، استنادًا إلى أدلة من الكتاب والسنة، إضافة إلى أن مخالفة أمر الله عند القرب من الموت يدل على جراءة شديدة على الله تعالى، وتمرُّد عظيم عن الانقياد لتكاليفه، وذلك من أكبر الكبائر.
الوقفة الخامسة: الله عز وجل أرحم بعباده وأعلم بمصالحهم من أنفسهم:
من خصائص الشريعة الإسلامية أنها تتوافق مع الفطرة البشرية؛ فالإنسان مجبولٌ على حُبِّ المال والولد حبًّا شديدًا، ويحب أن ينتقل المال إلى فرعه؛ لذا كان الميراث من أكثر أسباب النزاع بين الناس، ومن ثَمَّ لم يجعل الله قسمته إلى نبي مرسل، ولا إلى مَلَك مُقرَّب؛ وإنما تولَّى سبحانه قسمته بنفسه.
وأول ما يلفت النظر التعبير بلفظ (يوصيكم) فهذه الصيغة لم ترد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة في شأن توصية الآباء بالأبناء، والتعبير بلفظ (يوصيكم) له ملحظ جميل، فمعنى (يوصيكم) يأمركم، وعدل إلى لفظ الإيصاء؛ لأنه أبلغُ وأدَلُّ على الاهتمام، وطلب حصوله سرعة.
وفي اللغة يقال: وصَّى فلانًا بالشَّيء: أوصاه؛ أمره به وفرضه عليه، نصحه وأرشده، وصَّى فلانًا بولده وعلى ولده: أوصاه؛ استعطفه عليه.
وفي قوله تعالى: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾ [النساء: 11] جملة من الحِكَم والدلالات، أهمها:
• مع أنه أضاف الأولاد إليهم بقوله: ﴿ أَوْلَادِكُمْ ﴾، جعل الوصية لنفسه دونهم؛ ليدل على أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالد بولده.
• وجاء بالاسم الظاهر ولم يقل: (أوصيكم) ولا (نوصيكم) كما قال:﴿ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ ﴾ [البقرة: 252] و﴿ نَقُصُّ عَلَيْكَ ﴾ [يوسف: 3]؛ لأنه أراد تعظيم هذه الوصية والترهيب من إضاعتها، كما قال: ﴿ يَعِظُكُمُ اللَّهُ ﴾ [النور: 17] و ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 28]، فمتى أراد تعظيم الأمر جاء بهذا الاسم ظاهرًا؛ لأنه أهيب أسمائه وأحقها بالتعظيم [9].
• وقال ﴿ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾ولم يقل: (في أبنائكم)؛ لأن لفظ الولادة هو الذي يليق بمسألة الميراث، ففي تخصيص هذا اللفظ فِقْه وتنبيه: أما الفِقْه فإن الأبناء من الرضاعة لا يرثون؛ لأنهم ليسوا بأولاد، والولد يقع على الذكر والأنثى، والواحد والجمع، بخلاف الابن، وأما التنبيه فإن لفظ الولد دلالته على أن الجنين والسقط المستهلَّ يَرِث؛ لأنه ولد قد تولَّد، وقلما يقال في مثله ابن فلان حتى يكبر فينسب إلى الأب؛ لأن لفظ البنوَّة موضوع للنسب، بخلاف لفظ الولد، ألا ترى أنهم يقولون في الأنساب: ابن فلان بن فلان بن فلان[10].