دولة الموحدين.. نكبة البداية ونكسة النهاية - تقرير
دولة الموحدين.. نكبة البداية ونكسة النهاية - تقرير
أحمد الشجاع
إذا البداية خاطئة فالنهاية قد تكون سريعة ومؤسفة.. ويكون الوضع أخطر في حال بناء الدول؛ لأن الضرر يكون أعم وأكبر..حتى ولو ظهر بعض الخير والصلاح تظل أضرار البداية قائمة بتداعياتها ونتائجها. وتتمثل البداية الخاطئة بانحراف الهدف أو السلوك عن المسار الصحيح في عملية التأسيس، وكلما استمر هذا الخطأ تتراكم الأضرار وتشتد. وقد شهد العالم الإسلامي – عبر تاريخه - كثيراً من الدول التي قامت على أرضه.. وتنوعت غاياتها وأهدافها وظروف نشأتها..بعض هذه الدول كان ظهورها ضرورياً لإنقاذ الأمة كالدولة الزنكية والأيوبية، بينما كان ظهور دول أخرى وسيلة في تدمير الأمة كالدولة العبيدية، وبعض الدول كان ظهورها سبباً في إضعافها وإرهاقها وتشتيت كيانها كدولة الموحدين التي قامت على أسس وأهداف لا علاقة لها بنهوض الأمة أو إنقاذها، بل أدت انتكاسة إسلامية بشق صف المسلمين وسقوط دولة المرابطين التي كانت أحوج ما تكون لتكاتف المسلمين في مواجهة الأعداء المتربصين بهم. صحيح أن دولة الموحدين خدمت الإسلام والمسلمين في بعض فترات تاريخها القصير، إلا أن عوامل ضعفها ظلت باقية منذ البداية وحتى النهاية؛ وهذا كان له انعكاس سلبي على الأمة الإسلامية. وفي التقرير التالي نبذة عن هذه الدولة من حيث البداية وبعض جوانب مسارها، وعوامل سقوطها. أسس فاسدة محمد بن تومرت مؤسس الدولة اختلف المؤرخون في تحديد نسب بن تومرت فبعضهم قال إنه عربي، وينتهي نسبه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق ابنته فاطمة. والبعض الآخر يجعل نسبه بربرياً صرفاً. والبعض الآخر يجعله نسباً مختلطاً بين البربر والعرب، وإن كان ابن تومرت والموحدون من بعده يصرون على أن المهدي عربي النسب، قرشي الأصل من صلب الرسول. والمتتبع لتاريخ ابن تومرت يدرك أنه لم يظهر ادعاءه النسب القرشي دفعة واحدة بل إنه تدرج في هذا الأمر، حتى يضمن قبول الناس له، فبعد أن اطمأنَّ لقبول دعوته، وإلى تمكنه من أتباعه، أخذ يشوقهم إلى المهدي ونسبه، ثم لما قبلوا هذا الأمر، ادعى ذلك الأمر لنفسه. ويرجح الدكتور الصلابي أن محمد بن تومرت ادعى النسب القرشي الهاشمي كوسيلة لكسب الأنصار لدعوته الناشئة، ويستند في ترجيحه إلى: - إنه لم يشتهر بين المؤرخين لاسيما علماء الأنساب منهم أن ابن تومرت يعود إلى أصل عربي، وإنما معظم الذين قالوا بهذا هم من مؤرخي الدولة الموحدية الذين سجلوا تاريخها بوحي من سلاطينها وأمرائها، أو بتأثر بدعوة ابن تومرت. - إن هذا الادعاء كان مألوفاً عند أصحاب المطامح الدينية والسياسية في بلاد المغرب. - ويضاف إلى ما سبق أن انتساب ابن تومرت إلى الأصل العربي لم يكن معروفاً عند أتباعه إلا بعد أن ادّعى ذلك لحاجة في نفسه. أما تاريخ ميلاده فقد ذكر المؤرخون عدة روايات تدل على اضطرابهم في تحديد سنة الولادة، فمنهم من قال سنة 473هـ، ومنهم من قال سنة 485هـ، ومنهم من قال سنة 469هـ. منهجه العقدي عندما كان طفلاً تلقى دراسته الأولية بالكتاتيب في قريته، فتعلّم القرآن حفظاً ورسماً وقراءة على عادة المغاربة كما وصفها ابن خلدون في قوله: "أما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء الدراسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه.. إلى أن يجاوزوا حدّ البلوغ إلى الشبيبة". وربما قبل رحلته إلى المشرق تعلم العربية وآدابها وشيئاً من الفقه، لقد ظهر اهتمامه وشغفه بالعلم منذ شبابه، قال ابن خلدون: "وشبّ محمد هذا قارئاً للعلم، وكان يسمّى "آسفو" ومعناه الضياء لكثرة ما كان يسرج في القناديل بالمساجد لملازمتها". وتاقت نفسه للمزيد من العلوم الشرعية، فقصد المشرق الإسلامي لينهل من منابع العلم، ومصادر المعارف، ومهد الحضارات ما يفيده في تحقيق أهدافه التي يرنو إليها. فبدأت رحلته في عام 500هـ، فحج وشرع في طلب العلم، ودامت رحلته خمسة عشر عاماً كان لها الأثر المباشر في تشكيل شخصيته والتأثير في آرائه وأفكاره. ومكث في العواصم الإسلامية من أجل التعلم والتتلمذ على العلماء في كل من بغداد، والإسكندرية والحجاز، وكان قبل الرحلة المغربية سافر إلى الأندلس حيث نزل بقرطبة، ودرس بها على القاضي أبي جعفر حمدين بن محمد بن حمدين إلا أن الإقامة في قرطبة لم تدم طويلاً بل كانت محطة للعبور..ومن الأندلس توجه إلى تونس بحراً ونزل بالمهدية، حيث درس بها على أبي عبدالله المازري ثم قصد مصر على طريق جزيرة جربة حيث أقام بها بعض أيام. ثم توجه إلى الديار المصرية وتلقى دروساً وأخذ علماً من الشيخ أبي بكر الطرطوشي، ولم يمكث طويلاً في مصر حيث فضل الذهاب إلى الحجاز لحج البيت الحرام ويؤدي الفريضة، وتوجه من الحجاز نحو العراق ومكث بها ما يزيد على عشر سنوات، وهناك تبحر في علم الكلام وعقائد الاعتزال، والأشاعرة، وأخذ من كل ما يخدم فكرته طرفاً. ومن أشهر شيوخه في بلاد المشرق الإسلامي: الغزالي، والكيا الهرّاسي، والمبارك بن عبد الجبار، وأبو بكر الشاشي. لقد استطاع ابن تومرت أن يستفيد من رحلته المشرقية، وأن يتحصل على علوم متنوعة تجمع بين العلوم العقلية والنقلية، فضبط الأصول، وعلم الكلام وعقائد الأشاعرة وتأثر بالمعتزلة وغير ذلك من العلوم. ورأى عن كثب أقطاب المدارس الفكرية من الأشاعرة والمعتزلة والشيعة وغيرها من المذاهب، وحضر مناقشتهم وندواتهم واطلع على فلسفتهم وروح حركاتهم وبذلك تبلورت آراؤه وأفكاره. وساعدته رحلاته المغربية والمشرقية على الوقوف على أحوال العالم الإسلامي، واستوعب أسباب الانهيار والتدهور التي تعانيها دول أمارات بلاد المغرب..وكان ذلك من الأسباب القوية التي دفعته إلى الطموح في القضاء على أنظمة الحكم الموجودة في المغرب، والتخطيط لإقامة دولة موحدية قوية لا في بلاد المغرب وحدها، بل والعالم الإسلامي كله. ونظر في المدارس الفكرية الرئيسية التي وجدت في بلاد المغرب قبله، وخصوصاً تلك المدارس والأفكار والمذاهب التي كان لها ثقل مذهبي وسياسي تحميه دولة وشوكة وقوة والتي أكسبت تلك الاتجاهات هيبة ومكانة عند الناس؛ مما ساعد على شيوعها وانتشارها في مناطق متعددة في الشمال الأفريقي. وأهم تلك الاتجاهات والأفكار التي قامت على أسس قوية تحميها دولة في بلاد المغرب والتي استقى منها بن تومرت أفكاره وزاد عليها: - الاتجاه الأول: السني: ويمثله دولتا الأغالبة والمرابطين والدولة الزيرية الصنهاجية في آخر عمرها: وكانت دولة المرابطين - في مستهل القرن السادس الهجري - قد بدأ الضعف ينتابها، لاسيما بعد ظهور دعوة بن تومرت في بلاد المغرب الأقصى، ثم ما لبث الموحدون أن قضوا عليها حينما دخلوا مدينة مراكش وقتلوا السلطان إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين سنة 541هـ. - الاتجاه الثاني: الخارجي: الذي يمثله دولتا المدراريين (140-347هـ) والرستميين (144-296هـ): وقد قامت دولة بني مدرار في سجلماسة جنوب المغرب الأقصى سنة 140هـ، على يد عيسى بن يزيد المكناسي والذي كان يدين بالمذهب الصفري أحد الاتجاهات الرئيسية عند الخوارج، حيث بسطت هذه الدولة سلطانها على منطقة سلجماسة جنوب بلاد المغرب الأقصى. أما دولة الرستميين، والتي كانت تنهج المذهب الأباضي، فقد أسسها في بلاد المغرب الأوسط عبدالرحمن بن رستم (144-171هـ) سنة 144هـ حيث اتخذ مدينة تاهرت حاضرة له. وقد استمرت هذه الدولة تحكم بلاد المغرب حتى قضى العبيديون على آخر أمرائها وهو اليقظان بن أبي اليقظان (292-296هـ)، وذلك سنة 296هـ. لكن سقوط هذه الدولة لا يعني سقوط المذهب الخارجي في بلاد المغرب فقد استمر وجود هذا المذهب هناك حتى بعد سقوط تلك الدولة. - الاتجاه الثالث: الرافضي: وتمثله دولة العبيديين: وهذا الاتجاه كان آخر المذاهب الفكرية دخولاً لبلاد المغرب؛ إذ أن الدولة العبيدية التي نشرت هذا المذهب هناك، لم تقم في بلاد المغرب الأدنى إلا في سنة 296هـ. وكانت الدولة العبيدية قد تمكنت من القضاء على الأغالبة، والرستميين، والمدراريين، والأدارسة فاستطاعت بذلك - إلى حد ما - أن تبسط سلطانها السياسي على معظم أقاليم بلاد المغرب، إلا أنها لم تتمكن من فرض مذهبها الديني على أهالي تلك الديار؛ وذلك لأن الناس لم يتقبلوا أفكار العبيديين؛ لما فيها من غلو وشطط لم يألفه سكان تلك الديار، بل إنهم تطلعوا إلى خلافة سنية جديدة قامت في الأندلس هي الخلافة الأموية بالأندلس، كما أن أهل السنة قاموا بمقاومة المد الرافضي العبيدي بكل ما يملكون؛ وهذا مما جعل الروافض يرحلون إلى مصر عام 362هـ. - الاتجاه الرابع: الاعتزالي: ويمثله دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى (172-313هـ): أقام هذه الدولة إدريس بن عبد الله بن الحسن سنة 172هـ، وذلك حينما آوته قبيلة أوربة البربرية، حيث امتدت حدود دولة الأدارسة من المحيط الأطلسي غرباً إلى تلمسان ووهران شرقاً. ولما توفي إدريس بن عبد الله سنة 177هـ بقي الأمر في سلالته حتى قضى على دولتهم العبيديون عام 313هـ. وكان الأدارسة يطمحون إلى توحيد العالم الإسلامي تحت قيادتهم مستندين في ذلك إلى أصلهم الشريف، وقرب نسبهم للرسول صلى الله عليه وسلم. أما تبني دولة الأدارسة للمذهب الاعتزالي فهو أن زعماء هذه الدولة لاسيما القدماء منهم وجدوا أن هذا المذهب قد انتشر في بلاد المغرب الأقصى خاصة بين أفراد قبيلة أوربة التي ساعدت إدريس الأول في إقامة دولته، ولهذا لم يجدوا مناصاً من إظهار موافقتهم الظاهرية لهذا الفكر ليبقى في دولتهم بعد قيامها مراعاة منهم لزعماء قبيلة أوربة الذين تبنوه وعملوا على نشره، لكن الادارسة لم يظهروا حماساً وجعله مذهباً رسمياً لدولتهم. وقد استفاد محمد بن تومرت من جميع المذاهب السابقة، وزاد عليها مما يخدم ميوله ويحقق أهدافه؛ ولذلك جاءت الأسس الفكرية لدعوته خليطاً مضطرباً ونسيجاً فكرياً متبايناً. إن ابن تومرت لم يكن صاحب مدرسة فكرية تعرف به لها فلسفتها وأفكارها وقضاياها التي تطرحها وتناقشها وتعمل على تثبيتها ونشرها. ولم يكن ابن تومرت رجل فكر بحت فقط، ولا كان رجل سياسة فقط. بل انه في الحقيقة جمع في شخصه رجل الدين ورجل العلم ورجل السياسة. فهو في دينه، ذهب في عبادته وتقشفه إلى درجة التصوف، وهو في علمه متبحر، ودفع بالعلم وتشجيع العلماء والحركة العلمية في عهد الدولة الموحدية، وآتى هذا الغرس نتاجه في عهد يوسف بن عبد المؤمن، ويعقوب بن يوسف. ويعتبر رجل السياسة؛ لأنه هو الأول والوحيد الذي خطط لقيام دولة الموحدين ومهد لها سبيل القيام، ووضع لها الأسس التي قامت عليها. إن ابن تومرت لم يتأثر بمدرسة واحدة من مدارس الفكر التي كانت تعيش في زمانه، بل تأثر بمدارس فكرية متعددة واخذ من المذاهب الفقهية والفكرية ما يتواءم مع شخصيته ومعتقداته ويحقق أهدافه. تأسيس الدولة
في عام 510هـ شرع محمد بن تومرت في رحلته للعودة إلى الشمال الأفريقي، واستغرقت مدة عودته حتى وصل إلى مسقط رأسه أربع سنوات، وكان خلالها يتوقف بكل القرى والمدن التي يمر بها وينشط في نشر العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتحمل المصاعب والمشاق ويشكل خلايا تابعة له في بعض المدن. فتحرك من مكة إلى مصر ومكث في الإسكندرية، وأخرج منها بسبب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقصد طرابلس بحراً، حيث بقي مدة يعلم الناس العقيدة على الطريقة الأشعرية، ثم انتقل إلى المهدية بتونس واتخذ أحد مساجدها مقراً يدرس به العلم، مركّزاً على علم الأصول. وأحدث اضطراباً في المدينة بسبب أسلوبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم اضطر للخروج إلى المنستير، ثم إلى مدينة تونس، وكان في الطريق يختار بعض رفقائه المخلصين، وتوجه بهم نحو القسطنطينية، ثم بجاية التي وصلها سنة 511هـ، وأقام بها مدة، واشتهر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وناظر الفقهاء بها وظهر عليهم. تومرت وعبد المؤمن بن علي وفي مدينة ملالة التقى ابن تومرت بعبد المؤمن بن علي الذي كان متجهاً إلى الشرق لطلب العلم برفقة عمه، فاستطاع أن يصرفه عن وجهته ويقنعه بملازمته، وقد لمح ابن تومرت في عبد المؤمن بن علي علامات الذكاء وصفات النبوغ، وملامح الفطنة. وأخبر بن تومرت تلميذه بحقيقة ما ينوي القيام به، فبايعه على مؤازرته في الشدة والرخاء والأمن والخوف والعسر واليسر والمنشط والمكروه. لقد تقاربت أفكار عبد المؤمن مع شيخه وخصوصاً ما يتعلق بالخروج على السلطان، ونضجت أفكاره بعد أن لازم ابن تومرت، وأخذا يعملان سوياً من أجل تقويض دولة المرابطين. ومن الذين انضموا إلى ابن تومرت ولعبوا دوراً مهماً في دعوته عبد الله الونشريشي الذي كان على درجة كبيرة من الثقافة. وقد اتفق معه ابن تومرت على أن يتستر على ما هو عليه من العلم والفصاحة عن الناس، ويظهر العجز والغباء والتعري من الفضائل، مما يشتهر به عند الناس على أن يداوم على أخذ العلم في السر ثم يفصح عن ذلك دفعة واحدة عندما يطلب منه بن تومرت ذلك؛ فيكون بمثابة المعجزة فيصدقه الناس ويزداد إيمانهم بدعوته، فقام الونشريشي بذلك وأتقن الخداع والمكر والحيل والكذب والدجل على الناس. واستمر بن تومرت في تنقله إلى المدن ووصل إلى فاس، واستمر في إلقاء دروسه فيها حتى عام 514هـ. وكان خلال هذه المدة ملتزماً ببرنامجه الذي وضعه لنفسه، والذي كان من ضمن أهدافه العمل على تقريب أشخاص من ذوي القوة الجسمانية قليلي التجربة، إضافة لاستمراره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ مما أفضى إلى طرده من فاس، فتوجه إلى مراكش مقر حكم المرابطين..وخلال رحلته إليها كان ينبه عبد المؤمن بن علي للمواقع ذات الأهمية الإستراتيجية، ويدل ذلك على أنه كان يخطط لحرب طويلة الأمد ضد المرابطين. ودخل ابن تومرت مدينة مراكش في عام 514هـ في زي الزهاد وعلى عادته خرج مع تلاميذه إلى أسواق مراكش يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر دون إذن أمير المسلمين أو إذن أحد قضاته أو وزرائه؛ لأنه شاهد من مراكش من المفاسد ما لم يره في مدينة ثانية، وصدف أن رأى أخت أمير المسلمين حاسرة قناعها فوبخها، فشكته إلى أخيه، ثم توجه بن تومرت إلى مسجد علي بن يوسف في صلاة الجمعة فوجد أمير المسلمين جالساً وحوله الوزراء وقوفاً فاستنكر عليهم ذلك وعاب عليهم لبس النقاب، وخاطب علياً قائلاً: "الخلافة لله وليس لك يا علي بن يوسف". ولما كثر نشاط بن تومرت في مدينة مراكش خاصة في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والطعن في أمير المسلمين علي بن يوسف استدعاه علي للاطلاع على حقيقة أمره، فلما حضر بين يديه استطاع ابن تومرت أن يقنعه بأنه زاهد وليس له أي مطمع دنيوي، وإنما يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لتفشي المفاسد والبدع في ملك أمير المسلمين الذي هو مكلف بإزالتها، والعمل على إحياء السنة، وكان يتحدث بأسلوب مؤثر وقع في نفس أمير المسلمين فذرفت دموعه على وجنتيه. ولم تُعمِ فصاحة وأسلوب ابن تومرت المؤثر أميرَ المسلمين عليَ بن يوسف عن خطورة دعوته؛ فدعا العلماء من كل صوب لمناظرته لمعرفة حقيقة هذا الرجل، فإن كان على حق اتبع وإن كان على جهل أدب. وكانت المناظرة فرصة لا تعوض لابن تومرت؛ لأنها ستتيح له إبراز ما لديه من علم، وإظهار علماء مراكش بمظهر العاجزين أمام سطوع حجته وفصاحته. وهي أيضاً وسيلة دعائية ممتازة لدعوته؛ لأن ما ستسفر عنه ستتناقله الألسن، وستطير أخبار هذه المناظرة ونتيجتها في الآفاق، فهي بحق بطاقة تعريف جيدة لداعية مغمور. وسيدفع الفضول كثيرين من الحضور وأفراد الرعية إلى مقابلة الداعية الجديد للاستفسار عن حقيقة دعوته، وعن بعض القضايا التي أثيرت في المناقشة؛ مما يتيح له فرصة ممتازة لتوضيح فكره، وهذا ما يسعى إليه لضم أعداد جديدة إلى صفوفه. وقبل بدء المناظرة في مجلس أمير المسلمين الغاص بالعلماء والأعيان، قدم علماء الدولة المرابطية - الذين كانوا يجهلون علم الأصول والجدل - عنهم قاضي المرية محمد بن أسود ليمثلهم في هذه المناظرة. وأخذ ابن تومرت يسخر كل كلمة في المناظرة لتصوير فساد الأوضاع في الدولة المرابطية، فأوضح أن الخمور تباع جهاراً نهاراً، وان الخنازير تمشي في الشوارع وأن أموال اليتامى تؤكل، ويبين أن الذي يتحمل المسؤولية هم حاشية أمير المسلمين لإخفائهم تلك الأوضاع عنه. وبعد أن كشف عن سوء الأوضاع أراد أن يثبت عجز العلماء مراكش عن مجاراته في العلم، فطرح عليهم بعض الأسئلة التي لم يستطيعوا الإجابة عليها. فلما رأى عجزهم عن الإجابة بدأ يوضح ما عجزوا عنه بأسلوب أخاذ، يسخر له كل ثقافته وفصاحته، وهكذا انتهت المناظرة لصالح ابن تومرت. لقد تنبه الفقيه مالك بن وهيب الأندلسي إلى أن ابن تومرت ليس طالب آخرة وإنما هو طالب سلطان، وأشار على الأمير علي بن يوسف بقتله ليكتفي شره؛ لأنه إذا وقع في بلاد المصامدة ألبهم على المرابطين. ولكن وزير علي بن يوسف - ينتان بن عمر - وسير بن وربيل أقنعا علي بن يوسف بعدم الأخذ برأي مالك بن وهيب. وتوجه ابن تومرت إلى مقبرة ابن حيدروس، بالقرب من مراكش وبنى فيها خيمته، وكان ذلك الاختيار يدل على ذكاء خارق، فهو إيماءة لأمير المسلمين بأنه رجل يريد الآخرة فيقطع بذلك دابر كل وشاية عليه من قبل المناوئين له. كما أن اختيار هذا المكان سيدفع الكثير من الفضوليين إلى القدوم إليه للاستفسار عن أحوال هذا العابد الذي نبذ الحياة وزخرفها وارتضى الحياة بين الأموات فيبث أفكاره بينهم فمن اقتنع ضمه إليه. والمقبرة من ناحية أخرى مكان مناسب وهادئ، وبعيد عن الأعين، فيتحدث هناك بما يشاء إلى تلاميذه، وفعلاً توافد عليه الطلاب حتى كثر جمعه. إن ابن تومرت لكي يضمن لدعوته النجاح والانتشار سلك الخطوات التالية: 1- إظهار للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقمصه لأساليب وشخصيات المصلحين، فقد انتحل ابن تومرت صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ بهذا النهج منذ وقت مبكر وذلك حينما كان بمكة بعد عودته من العراق حيث استغل تجمع المسلمين فيها، فأخذ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى ناله شيء من الأذى بسبب ذلك. ويبدو أن ابن تومرت كان يهدف من وراء إظهاره للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى تحقيق غرضين: الأول منهما هو لفت أنظار الناس إليه من البلاد التي مر بها حتى يعد من المصلحين، أما الثاني فهو تكوين بعض الخلايا السرية في تلك البلاد من الأفراد الذين يعجبون بمنهجه؛ وذلك ليكونوا دعاة إلى أفكاره ومبادئه، وقد نجح في ذلكم حيث قيل إنه كان لابن تومرت بمصر واحد وخمسون رجلاً من أهلها، "وكانوا له مثل أعضائه وجسده سامعين لقوله مجيبين لأمره مؤمنين به. ولما تبين حالهم بذلك اختار لهم الإقامة هناك". كانت هذه الخطوة الأولى التي نهجها ابن تومرت لنشر دعوته .. ونهج عدداً من السبل حتى يظهر دعوته للناس، ويجمع حوله المؤيدين والأنصار، ومن هذه السبل ما يلي: أ- أنه تدرج في إظهار دعوته، كما ألبسها الصبغة الإصلاحية، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ب- أنه خاطب بها الجهال والسذج من الناس الذين لا يدركون حقيقة ما فيها من انحراف عن منهج أهل السنة والجماعة، حيث توجه بها إلى قوم صيام عن جميع العلوم كما يقول المراكشي. جـ- أنه كان يبالغ في إنكار المنكر على الحكام الذي يمر بديارهم كما فعل مع العزيز بن المنصور بن الناصر بن علناس بن حماد صاحب بجاية، ومع علي بن يوسف بن تاشفين زعيم دولة المرابطين؛ وذلك لكي يكسب بهذه الجرأة مكانة عند الناس. د- مما يلحظ على ابن تومرت أثناء هذه المرحلة من دعوته أنه بالرغم من تظاهره بالتقى والصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنه كان لا يتورع عن الكذب حتى أثناء قيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يذكر البيذق أنه كان إذا خشي بطشاً، وهو يأمر بالمعروف خلط في كلامه حتى ينسب إلى الجنون، وهذا النهج منهج كثير من الفرق الباطنية حيث يلجأون إلى الكذب وإلى العبارات الموهمة حتى لا تنكشف حقائقهم، حسب قول الصلابي. 2- وكانت الخطوة الثانية التي نهجها ابن تومرت في بداية دعوته، أنه جدّ في تكوين قاعدة قوية مؤمنة بالمبادئ التي يدعو إليها، حيث أعد أفرادها أعداداً خاصاً، وذلك لكي يكونوا قاعدة شعبية لدعوته ثم لدولته، وقد بدأ بهذا النهج منذ مستهل دعوته، حيث تمكن من تكوين خلية في بلاد مصر قوامها واحد وخمسون رجلاً، ولما انتقل إلى المغرب زاد من جهوده في هذا الميدان حيث انشأ حلقات للتدريس كان يبث أفكاره من خلالها. ولكي يؤصل تلك الأفكار في أذهان أتباعه ألف لهم كتاباً في العقيدة يتضمن الخطوط العريضة لأصول دعوته حيث طالبهم بحفظه. وإلى جانب اهتمامه بتكوين القاعدة الشعبية، فإنه كان يحتمي بشوكة بعض القبائل البربرية حتى يضمن لنفسه الأمان، ولدعوته الانتشار في ظل حماية تلك القبائل، فهو حينما وصل إلى بجاية بعد عودته من مصر خشي من بطش الحماديين فلجأ إلى قبيلة بنو رياكل - إحدى قبائل صنهاجة - فآووه وأجاروه ومنعوا الحماديين من النيل منه، ولما انتقل إلى بلاد المغرب الأقصى وخاف من سطوة المرابطين ذهب إلى بلاد هرغة حيث نزل على قومه وقبيلته مصمودة فاحتمى بشوكتيهما من المرابطين، كما توفر له عندهم الجو المناسب لمواصلة الدعوة. هكذا تمكن ابن تومرت من تكوين قاعدة شعبية قوية لدعوته، وقد كانت هذه القاعدة في غاية التلاحم والتفاهم مع القيادة؛ مما أدى إلى إعجاب الناس بها ومن ثم تقبلهم لمبادئها.
يتبع