زمرد خاتون بنت جاولي وعدم التكبر على العمل

زُمُرُّد خاتون بنت جاولي امرأة ضربت مثلًا عظيمًا في عزة النفس التي تمنعها من مدِّ يدها إلى غيرها بالسؤال، روى البخاري عن الزبير بن العوام، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ، فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ»[1].
كانت زُمُرُّد خاتون بنت جاولي أميرة تتحكم في إمارة دمشق في منتصف القرن السادس الهجري، ويخطب الأمراء والقادة ودَّها، ثم تدهورت بها الأحوال، وزال ملكها، فقبلت بالعمل في أهون الأعمال حتى لا تُعَرِّض نفسها لسؤال الناس.
زمرد خاتون بنت جاولي في حياتها محطَّات كبرى:
1- هي بنت الأمير جاولي بن أوق من أمراء جيش السلاجقة أمير القدس، وعمُّها أتسز أمير دمشق قبل تتش بن ألب أرسلان.
2- هي أُخت الملك دُقاق لأمه [ابن تاج الدولة تُتُش بن ألب رسلان].
3- وهي زوجة بوري بن طغتكين أمير دمشق، وابن أميرها، بعد انتهاء حكم السلاجقة للشام.
4- ثم هي أمُّ شمس الملوك إسماعيل بن بوري أمير دمشق بعد أبيه بوري
5- ثم هي أم شهاب الدِّين محمود الابن الثاني لبُوري بن طُغْتِكِين، وأمير دمشق بعد مقتل أخيه.
6- ثم هي زوجة عماد الدين زنكي الذي تزوّجها زواجًا سياسيًّا في محاولة منه لضمِّ دمشق إلى حلب سلميًّا لكن المحاولة لم تنجح.
صلاح زمرد خاتون:
اشتُهرت زمرد خاتون بالصلاح (على الرغم من امتلاء عائلتها بالظالمين -باستثناء عماد الدين زنكي- وخاصة أظلمهم ابنها إسماعيل بن بوري)، ولكنها قرأت القرآن على أبي محمد بن طاوس، وأبي بكر القرطبي، وسمعت الحديث من نَصر بن إبراهيم المقدسي وغيره، وكانت كثيرة البرِّ والصدقات، وتكثر من الصلاة والصوم، وكانت محبةً للعلماء وأهل الخير، حنفية المذهب، وهي التي بنت مسجد خاتون بدمشق ووقفت عليه الأوقاف الكثيرة.
تغير الحال بزمرد خاتون بنت جاولي:
لم يستمر زواج زمرد خاتون من عماد الدين زنكي، وعادت إلى دمشق، وانتهى حكم البوريين للمدينة عام 549هـ بدخول نور الدين محمود لها.
تدهور الحال بزمرد خاتون، وقد صودرت كلُّ أملاك عائلتها، ونفذ معظم ما معها، وتزوَّجت من رجل لم يحفظ لها مكانتها، وكان يهينها ويضربها، ثم انفصلت عنه، وأرادت أن تنهي حياتها بشكل تعبُّدي، فذهبت إلى مكة وجاورت بها سنة، ثم ذهبت للمدينة، وجاورت بها، ونفد تمامًا ما معها!
الاتِّجاه للعمل ولو كان قليلًا عند الناس:
كانت زمرد خاتون تغربل القمح والشَّعير، وتتقوَّت بأُجرتهما!، عاشت في تلك الظروف قليلًا ثم ماتت عام 557ه دون أن تمدَّ يدها بالسؤال لأحد، ودفنت بالبقيع! وهذا من حسن الخاتمة كما يذكر ابن كثير.
عدم سؤال الناس:
روى الترمذي وهو صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فَاقَتُهُ، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِاللَّهِ، فَيُوشِكُ اللَّهُ لَهُ بِرِزْقٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ"[2].
وروى الترمذي أيضًا وهو صحيح عن أَبِي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «ثَلَاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ» قَالَ: «مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلَا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلِمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا»[3].
وروى ابن ماجة وهو صحيح عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَمَنْ يَتَقَبَّلُ لِي بِوَاحِدَةٍ أَتَقَبَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟ " قُلْتُ: أَنَا، قَالَ: "لَا تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا" قَالَ: " فَكَانَ ثَوْبَانُ يَقَعُ سَوْطُهُ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ: نَاوِلْنِيهِ، حَتَّى يَنْزِلَ فَيَأْخُذَهُ"[4].
رحم الله زمرد خاتون التي عفَّت عن السؤال، وعملت بأيسر الأعمال متناسية تاريخها الملكي العريض حتى لا تسأل الناس شيئًا![5].
[1] البخاري (1402)
[2] الترمذي: كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في الهم في الدنيا وحبها (2326)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وقال الشيخ الألباني: صحيح بلفظ يموت عاجل أو غني عاجل.
[3] الترمذي: كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر (2325)، وقال هذا حديث حسن صحيح، وقال الشيخ الألباني: صحيح.
[4] ابن ماجه: كتاب الزكاة، باب كراهية المسئلة (1837)، قال الشيخ الألباني: صحيح.