وعلينا الوفاء لكم بالعهدِ ما وفَّيتم وأدَّيتم الجزيةَ والخراجَ،
شهِدَ الله وكَفى بالله شَهيدًا. (وختم: حبيب بن مسلمة)".
ثمَّ وصل المسلمون مدينةَ "تفليس" ومنطقةَ "أران"، فصالحَهم على الجزية،
وكتب هم كتابًا مثل صفة كتاب دبيل، جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم:
هذا كتابٌ من حبيب بن مسلمة لأهل تفليس من منجليس من
جرزان القرمز - بالأمانِ على أنفسهم وبِيَعِهم وصوامعهم وصلوَاتهم
ودينهم على إقرار بالصَّغَار والجزية على كلِّ أهل بيتٍ دينار".
وبذلك قام حبيب بن مسلمة بفتح كامل بلاد أرمينية في فترةٍ وجيزة،
ونتيجة لمعاهدات الصُّلح بين أغلب بَلْداتها اعتنقَ كثيرٌ من الأرمن الإسلامَ؛
حيث شهدَت خلافةُ عثمان بن عفان رضي الله عنه تثبيتَ الإسلام بأرمينية.
أجمع الرواة على أن أهل الشام كانوا يثنون على حبيب بن مسلمة ثناء حسنًا،
ويعتقدون فيه منتهى الصلاح، لهذا كانوا يقولون "كان مجاب الدعوة"،
وقد أورد ابن عساكر في خصاله وحسنِ أخلاقه فصلًا في "تاريخ دمشق".
ومما يدلك على صلاحه، ما رواه ابن عساكر أن حبيب بن مسلمة
دخل العلياء بحمص فقال: وهذا من نعيم ما ينعم به أهل الدنيا،
ولو مكثت فيه ساعة لهلكت، ما أنا بخارج منه حتى أستغفر الله تعالى فيه
ألف مرة، قال فما فرغ حتى ألقى الماء على وجهه مرارًا (لأنه كان يخشى عليه).
ومن شدة تقواه وصلاحه، كان دائمًا يلح على معاوية بالعمل بسيرة أبي بكر وعمر،
وكان معاوية يخشاه لهذا السبب، فقد روى ابن عساكر عن ابن عجلان قال:
لما أتى معاوية موت حبيب بن مسلمة سجد، ولما أتاه موت عمرو بن العاص سجد،
فقال له قائل: يا أمير المؤمنين سجدت لوفدين وهما مختلفان. فقال أما حبيب:
فكان يأخذني بسنة أبي بكر وعمر، وأما عمرو بن العاص: فيأخذني بالإمرة فلا أدري ما أصنع.
وقد كان القائد المسلم "حبيب بن مسلمة" مِن كبار قادَة صدر الإسلام،
نشأ منذ حداثَته على حبِّ الجهاد، روى ابن عساكر أنَّ حبيبًا ذهب في خلافة أَبي بكر
إلى الشَّام للجهاد وهو صغير، فكان على كردوس من الكراديس في اليرموك؛
حيث اعتادَ على حنكة القِتال وضراوة المعارك.
وكان يُقال لحبيب بن مسلمة: "حبيب الرومي" و"حبيب الروم"؛ لكثرةِ جهاده فيهم،
ولدربَتِه في مقابلتهم والتغلُّب عليهم. وقد أجمع الرواة أنه كان رفيقًا بالجند،
مع رِقَّةٍ وزُهدٍ كانا فيه على شجاعتِه وبسالَته.
وروى ابن عساكر أن حبيب بن مسملة كان رجلا تام البدن،
فدخل على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال له عمر:
إنك لجيد القناة، قال حبيب: إني جيد سنانها، فأمر به عمر يدخل
دار السلاح، فأدخل فأخذ منها سلاحًا ورحل.
وروي أن حبيب بن مسلمة كان يستحب إذا لقي عدوًا أو ناهض حصنًا قول
"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، وإنه ناهض يومًا حصنًا فانهزم الروم،
فقالها المسلمون فانصدع الحصن.
ولإدمان حبيب بن مسلمة الحرب أصبح مشهورًا بالشجاعة، محبوبًا من الناس،
منوهًا باسمه على ألسن الشعراء، وفيه يقول حسان بن ثابت بعد حادث
مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه:
يا أيها النـــاس أبدوا ذات أنفســــــــكم **** لا يستوي الصدق عند الله والكذب
قوموا بحق مليك الناس تعترفوا **** بغارة عصب من بعدها عصب
فيهم حبيب شهاب المـــوت يقدمهم **** مستلئمًا قد بدا في وجهه الغضب
ويقول شريح بن الحارث:
ألا كل من يدعى حبيبًا ولو بدت *** مروءته يفدي حبيب بني فهر
همــــام يــــقود الخـــــيل حـــتى كأنما *** يطأن برضراض الحصا جاجم الجمر
قد اختلف المؤرخون في محل وفاته، فقال البلاذري في فتوح البلدان:
إنه لما أمره عثمان بالانصراف إلى الشام، نزل حمص فنقله معاوية إلى دمشق،
فتوفي فيها سنة 42هـ وهو ابن 35 سنة.
وقال ابن عبد البر: إن معاوية وجهه إلى أرمينية واليًا عليها، فتوفي فيها سنة 42هـ،
وكذلك قال ابن سعد وابن عساكر، وإنه مات فيها ولم يبلغ الخمسين،