لمّا دخل النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المدينة صالحه بنو النّضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه فقبل ذلك منهم، فلمّا غزا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بدرًا وظهر على المشركين، قالوا: والله إنّه للنّبيّ الّذي وجدنا نعته في التّوراة لا تردّ له راية فلمّا غزا غزاة أُحُد وهزم المسلمون ارتابوا ونقضوا العهد، فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبًا من اليهود إلى مكّة فأتوا قريشًا وحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمّد، ثمّ دخل أبو سفيان في أربعين وكعب في أربعين من اليهود المسجد وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة، ثمّ رجع كعب بن الأشرف وأصحابه إلى المدينة، ونزل جبرائيل (عليه السّلام) فأخبر النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما تعاقد عليه وأبو سفيان وأمره بقتل كعب بن الأشرف، فقتله محمّد بن مسلم الأنصاريّ وكان أخاه من الرّضاعة. قال محمّد بن إسحاق: خرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى بني النّضير يستعينهم في دية القتيلَيْن من بني عامر اللّذَيْن قتلهما عمرو بن أميّة الضّمريّ وكان بين بني النّضير وبني عامر عقد وحلف، فلمّا أتاهم النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يستعينهم في الدّية قالوا: نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت، ثمّ خلا بعضهم ببعض، فقال: إنَّكم لن تجدوا الرّجل على مثل حالته هذه، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى جانب جدار من بيوتهم قاعد، فقالوا: من رجل يعلو على هذا البيت يلقي عليه صخرة؟ ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في نفر من أصحابه فأتاه الخبر من السّماء بما أراد القوم، فقام وقال لأصحابه: لا تبرحوا فخرج راجعًا إلى المدينة ولمّا استبطأوا النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قاموا في طلبه فلقوا رجلاً مقبلاً من المدينة فسألوه عنه، فقال: رأيته داخلاً المدينة فأقبل أصحاب النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتّى انتهَوْا إليه فأخبرهم الخبر بما أرادت اليهود من الغدر وأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) محمّد بن مسلمة بقتل كعب بن الأشرف فخرج ومعه سلكان بن سلامة وثلاثة من بني الحرث وخرج النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أثرهم وجلس في موضع ينتظر وجوههم، فذهب محمّد بن مسلمة مع القوم إلى قرب قصره وأجلس قومه عند جدار وناداه يا كعب فانتبه، وقال: من أنت؟ قال: أنا محمّد بن مسلمة أخوك جئتك أستقرض منك دراهم فإنّ محمّدًا يسألنا الصّدقة وليس معنا الدّراهم، فقال: لا أقرضك إلاّ بالرّهن، قال: معي رهن أنزل فخذه وكانت له امرأة بنى بها تلك اللّيلة عروسًا، فقالت: لا أدعك تنزل لأنّي أرى حمرة الدّم في ذلك الصّوت فلم يلتفت إليها فخرج فعانقه محمّد بن مسلمة وهما يتحادثان حتّى تباعدا من القصر إلى الصّحراء، ثمّ أخذ رأسه ودعا بقومه وصاح كعب فسمعت امرأته فصاحت وسمع بنو النّضير صوتها فخرجوا نحوه فوجدوه قتيلاً ورجع القوم سالمين إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلمّا أسفر الصّبح أخبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أصحابه بقتل كعب ففرحوا وأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحربهم والسّير إليهم، فسار بالنّاس حتّى نزل بهم، فتحصّنوا منه في الحصن فأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقطع النّخل والتّحريق فيها، فنادوا يا محمّد قد كنت تنهى عن الفحشاء فما بالك تقطع النّخل وتحرقها فأنزل الله تعالى: ﴿ مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [124] .
والبويرة: تصغير بؤرة وهي إرَة النّار أي حفرتها، وقال ابن عبّاس: كان النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حاصرهم حتّى بلغ منهم كلّ مبلغ فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم وأن يسيرهم إلى أذرعات بالشّام، وجعل لكلّ ثلاثة منهم بعير أو سقاء، فخرجوا إلى أذرعات بالشّام وأريحا إلاّ أهل بيتَيْن منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنّهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة [125] .