عندما تصل حدود أرض التوركانا، وتبدأ الانحدار إلى الوادى عبر الطريق غير الممهد تصطدم بلافتة رسم عليها عظمتان متقاطعتان وجمجمة كتب تحتها "مقبرة السائقين المتهورين" فقد دفن هنا عدد من سائقى الشاحنات الذين انقلبت سياراتهم وسقطت فى الوادي.. والحقيقة إنها أكثر من ذلك، فهذه الأرض ذات الصخور البركانية ودرجات الحرارة التى تتجاوز 45 درجة مئوية لا يمكن لإنسان المرور فيها عوض العيش أو البقاء فيها لساعات مهما توفر له من وسائل الحياة.
من يصل إلى هذا المكان يستغرب كيف يمكن لهؤلاء الناس العيش فى هذا المكان، إنهم يحلبون الصخر كما يقال، فحتى الأعشاب البسيطة لا تكاد تراها إلا قليلا ودرجات الحرارة مرتفعة دائما والأمطار القليلة لا تنزل إلا فى الفترة من إبريل حتى يوليو.
يذكر التوركانا فى أسطورة وجودهم فى هذا المكان، أن أصلهم يعود إلى الحبشة ويقولون إن امرأة عجوز خرجت من هناك بسبب الجفاف وقلة المطر وبدأت تبحث مع أولادها عن مكان مناسب لتستقر فيه، حتى قادتها قدماها إلى هذا المكان، وبدأت تتعيش على ما تجمعه من ما ينبت فى الصحراء من فواكه برية وغيرها، وذات يوم عثرت على ثور سمين يهيم فى الصحراء، فربطته قرب كوخها، ليتضح أن هذا الثور ملك لمجموعة أخرى من التوركانا الذين يسكنون فى أوغندا، افتقدوه فأرسلوا عددا من المحاربين يبحثون عنه حتى عثروا عليه عندها، واستغرب الزائرون الجدد كمية الفاكهة البرية المجففة التى تمتلكها هذه المرأة، فقرروا الإقامة بجوارها، ولما استبطأهم أهلهم، أرسلوا فريقا آخر من ثمانية من المحاربين ليبحثوا عنهم، وبدورهم قرر المحاربون البقاء مع من سبقوهم، وناقشوا مع من سبقوهم موضوع البقاء أو العودة إلى أوغندا، وفى النهاية اتفقوا على البقاء فى الصحراء، إلا أن كبراء القبيلة رفضوا ذلك ونشب نزاع حول تقسيم الماشية، وفى النهاية نال كل منهم نصيبه واستقر المحاربون فى صحراء التوركانا الجديدة رغما عن أنف كبار السن المبجلين.
بركان يتوسط البحيرة
أرض التوركانا
تقع أرض التوركانا فى شمال غرب كينيا فى المنطقة القاحلة المناخ والمتاخمة للبحيرة التى أخذت اسمها من القبيلة نفسها أى بحيرة توركانا، ويجاورهم ابناء البوكوت من الشرق والسامبورو فى الجنوب وأوغندا من الغرب وجنوب السودان وإثيوبيا من الشمال، وهم ينتمون إلى الشعوب النيلية، وثمة اختلاف على عددهم فهناك من ينزل بهم إلى أقل من نصف المليون وهناك من يرتفع بهذا العدد ليقارب المليون.
والتوركانا عموما هم من الرعاة شبه الرحل، خصوصا رعى الإبل والماعز ويستخدمون الحمير فى التنقل، ومن ثم فإن الحيوانات تمثل الجانب الأساس فى ثقافة هذه القبيلة، فهى لا تتوقف عند كونها مصدرا للغذاء كالحليب واللحوم ولكنها أداة للبيع والشراء وامتلاك المال، فالصبى حينما يصل مرحلة الشباب يمنح عددا من الماعز ليكون نواة قطيعه وبداية حياته الخاصة، وعدد رؤوس الماشية التى يمتلكها الشخص يحدد مكانته فى القبيلة ،كما أن ثروته من الماشية تمنحه القدرة على امتلاك اكبر عدد من الزوجات.
ريشة النعام علامة على البلوغ والتكليف
عادات وتقاليد
سابقا كان مرض تصلب الفك "الكزاز أو التيتانوس" منتشرا فى المنطقة، وكان من المستحيل على المصاب به أن يأكل أو يشرب، ويظل على حاله تلك حتى يلقى ربه، لذلك توارث التوركانا عملية تكسير الأسنان التى لا تزال مستمرة حتى وقتنا هذا لإعطاء المريض الحليب أو الماء حتى يشفى من المرض.
ومن عاداتهم أن كبار السن فيهم، يكثرون البصاق على الأرض قبل بدء الكلام أو عندما يريد أحدهم أن إعطاء أهمية لكلامه، و يشتهرون باستخدام نوع من التبغ المحلى المستخرج من أشجار صحراوية، حيث يطحنوه، ثم يستنشقوه أو يخزنوه فى الفم لاستحلابه.
من عاداتهم أيضا أن المرأة التى تفقد طفلين بسبب الأمراض أو الحوادث أو لأى سبب آخر عليها أن تضع خرزة زرقاء فى الأذن اليسرى للطفل القادم أو تقص الجزء الأعلى من الأذن نفسها، لتمنع الموت عنه، وعليها أيضا أن تعطى الطفل لأمها لتربيه، ولا يجوز قص شعر هذا الطفل حتى تسقط أسنانه اللبنية.
المرأة التوركانية
تلعب المرأة دورا فى حياة شعب التوركانا، فهى التى تقوم بمعظم الأعمال اليومية الخاصة ببيتها وأسرتها، وأولها مهمة بناء الأكواخ التى تضطلع بها دون الرجال، ومن عاداتهم أنه إذا كان للزوج عدد من الزوجات، فإن الزوجة الأولى تبنى كوخها على يمين حظيرة الماشية، بينما تقيم الزوجات الأخريات أكواخهن على يسار الموقع، إلا أنهن جميعا يشتركن فى بناء الحظيرة من الشجيرات الشوكية، وغالبا ما يكون بابها باتجاه الشرق.
من سمات أكواخ التوركانا أنها تكون مفتوحة الجوانب، لا توفر حماية من التقلبات الجوية، كما لا توفر خصوصية أو تحفظ أسرارا، والعادة أن ينام الزوج خارجها، و الزوجة والأولاد فينامون داخلها، أما الشباب فينامون فى الحظيرة، و تقيم الشابات العازابات أكواخهن حولها.
تقضى النساء والفتيات يومهن فى رعاية الصغار وحلب الأبقار، بالإضافة إلى القيام ببعض الأعمال مثل مزاولة بعض الحرف اليدوية كصناعة الخرز أو الخياطة ودباغة الجلود، أما الشباب فمهمتهم الرعي.
ويلاحظ زوار المنطقة انطواء التوركانا على أنفسهم، فهم ينظرون إلى الغرباء نظرة ريبة وشك، وقد يقضى الضيف بينهم يوما كاملا من دون أن يحظى بكلمة ترحيب، ورغم فقرهم الشديد لهم أنفة خاصة، ويمنعهم كبرياؤهم قبول المساعدة أو العون من أحد، ويفسر الباحثون السبب فى ذلك إلى أنه قد يعود إلى أسلوب المعاملة القائم على الغش والخداع من التجار الأوروبيين الذين قدموا إلى المنطقة فى القرن التاسع عشر بحثا عن عاج الفيل.
يعتمد التوركانا فى علاج الأمراض والتداوى منها على الأعشاب والأشجار والصخور، فإزالة أوجاع الرأس يكون بالحجامة، وعلاج الأسنان يتم بالخلع مباشرة وبأى وسيلة متوفرة لديهم، ويتعين على من يخلعها أن يبصقها خلفه، ويدفنها فى الجهة الغربية من الكوخ، ولكن أكثر الأمراض انتشارا بينهم هو مرض الأكياس المائية الذى ينتقل إليهم عبر ماشيتهم.