![]() |
قربان الحكماء
قربان الحكماء
إنّها حفلة قريتنا التقليديّة، لا شيء جديدًا اليوم، إنهم يقدمون قربانًا آخر لإحياءِ طقوسهم المعتادة. لم يكن هذا القربان من الأشياء الممكن شراؤها، بل هو شيء لا يكلّف مالكه أيَّ مبلغ، قربانٌ مجانيٌّ بالكامل قد تتحصل عليه نتيجة لتخطيطٍ دقيق، أو عقوبة أبديّة لفعلٍ تقوم به دون دراسة النتائج التي تترتب عليه. يقوم الأب هنا بتقديم ابنه على أنّه خادم إلى هؤلاء الجالسين، كان يفترض بهذا الابن الصغير أن يأتي مرفقًا معه كشفًا بأسماء كل معارف عائلته وأبناء قريته الذين يجتمعون في ذلك المجلس للتّخطيطِ بحذر وإيجاد الطريق المناسب لهذا الفتى في الحياة. لا يتم اختيار الشخص المناسب عبثًا، لا بدّ أنه قد أسمعهم صوته، فالقانون هنا يجرم الحديث أمام من غطّى الشيب رؤوسهم، حتى إنه يجرم الصمت في حضرتهم. هنا يجب أن تقدّم الطاعة الكاملة، ولكن هذا ما لم يفعله سمير، كانت شجاعة سمير كفيلة بأن تجمع كل هذا العدد من الحكماء أو البؤساء الذين لا شيء يشغلهم إلّا استنساخ البشر. كل المحاكمات التي حدثت في هذا المجلس كانت مألوفة، إمّا أن تقام ضدّ رغبة شاب في الزواج من فتاةٍ يراها مناسبةً له، أو ضدّ أحد الرجال الذين يريدون تزويج بناتهم بطريقة تخالف قوانين الحكماء، حيث كان جميع من يصطدم بهذا المجلس قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره. أمّا هذا الفتى فقد كان جرمه أكبر: عشقه الأدب في المرحلة الثانويّة. كان عامًا مليئًا بالصراعاتِ بينه وبين والده، فبينما كان يزرعُ فيه طوال الأعوام السابقة ضرورة التعبير عن رأيه والتمسّك به وألّا يتأثر برأي أحد، يأتي في هذا العام ليفسد كل هذا الزرع! كنتُ الوحيد الذي يمكنه إنقاذ هذا الفتى في ذلك المجلس، أنا هنا الطبيب، وليس أيّ طبيب، أعلمُ تمامًا ما تحدثه هذه الاضطرابات النفسيّة لدى الأبناء، فمواجهة تناقضات الآباء ليست بالأمر السهل على فتًى لم يتجاوز السادسة عشر من عمره، كان يدفعني شعور بأن أوقف هذه المهزلة وأعيد كلًّا من هؤلاء إلى مكانه الطبيعي، لكنني من جهة أخرى لا أستطيع أن أنسى الخطر الذي يشكّله الأدب علينا. خلال الصراع القائم بين الفتى والجالسين، تذكّرتُ شخصًا لم أستطع أن أمحوه من ذاكرتي، كان شابًّا لا يرضخ إلى هذه الخرافات وأحكام البؤساء، بل تمرّد عليهم متمسكًا بوالده الذي غرس فيه حبّه ودعمه منذ أيّامه الأولى، إنه أوّل قربان تقام له طقوس القرية عند قدومه، كانت تلك من أصخب الحفلات التي رأيتها. جلس حكماء القرية في أول محاكمة تقام قبل 30 سنةً، كانت حججهم ضعيفة ولا يمتلكون سبيلًا للانتصار، لقد أسكتهم ذلك الشاب وأوقف دفاعاتهم وآراءهم، لم يشكّل نقاشه معهم أثرًا عليه على الإطلاق، فقد خرج منتصرًا عائدًا بمفرده إلى المنزل يتوق لإيصال هذا الخبر، كان يسترجع في كلِّ لحظةٍ كلمات معلّمته التي عشقها وعشق الأدب بسببها. كانت تلك الصفعة قاسية، فخبر انتصاره أمام البؤساء لم يسعد به والده كما تخيّل، بل أجبره في ذلك اليوم على أن يعود مهانًا إلى المجلس ليقبِّل أيديهم طالبًا العفو، تكسّرت في تلك اللحظة أطراف تمثال والده الذي جعل له المكان الأفضل في مخيّلته وقلبه، لم تكن الصفعة سببًا لهذا، بل تلك النيران التي التهمت غابات العشق بداخله. أفزعني صوت الفتى سمير موجهًا حديثه إليَّ في تلك اللحظة: "ألم تسمع حديث المعلمة بنفسك عن مدى تفوّقي في الجانب الأدبي؟". لم أستطع الإجابة، فعقلي مشغول بتذكر اليوم الأول لي في تخصّصي الدراسي الذي أمقته، الطب النفسي، الشيء الذي نطق به أحد قضاة ذلك المجلس مشبهًا بين الأدب والطب النفسي في مخيّلته البسيطة. لقد عاهدتُ نفسي أن أُحارب هذا المجلس وأمنع إقامته لغيري، لكنني فشلت، عاهدتُ نفسي على حماية أبنائي منه وفشلت، ولمدة 30 سنةً لم أستطع النجاح في أيِّ شيء. إنها فرصتي الأخيرة لأنتصر على تلك الإهانة، ابني سمير يقف بين أيديهم ليحكموا عليه بالهلاك مثلي. تحسستُ بيدي مكان تلك الصفعة قبل 30 عامًا، ولم أشعر إلّا بيدي تندفع لتصفع ابني بكلِّ قوة، تقمّصتُ حينها الجانب المظلم الذي لطالما حقدتُ على أبي بسببه، فلم أرَ غير هذا الجانب بعد تلك المحاكمة، أرسل لساني حينها كلمات لم أعهد نطقها ولم أُرَبِّ أبنائي على سماعها، كلمات تهين النفس البشريّة وتستحقرها وتقدمها قربانًا رخيصًا لن يشعرَ أحدٌ بثمنه. وجدتُ راحتي في هذه الصفعة، لقد شعرتُ بأنها انتقلت من داخلي إلى داخل جسد ابني، لقد زال هذا الهم عني ولم أعد أشعر به، تأكدتُ حينها أنني لم أنجح في تربية ابني بشكلٍ سليم، إنني استبدلتُ حبّه بحبِّ نفسي وإنقاذي لها بدلًا من إنقاذه. كان هذا كل ما حدث بالأمس يا أبي، إنها السلسلة المتّصلة التي جعلتك تقيم في هذه المصحّة لأشرف على علاجك بنفسي، لو لم تخذلني يا أبي لكنتَ الآن تقرأ كتبي الجميلة وتفخر بي بدلًا من أن أحكي لك قصّة القربان |
انتقاء بآذخ الجمآل , بِ إنتظآر المزيد من هذآ الفيض , لك من الشكر وافره,~ |
منورين
|
سلمت كفوفك لطيب الجهد
وَ تمُيز العطاء لاحرمنا الله روائِع مجهوداتك |
بين مواضيعكم نجد
المتعة دائماً وفقكم الله لقادم اجمل |
_
سلمت الأيادي .. ويعطيك العافية لـ جمال الآنتقاء لروحك جنائن الورد . |
الساعة الآن 09:53 AM |
Powered by vBulletin Hosting By
R-ESHQ
HêĽм √ 3.1 BY: ! RESHQ ! © 2010
new notificatio by R-ESHQ
User Alert System provided by
Advanced User Tagging (Lite) -
vBulletin Mods & Addons Copyright © 2025 DragonByte Technologies Ltd.
تنويه : المشاركات المطروحة تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس بالضرورة تمثل رأي أدارة الموقع