نور القمر
08-02-2019, 03:14 PM
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، ألا تشعُر باللطف في كلمة عبادي، وبالقرب في كلمة قريب، وبالراحة في كلمة أجيب؟! أين نحن من هذا اللطف، وهذا القرب وتلك الراحة؟! لماذا نترك البحر ونلهث خلف القنوات؟! كيف نستسمن ذا ورم وننفخ في غير ضرم، فنبحث لسد حوائجنا عند المخلوقين، وننسى الخالق.
أيها المؤمنون:
كلنا ذوو حاجات، فمنا مَنْ يريد استجلاب خير، ومنا مَنْ يريد دفع شرٍّ، ومنا المهموم، ومنا المريض، ومنا الفقير، ومنا مَنْ يريد صلاح حال في نفس أو زوج أو ولد، ومنا مَنْ يبحث عن مصدر رزق، ومنا مَنْ يريد الاستزادة من الخير، ومنا مَنْ يريد الاستقامة وترك الكسل والتسويف، ومنا مَنْ يريد النجاح، ومنا مَنْ يريد الترقية.
أين كل هؤلاء من "يا رب"؟! أين هم من "اللهم"؟! أين هم من "ربنا"؟! أين هم من "يا ألله"؟! وإذا قالوها لماذا تخرج من أفواههم ولا تخرج من قلوبهم؟! ولماذا تخرج هشَّةً ضعيفةً من قلب غافل لاهٍ؟! ولماذا يتحمَّس الداعي في أول أمره للدعاء، ثم يفقد الصبر، ويتوقَّف عن طَرْق أبواب السماء؟!
أيها المؤمنون:
ليس شيء أنفع لكم في تحصيل ما تريدون، ودفع ما تكرهون من الدعاء؛ فهو سبب عظيم، وسلاح قوي يستخدمه الصالحون، فيحصلون به ما لا يُحصِّل الساعون وراء الأسباب المادية؛ لكن هذا الدعاء له آداب ينبغي التحلِّي بها، ويمنع منه موانع ينبغي الابتعاد عنها، فإذا أتيتَ بالآداب وتركتَ الموانع، فأنت حينئذٍ ستغرف من بحر زاخر، وتستدل على كنز وافر، فإليك الآدب والموانع من خبير مجرب وعالم نحرير يضيء لك السبيل، ويرويك من السلسبيل.
أولًا: الآداب:
قال ابن القيم رحمه الله: «وإذا جمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة الستة؛ وهو: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة من ذلك اليوم، وآخر ساعة بعد العصر؛ وصادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الرب، وذلًّا له، وتضرُّعًا ورقَّة، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنى بالصلاة على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، وألحَّ في المسألة، وتوسَّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدم بين يدي دعائه صدقةً، فإن هذا الدعاء لا يكاد يُرَدُّ أبدًا، ولا سيَّما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة أو أنها متضمنة للاسم الأعظم».
ثانيًا: الموانع:
قال ابن القيم رحمه الله: «وكذلك الدعاء فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب؛ ولكن قد يختلف عنه أثره؛ إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاءً لا يحبُّه الله لما فيه من العدوان؛ وإما لحصول المانع من الإجابة: من أكل الحرام، والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والشهوة واللهو وغلبتها عليه، كما في مستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ادعو الله، وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاءً من قلب لاهٍ))، فهذا دواء نافع، مزيل للداء؛ ولكنْ غفلةُ القلب عن الله تبطل قوته، وكذلك أكل الحرام يبطل قوتها ويضعفها؛ قال أبو ذر: يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح».
أيها المؤمنون:
إذا قمت بآداب الدعاء، وتجنَّبت الموانع، فإيَّاك وإيَّاك من الآفة الخطيرة التي يغفل عنها كثير من الناس، إيَّاك أيها المؤمن أن تستعجل الإجابة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «ومن الآفات التي تمنع ترتُّب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة، فيستحسر، ويدع الدعاء، وهو بمنزلة مَنْ بذر بذرًا أو غرس غرسًا، فجعل يتعهَّده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله».
إن استعجال الإجابة أيها الصالحون آفة خطيرة، عصفت بكثير من الناس؛ فهم يريدون أن يستجيب الله لهم بعد دعائهم، ويغفلون عن سنة الله تعالى في امتحان العبد في صدقه وإخباته وخضوعه، إن الذين يستعجلون الإجابة غفلوا عن لذَّة الدعاء وعظيم الأجر في انتظار الإجابة، وهو حال إيماني رفيع يجعلك متعلِّقًا بالله، مُترقِّبًا لإجابته، طامعًا فيما عنده، وهذا الحال عند الصالحين أفضل من إجابتهم لدعائهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر، وما يلجئهم إلى توحيده، فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون أحدًا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكُّل عليه، والإنابة إليه وحلاوة الإيمان وذوق طعمه، والبراءة من الشرك، ما هو أعظم نعمةً عليهم من زوال المرض والخوف أو الجدب أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة، فإن ذلك لذات بدنية ونِعَم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن، وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين، فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، أو يستحضر تفصيله بال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه؛ ولهذا قال بعض السلف: يا بن آدم، لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك، وقال بعض الشيوخ: إنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه، فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي؛ خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك؛ لأن النفس لا تريد إلا حظَّها فإذا قضي انصرفت"؛ ا ه.
إخوة الإيمان، الدعاء ثمرته مضمونه، وربحه حاصل، فلا تُسيئوا الظن بربكم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضمن لك إحدى ثلاث، قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تُعَجَّل له دعوتُه، وإما أن يَدَّخِرَها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها))، قالوا: إذًا نكثرُ يا رسول الله! - أي من الدعاء - قال: ((الله أكثر))، وهذا مشروط بشرط؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ما لم يعجل))، قالوا: يا رسول الله، ما عجلته؟! قال: ((يقول: دعوتُ دعوتُ ولا أراه يستجابُ لي)).
أيها المؤمنون؛ إليكم بعض الإضاءات فيما يخص الدعاء:
♦ لا يعظم الشيطان لك ذنوبك، فتستصغر أمامها عَفْوَ الله، إياك إياك، انطرح أمام الله بكل خطاياك، واسكب بين يديه كل هفواتك، واطلب منه ما تريد، فلن تجد أرحم منه، ولا أرأف ولا آمن.
♦ إياك أن تظن أن إجابة الله لك ليست إلا فيما تريد بعينه، كلا ليس شرطًا أيها الموفق، فالله أعلم منك وأحكم، وقد سمِع دعوتك، ولم يخفَ عنه أمرُك؛ لكنه يختار لك ما هو أصلح لك، وتجارب الداعين تذكُر لنا مرارًا وتكرارًا أن ما أوتوه بفضل الدعاء خيرٌ مما كانوا يطلبون.
♦ استمتع بالدعاء، ولا تربط الإجابة بزمن معين، فقد تستغرق الإجابة أشهرًا؛ بل سنوات، وقد يمرُّ بك أحيانًا ما تظن أنه إجابة، فتبتهج ثم ينصرف عنك، فلا تتحسَّر وتيقَّن أن القادم أفضل بلا شك ولا ريب، فإياك أن تقف عن الدعاء، واصل وتلذَّذ بالدعاء وتصريف الله للأمور بين يديك حتى يأتي الفرج.
♦ لا تستعظموا حاجاتكم على ملك الملوك، واعلموا أن عدم يقينكم بالإجابة مؤثرٌ في حصولها؛ لأن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: ((أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني))؛ رواه مسلم، فظنُّوا بربكم خيرًا، ليس شفاء مريضك صعبًا على الله، وليست هداية ولدك عصيَّةً على الله، وليس حصولك على الوظيفة مستحيلًا على الله، وليس صلاح حالك كبيرًا على الله، ظنُّوا بربكم خيرًا، وادعوه وأنتم موقنون بالإجابة.
♦ إياك أن يفت في عضدك عدم استجابة الله لبعض الداعين، وكيف أن المسلمين يدعون الله في المحاريب وعلى المنابر، والأوضاع لم تتغيَّر، وأحوال المسلمين تزداد سوءًا، فهذا ليس من شأنك، ولست مسؤولًا عن أحد، ولا تعلم حكمة الله في ذلك، وما هي الموانع منه، واستمسك بالحصن الحصين ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60]، وإياك أن يصرفك الشيطان لبنيات الطريق، فتضل عن طَرْق أبواب السماء، فلا يفتح لك.
ختامًا:
أيها الداعون، إليكم مثالان لإجابة الله لدعاء السائلين:
المثال الأول: بعد أن بذل طالوت كل السبل في نجاح مهمته، وكان معه القوم الصالحون الذين عبروا النهر، واصطفَّ الجيشان للقتال؛ جيش طالوت، وجيش جالوت، لم يبق إلا الدعاء كما وصف الله تعالى ذلك المشهد: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250]، وبعد هذا الدعاء، كان الجواب من الله: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾ [البقرة: 251].
المثال الثاني: يقول القاضي ابن شدَّاد: «وكان صلاح الدين إذا سمِع أنَّ العدو قد داهم المسلمين خرَّ إلى الأرض ساجدًا لله، داعيًا بهذا الدعاء: "اللهم قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل"، ويقول: ورأيته ساجدًا ودموعه تتقاطر على شيبته، ثمَّ على سجَّادته، ولا أسمع ما يقول، ولم ينقضِ ذلك اليوم إلَّا ويأتيه أخبار النصر على الأعداء».
أيها المؤمنون:
كلنا ذوو حاجات، فمنا مَنْ يريد استجلاب خير، ومنا مَنْ يريد دفع شرٍّ، ومنا المهموم، ومنا المريض، ومنا الفقير، ومنا مَنْ يريد صلاح حال في نفس أو زوج أو ولد، ومنا مَنْ يبحث عن مصدر رزق، ومنا مَنْ يريد الاستزادة من الخير، ومنا مَنْ يريد الاستقامة وترك الكسل والتسويف، ومنا مَنْ يريد النجاح، ومنا مَنْ يريد الترقية.
أين كل هؤلاء من "يا رب"؟! أين هم من "اللهم"؟! أين هم من "ربنا"؟! أين هم من "يا ألله"؟! وإذا قالوها لماذا تخرج من أفواههم ولا تخرج من قلوبهم؟! ولماذا تخرج هشَّةً ضعيفةً من قلب غافل لاهٍ؟! ولماذا يتحمَّس الداعي في أول أمره للدعاء، ثم يفقد الصبر، ويتوقَّف عن طَرْق أبواب السماء؟!
أيها المؤمنون:
ليس شيء أنفع لكم في تحصيل ما تريدون، ودفع ما تكرهون من الدعاء؛ فهو سبب عظيم، وسلاح قوي يستخدمه الصالحون، فيحصلون به ما لا يُحصِّل الساعون وراء الأسباب المادية؛ لكن هذا الدعاء له آداب ينبغي التحلِّي بها، ويمنع منه موانع ينبغي الابتعاد عنها، فإذا أتيتَ بالآداب وتركتَ الموانع، فأنت حينئذٍ ستغرف من بحر زاخر، وتستدل على كنز وافر، فإليك الآدب والموانع من خبير مجرب وعالم نحرير يضيء لك السبيل، ويرويك من السلسبيل.
أولًا: الآداب:
قال ابن القيم رحمه الله: «وإذا جمع مع الدعاء حضور القلب وجمعيته بكليته على المطلوب، وصادف وقتًا من أوقات الإجابة الستة؛ وهو: الثلث الأخير من الليل، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وأدبار الصلوات المكتوبات، وعند صعود الإمام يوم الجمعة على المنبر حتى تقضى الصلاة من ذلك اليوم، وآخر ساعة بعد العصر؛ وصادف خشوعًا في القلب، وانكسارًا بين يدي الرب، وذلًّا له، وتضرُّعًا ورقَّة، واستقبل الداعي القبلة، وكان على طهارة، ورفع يديه إلى الله، وبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ثنى بالصلاة على محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم قدم بين يدي حاجته التوبة والاستغفار، وألحَّ في المسألة، وتوسَّل إليه بأسمائه وصفاته وتوحيده، وقدم بين يدي دعائه صدقةً، فإن هذا الدعاء لا يكاد يُرَدُّ أبدًا، ولا سيَّما إن صادف الأدعية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة أو أنها متضمنة للاسم الأعظم».
ثانيًا: الموانع:
قال ابن القيم رحمه الله: «وكذلك الدعاء فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب؛ ولكن قد يختلف عنه أثره؛ إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاءً لا يحبُّه الله لما فيه من العدوان؛ وإما لحصول المانع من الإجابة: من أكل الحرام، والظلم، ورين الذنوب على القلوب، واستيلاء الغفلة والشهوة واللهو وغلبتها عليه، كما في مستدرك الحاكم من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ادعو الله، وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يقبل دعاءً من قلب لاهٍ))، فهذا دواء نافع، مزيل للداء؛ ولكنْ غفلةُ القلب عن الله تبطل قوته، وكذلك أكل الحرام يبطل قوتها ويضعفها؛ قال أبو ذر: يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح».
أيها المؤمنون:
إذا قمت بآداب الدعاء، وتجنَّبت الموانع، فإيَّاك وإيَّاك من الآفة الخطيرة التي يغفل عنها كثير من الناس، إيَّاك أيها المؤمن أن تستعجل الإجابة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «ومن الآفات التي تمنع ترتُّب أثر الدعاء عليه: أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة، فيستحسر، ويدع الدعاء، وهو بمنزلة مَنْ بذر بذرًا أو غرس غرسًا، فجعل يتعهَّده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله».
إن استعجال الإجابة أيها الصالحون آفة خطيرة، عصفت بكثير من الناس؛ فهم يريدون أن يستجيب الله لهم بعد دعائهم، ويغفلون عن سنة الله تعالى في امتحان العبد في صدقه وإخباته وخضوعه، إن الذين يستعجلون الإجابة غفلوا عن لذَّة الدعاء وعظيم الأجر في انتظار الإجابة، وهو حال إيماني رفيع يجعلك متعلِّقًا بالله، مُترقِّبًا لإجابته، طامعًا فيما عنده، وهذا الحال عند الصالحين أفضل من إجابتهم لدعائهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"من تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر، وما يلجئهم إلى توحيده، فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون أحدًا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكُّل عليه، والإنابة إليه وحلاوة الإيمان وذوق طعمه، والبراءة من الشرك، ما هو أعظم نعمةً عليهم من زوال المرض والخوف أو الجدب أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة، فإن ذلك لذات بدنية ونِعَم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن، وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين، فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال، أو يستحضر تفصيله بال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه؛ ولهذا قال بعض السلف: يا بن آدم، لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك، وقال بعض الشيوخ: إنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه، فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي؛ خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك؛ لأن النفس لا تريد إلا حظَّها فإذا قضي انصرفت"؛ ا ه.
إخوة الإيمان، الدعاء ثمرته مضمونه، وربحه حاصل، فلا تُسيئوا الظن بربكم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ضمن لك إحدى ثلاث، قال صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تُعَجَّل له دعوتُه، وإما أن يَدَّخِرَها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها))، قالوا: إذًا نكثرُ يا رسول الله! - أي من الدعاء - قال: ((الله أكثر))، وهذا مشروط بشرط؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ما لم يعجل))، قالوا: يا رسول الله، ما عجلته؟! قال: ((يقول: دعوتُ دعوتُ ولا أراه يستجابُ لي)).
أيها المؤمنون؛ إليكم بعض الإضاءات فيما يخص الدعاء:
♦ لا يعظم الشيطان لك ذنوبك، فتستصغر أمامها عَفْوَ الله، إياك إياك، انطرح أمام الله بكل خطاياك، واسكب بين يديه كل هفواتك، واطلب منه ما تريد، فلن تجد أرحم منه، ولا أرأف ولا آمن.
♦ إياك أن تظن أن إجابة الله لك ليست إلا فيما تريد بعينه، كلا ليس شرطًا أيها الموفق، فالله أعلم منك وأحكم، وقد سمِع دعوتك، ولم يخفَ عنه أمرُك؛ لكنه يختار لك ما هو أصلح لك، وتجارب الداعين تذكُر لنا مرارًا وتكرارًا أن ما أوتوه بفضل الدعاء خيرٌ مما كانوا يطلبون.
♦ استمتع بالدعاء، ولا تربط الإجابة بزمن معين، فقد تستغرق الإجابة أشهرًا؛ بل سنوات، وقد يمرُّ بك أحيانًا ما تظن أنه إجابة، فتبتهج ثم ينصرف عنك، فلا تتحسَّر وتيقَّن أن القادم أفضل بلا شك ولا ريب، فإياك أن تقف عن الدعاء، واصل وتلذَّذ بالدعاء وتصريف الله للأمور بين يديك حتى يأتي الفرج.
♦ لا تستعظموا حاجاتكم على ملك الملوك، واعلموا أن عدم يقينكم بالإجابة مؤثرٌ في حصولها؛ لأن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: ((أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني))؛ رواه مسلم، فظنُّوا بربكم خيرًا، ليس شفاء مريضك صعبًا على الله، وليست هداية ولدك عصيَّةً على الله، وليس حصولك على الوظيفة مستحيلًا على الله، وليس صلاح حالك كبيرًا على الله، ظنُّوا بربكم خيرًا، وادعوه وأنتم موقنون بالإجابة.
♦ إياك أن يفت في عضدك عدم استجابة الله لبعض الداعين، وكيف أن المسلمين يدعون الله في المحاريب وعلى المنابر، والأوضاع لم تتغيَّر، وأحوال المسلمين تزداد سوءًا، فهذا ليس من شأنك، ولست مسؤولًا عن أحد، ولا تعلم حكمة الله في ذلك، وما هي الموانع منه، واستمسك بالحصن الحصين ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60]، وإياك أن يصرفك الشيطان لبنيات الطريق، فتضل عن طَرْق أبواب السماء، فلا يفتح لك.
ختامًا:
أيها الداعون، إليكم مثالان لإجابة الله لدعاء السائلين:
المثال الأول: بعد أن بذل طالوت كل السبل في نجاح مهمته، وكان معه القوم الصالحون الذين عبروا النهر، واصطفَّ الجيشان للقتال؛ جيش طالوت، وجيش جالوت، لم يبق إلا الدعاء كما وصف الله تعالى ذلك المشهد: ﴿ وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 250]، وبعد هذا الدعاء، كان الجواب من الله: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ ﴾ [البقرة: 251].
المثال الثاني: يقول القاضي ابن شدَّاد: «وكان صلاح الدين إذا سمِع أنَّ العدو قد داهم المسلمين خرَّ إلى الأرض ساجدًا لله، داعيًا بهذا الدعاء: "اللهم قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل"، ويقول: ورأيته ساجدًا ودموعه تتقاطر على شيبته، ثمَّ على سجَّادته، ولا أسمع ما يقول، ولم ينقضِ ذلك اليوم إلَّا ويأتيه أخبار النصر على الأعداء».