روحي تبيك
07-05-2019, 05:25 PM
الحمد لله الرب الكريم، العلي العظيم، جاد على خلقه بالدين القويم، وأرسل إليهم النبي الأمين، وأنزل عليهم الكتاب المبين، فهداهم به من الضلال إلى الهدى، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ ؛ وَعَدَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَزَاءِ الْعَظِيمِ ، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ ، وَالْفَوْزِ الْكَبِيرِ ، وَأَوْعَدَ الْكُفَارِينِ عَذَابِ الْأَلِيمِ ، وَالْخُلُودِ فِي الْجَحِيمِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ؛ نَصَحَ لِأُمَّتِهِ أَعْظََ:إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها ، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وهم يقتحمون فيها »صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أما بعد : فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأقيموا له دينكم، وأسلموا له وجوهكم، تسعدوا في دنياكم وأخراكم ) الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( [الرعد: 28].
أَيُّهَا النَّاسُ : مَلَذَّاتُ الدُّنْيَا كَثِيرَةٌ ، وَزَخَارِفُهَا عَدِيدَةٌ ، وَشَهَوَاتُهَا مُثِيرَةٌ ، وَمِنْهَا الْمُبَاحُ وَمِنْهَام وَيَطِيبُ بِهَا عَيْشُ النَّاسِ ، وَيَوَدُّونَ الْخُلْدَ فِيهَا ، وَيَفِرُّونَ مِنَ الْمَوْتِ طَلَبًا لِمَلَذَّاتِهَا ، وَلَنْ يَبْقَى فِيهَا ، وَلَنْ يَبْقَى فِيهَا. ولكن هذه الملذات والزخارف والشهوات الدنيوية التي فتن، فالخوف يكون على فقد شيء منها، أو مصاب منتظر ينغص العيش فيها. وَالْحَزَنُ يَكُونُ عَلَى مَا فَاتَ مِنْهَا ، أَوْ عَلَى مُصِيبَةٍ نَكَأَتْ فِي الْقَلْبِ جُرْحَهَا.
ولما كان نعيم الجنة لا يكدره خوف ولا حزن نفاهما الله تعالى عن أهل الجنة ، فلا خوف من مستقبل مجهول، لأن المستقبل في الجنة معلوم، وهو خلد في النعيم والحبور، ولا حزن على فوات شيء؛ لأن من أدخل الجنة فاز ولم يفته شيء، ولا عَلَى مُصِيبَةٍ نَكَأَتْ فِي الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا مَصَائِبُ ؛ وَلِأَنَنِ الْقُلُوبَ قَدْ طُهِّرَتْ مِنْ جُرُوحِ الدِّنْيَفَ ها. وأبأس أهل الدنيا حين يصبغ في الجنة صبغة واحدة ينسى كل بؤس مر به فيقول : « ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط » كما جاء في الحديث الصحيح.
وإذا كان الأمر كذلك فلا عجب أن نجد في آيات الترغيب في القرآن نفي الخوف والحزن عن أهل الجنة، وبنفيهما ينفى عنهما كل شيء يكدر على العبد طيب عيشه، وصفو نعيمه في الجنة.
وَقَدْ تَكَرَّرَ نَفْيُ الْخَوْفِ وَالْحَزَنِ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا ، وَجَاءَ فِي سِيَاقَاتٍ عِدَّةٍ:
فجاء نفي الخوف والحزن في ذكر الاهتداء بهدى الله تعالى ، والإسلام له سبحانه، وتبشير أهله بالأجر يوم القيامة، ومنه قوله تعالى: ) فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( [البقرة: 38]، وقوله تعالى: ) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( [البقرة: 112].
وقد يعبر عن ذلك بالإيمان أو بالتقوى أو بالصلاح أو بالاستقامة ، وكلها تعني الالتزام بدين الله تعالى ظاهرا وباطنا، ومواطأة القلب اللسان في التزام الإيمان، وإتباع القول العمل، فإن الإيمان قول وعمل، والعمل الصالح من الإيمان ) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الْأَنْعَامِ: 48] ، ﴿ يَا بَنِي آدَم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( [الأعراف: 35]، )إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ( [الأحقاف: 13- 14].
وجاء نفي الخوف والحزن في سياق مدح الإيمان بالله تعالى والإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح ، كما في قوله تعالى: ) إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( [البقرة: 62] ؛ وَذَلِكَ أَنَّ لِلْإِيمَانِ مُبْتَدَأً وَمُنْتَهًى ، فَمُبْتَدَؤُهُ وَأَصْلُهُ الرَّكِينُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ تَع الى، وتحته تندرج أركان الإيمان الأخرى، وهي الإيمان بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة وبالقدر خيره وشره . وَمُنْتَهَى الْإِيمَانِ: الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْعِدُ الْجَزَاءِ ، وَمَوْضِعُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَالْخِابِابَابِ ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «الأصول الثلاثة التي اتفق عليها جميع الملل، وجاءت بها جميع الرسل، هي الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة».
وفي آية أخرى ذكر الله تعالى مع الإيمان والعمل الصالح إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، لأهميتهما، فهما ركنان من أركان الإسلام، والصلاة تزكية للنفس، وصلاح للقلب، والزكاة تزكية للمال، ووقاية من الشح: ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الْبَقَرَةِ: 277].
وجاء نفي الخوف والحزن في سياق الإنفاق في سبل الخير ، وصيانة المنفق نفسه عن المن والأذى، وهذا من ذكر الخاص بعد العام، وإلا فإن الإنفاق في سبل الخير من أجزاء الإيمان ودلائله ، ولكن نص عليه لأهميته ولوقاية قراء القرآن من الشح والبخل والإمساك ، وتحريضهم على تَسْلِيطِ الْمَالِ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ، فَذَلِكَ مِنَ الْغِبْطَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ النبوي، لفلاح المنفق في العاجل والآجل: ) وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ([التغابن: 16]، فلا عجب أن يعد الله تعالى المنفقين في سبل الخير بنفي الخوف والحزن عنهم يوم القيامة ، فهم في ظل صدقاتهم: ) الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الْبَقَرَةِ: 262].
ولأن الله تعالى يريد من عباده المؤمنين التحلي بالكرم والسخاء ونداوة اليد فإنه حرضهم سبحانه على الإنفاق سرا وجهرا ، ووعدهم بالأجر العظيم، ونفى عن المنفقين الخوف والحزن، وذلك لئلا يخاف العبد ذهاب ماله بإنفاقه في سبل الخير ، وافتقاره بعد غناه، فما أنفقه في سبيل الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَبْقَى لَهُ. والأصل إخفاء النفقة، لئلا يداخلها الرياء والسمعة، ولئلا يقع بها أذى ومنة، ولذا جاء في وصف المنفق الذي يظله الله تعالى يوم القيامة أنه : « تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»، ومع ذلك فإن من كان سخي النفس، ندي اليد، وكان الإنفاق ديدنه، فإنه -ولا بد- أن ينفق في السر والعلن، إذ تمر به مواقف تحتاج إلى إنفاق عاجل، ويعجز فيها عن إخفاء نفقته، ومن كان هذا شأنه فمنفي عنه الخوف والحزن ) الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( [البقرة: 274] .
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله وأطيعوه، واعملوا صالحا تجدوه ) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ( [النساء: 124].
أيها المسلمون : جاء نفي الخوف والحزن في آيات الذكر الحكيم في سياق ذكر الشهداء الذين بذلوا أرواحهم فداء لدينهم ) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 169- 170].
وجاء نفي الخوف والحزن في سياق ذكر أولياء الله تعالى : ) ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ( [يونس: 62-64 ].
وَبِهَذَا نَعْلَمُ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا حَقَّقَ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ فَازَ فِي الْآخِرَةِ بِزَوَالِ الْخَوْفِ وَالْحَزَنِ عَنْه وَلَكَ أَنْ تَتَخَيَّلَ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ- حَيَاةً أَبَدِيَّةً تَخْلُو مِنْ أَيِّ خَوْفٍ وَأَيِّي حَزَنٍ ، فَتِلْكَ هِيَ حَيَاةُِِِِِ وإذا أردت أن تعرف معنى ذلك فانظر إلى كل المنغصات على الناس في الحياة الدنيا، ستجد أنها لا تخرج عن حزن على شيء فائت، أو خوف مما هو متوقع وقادم، وذلك ليس في الآخرة أبدا.
ومن حقق الإيمان في الدنيا، وأتبع القول العمل أمن في الآخرة من كل خوف ومن كل حزن ) لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ( [الأنبياء: 103]، ) وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ( [الزمر: 61]، ويقال لهم: ) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ( [الزخرف: 68]، ويقال لهم: ) ادخ لُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ [الْأَعْرَافِ: 49].
فَالْعَمَلَ الْعَمَلَ -عِبَادَ اللَّهِ- لِدَارٍ لَا خَوْفَ فِيهَا وَلَا حَزَنَ ، بَلْ أَمْنٌ دَائِمٌ ، وَسُرُورٌ مُتَجَدِّدٌ ، وَُُِِ ولنأخذ عبرة من حر الدنيا؛ إذ يصيب الناس حزن بسببه، والموسرون يفرون أول الصيف إلى بلاد باردة خوفا منه ، والفرار إلى الله خير فرار، ) ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ( [الذاريات: 50].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ ...
أما بعد : فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأقيموا له دينكم، وأسلموا له وجوهكم، تسعدوا في دنياكم وأخراكم ) الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( [الرعد: 28].
أَيُّهَا النَّاسُ : مَلَذَّاتُ الدُّنْيَا كَثِيرَةٌ ، وَزَخَارِفُهَا عَدِيدَةٌ ، وَشَهَوَاتُهَا مُثِيرَةٌ ، وَمِنْهَا الْمُبَاحُ وَمِنْهَام وَيَطِيبُ بِهَا عَيْشُ النَّاسِ ، وَيَوَدُّونَ الْخُلْدَ فِيهَا ، وَيَفِرُّونَ مِنَ الْمَوْتِ طَلَبًا لِمَلَذَّاتِهَا ، وَلَنْ يَبْقَى فِيهَا ، وَلَنْ يَبْقَى فِيهَا. ولكن هذه الملذات والزخارف والشهوات الدنيوية التي فتن، فالخوف يكون على فقد شيء منها، أو مصاب منتظر ينغص العيش فيها. وَالْحَزَنُ يَكُونُ عَلَى مَا فَاتَ مِنْهَا ، أَوْ عَلَى مُصِيبَةٍ نَكَأَتْ فِي الْقَلْبِ جُرْحَهَا.
ولما كان نعيم الجنة لا يكدره خوف ولا حزن نفاهما الله تعالى عن أهل الجنة ، فلا خوف من مستقبل مجهول، لأن المستقبل في الجنة معلوم، وهو خلد في النعيم والحبور، ولا حزن على فوات شيء؛ لأن من أدخل الجنة فاز ولم يفته شيء، ولا عَلَى مُصِيبَةٍ نَكَأَتْ فِي الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَيْسَ فِيهَا مَصَائِبُ ؛ وَلِأَنَنِ الْقُلُوبَ قَدْ طُهِّرَتْ مِنْ جُرُوحِ الدِّنْيَفَ ها. وأبأس أهل الدنيا حين يصبغ في الجنة صبغة واحدة ينسى كل بؤس مر به فيقول : « ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط » كما جاء في الحديث الصحيح.
وإذا كان الأمر كذلك فلا عجب أن نجد في آيات الترغيب في القرآن نفي الخوف والحزن عن أهل الجنة، وبنفيهما ينفى عنهما كل شيء يكدر على العبد طيب عيشه، وصفو نعيمه في الجنة.
وَقَدْ تَكَرَّرَ نَفْيُ الْخَوْفِ وَالْحَزَنِ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا ، وَجَاءَ فِي سِيَاقَاتٍ عِدَّةٍ:
فجاء نفي الخوف والحزن في ذكر الاهتداء بهدى الله تعالى ، والإسلام له سبحانه، وتبشير أهله بالأجر يوم القيامة، ومنه قوله تعالى: ) فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( [البقرة: 38]، وقوله تعالى: ) بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( [البقرة: 112].
وقد يعبر عن ذلك بالإيمان أو بالتقوى أو بالصلاح أو بالاستقامة ، وكلها تعني الالتزام بدين الله تعالى ظاهرا وباطنا، ومواطأة القلب اللسان في التزام الإيمان، وإتباع القول العمل، فإن الإيمان قول وعمل، والعمل الصالح من الإيمان ) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الْأَنْعَامِ: 48] ، ﴿ يَا بَنِي آدَم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( [الأعراف: 35]، )إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ( [الأحقاف: 13- 14].
وجاء نفي الخوف والحزن في سياق مدح الإيمان بالله تعالى والإيمان باليوم الآخر والعمل الصالح ، كما في قوله تعالى: ) إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( [البقرة: 62] ؛ وَذَلِكَ أَنَّ لِلْإِيمَانِ مُبْتَدَأً وَمُنْتَهًى ، فَمُبْتَدَؤُهُ وَأَصْلُهُ الرَّكِينُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ تَع الى، وتحته تندرج أركان الإيمان الأخرى، وهي الإيمان بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة وبالقدر خيره وشره . وَمُنْتَهَى الْإِيمَانِ: الْإِيمَانُ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْعِدُ الْجَزَاءِ ، وَمَوْضِعُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَالْخِابِابَابِ ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «الأصول الثلاثة التي اتفق عليها جميع الملل، وجاءت بها جميع الرسل، هي الإيمان بالله واليوم الآخر والأعمال الصالحة».
وفي آية أخرى ذكر الله تعالى مع الإيمان والعمل الصالح إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، لأهميتهما، فهما ركنان من أركان الإسلام، والصلاة تزكية للنفس، وصلاح للقلب، والزكاة تزكية للمال، ووقاية من الشح: ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الْبَقَرَةِ: 277].
وجاء نفي الخوف والحزن في سياق الإنفاق في سبل الخير ، وصيانة المنفق نفسه عن المن والأذى، وهذا من ذكر الخاص بعد العام، وإلا فإن الإنفاق في سبل الخير من أجزاء الإيمان ودلائله ، ولكن نص عليه لأهميته ولوقاية قراء القرآن من الشح والبخل والإمساك ، وتحريضهم على تَسْلِيطِ الْمَالِ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ ، فَذَلِكَ مِنَ الْغِبْطَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ النبوي، لفلاح المنفق في العاجل والآجل: ) وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ([التغابن: 16]، فلا عجب أن يعد الله تعالى المنفقين في سبل الخير بنفي الخوف والحزن عنهم يوم القيامة ، فهم في ظل صدقاتهم: ) الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الْبَقَرَةِ: 262].
ولأن الله تعالى يريد من عباده المؤمنين التحلي بالكرم والسخاء ونداوة اليد فإنه حرضهم سبحانه على الإنفاق سرا وجهرا ، ووعدهم بالأجر العظيم، ونفى عن المنفقين الخوف والحزن، وذلك لئلا يخاف العبد ذهاب ماله بإنفاقه في سبل الخير ، وافتقاره بعد غناه، فما أنفقه في سبيل الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي يَبْقَى لَهُ. والأصل إخفاء النفقة، لئلا يداخلها الرياء والسمعة، ولئلا يقع بها أذى ومنة، ولذا جاء في وصف المنفق الذي يظله الله تعالى يوم القيامة أنه : « تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»، ومع ذلك فإن من كان سخي النفس، ندي اليد، وكان الإنفاق ديدنه، فإنه -ولا بد- أن ينفق في السر والعلن، إذ تمر به مواقف تحتاج إلى إنفاق عاجل، ويعجز فيها عن إخفاء نفقته، ومن كان هذا شأنه فمنفي عنه الخوف والحزن ) الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( [البقرة: 274] .
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد : فاتقوا الله وأطيعوه، واعملوا صالحا تجدوه ) ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ( [النساء: 124].
أيها المسلمون : جاء نفي الخوف والحزن في آيات الذكر الحكيم في سياق ذكر الشهداء الذين بذلوا أرواحهم فداء لدينهم ) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: 169- 170].
وجاء نفي الخوف والحزن في سياق ذكر أولياء الله تعالى : ) ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ( [يونس: 62-64 ].
وَبِهَذَا نَعْلَمُ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا حَقَّقَ الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ فَازَ فِي الْآخِرَةِ بِزَوَالِ الْخَوْفِ وَالْحَزَنِ عَنْه وَلَكَ أَنْ تَتَخَيَّلَ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ- حَيَاةً أَبَدِيَّةً تَخْلُو مِنْ أَيِّ خَوْفٍ وَأَيِّي حَزَنٍ ، فَتِلْكَ هِيَ حَيَاةُِِِِِ وإذا أردت أن تعرف معنى ذلك فانظر إلى كل المنغصات على الناس في الحياة الدنيا، ستجد أنها لا تخرج عن حزن على شيء فائت، أو خوف مما هو متوقع وقادم، وذلك ليس في الآخرة أبدا.
ومن حقق الإيمان في الدنيا، وأتبع القول العمل أمن في الآخرة من كل خوف ومن كل حزن ) لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون ( [الأنبياء: 103]، ) وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون ( [الزمر: 61]، ويقال لهم: ) يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ( [الزخرف: 68]، ويقال لهم: ) ادخ لُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ [الْأَعْرَافِ: 49].
فَالْعَمَلَ الْعَمَلَ -عِبَادَ اللَّهِ- لِدَارٍ لَا خَوْفَ فِيهَا وَلَا حَزَنَ ، بَلْ أَمْنٌ دَائِمٌ ، وَسُرُورٌ مُتَجَدِّدٌ ، وَُُِِ ولنأخذ عبرة من حر الدنيا؛ إذ يصيب الناس حزن بسببه، والموسرون يفرون أول الصيف إلى بلاد باردة خوفا منه ، والفرار إلى الله خير فرار، ) ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ( [الذاريات: 50].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ ...