نور القمر
07-02-2019, 04:23 PM
الآية 90: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ ﴾ عباده في هذا القرآن ﴿بِالْعَدْلِ﴾ في حقه تعالى (وذلك بأن يُعبَد وحده ولا يُعبَدُ غيره، لأنه هو الخالق المُنعِم، وأما غيره فلم يَخلّق شيئاً ولم يُنعِم بشيء)، وكذلك يأمر بالعدل في حق عباده (بإعطاء كل ذي حَقٍّ حقه)، ﴿وَالْإِحْسَانِ﴾ أي: ويأمر سبحانه بالإحسان في حقه (وذلك باجتناب المُحرَّمات، وأداء الفرائض كما شَرَع، مع مراقبة اللهِ تعالى في ذلك، حتى يكون الأداء على الوجه المطلوب إتقاناً وجَودة)، وكذلك يأمر سبحانه بالإحسان إلى الخَلق في الأقوال والمُعاملات، ﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾: أي ويأمر بإعطاء الأقرباء حقوقهم من الصلة والبِرّ، ﴿وَيَنْهَى﴾ سبحانه ﴿عَنِ الْفَحْشَاءِ﴾ وهو كل ما قَبُحَ قولاً وعملاً، ﴿وَالْمُنْكَرِ﴾ وهو كل ما يُنكِره الشرع وتُنكِره الفِطَر السليمة والعقول الراجحة السديدة، ﴿وَالْبَغْيِ﴾: أي ويَنهى سبحانه عن ظلم الناس والتعدي عليهم، واللهُ تعالى - بهذا الأمر وهذا النهي - ﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾: أي لكي تتذكروا أوامره وتنتفعوا بها.
♦ واعلم أنّ هذه الآية تُفَسِّر قوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ﴾ أي أمَرناهم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ولكنهم فسقوا في القرية، ولم يَمتثلوا لأوامر اللهِ تعالى فأهلكهم.
الآية 91: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾: أي التزِموا بالوفاء بكل عهدٍ أوْجبتموه على أنفسكم (بينكم وبين اللهِ تعالى، أو بينكم وبين الناس)، فيما لا يُخالف شرع الله، ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾: أي ولا ترجعوا في الحَلف بعد أن أكَّدْتموهُ بذِكر لفظ الجلالة (واللهِ) أثناء القَسَم ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ أي شاهداً وضامنًا ووكيلاً، عندما حلفتم به وأنتم تعاهدون الناس، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (هذه الجملة تحمل وعيداً شديداً لمن ينقض العهد).
♦ واعلم أنّ هذه الآية قد حَرَّمتْ نقض العهد وعدم الالتزام بالحَلف (إذا كان ذلك لمصالح مادية)، أمّا إذا حلف العبد على شيء، ثم رأى شيئاً خيراً منه، فإنه يَنقض يمينه ويُكَفِّر كفّارة يمين، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إني واللهِ لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها، إلا كَفَّرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير) (انظر صحيح سنن النسائي ج: 9/7).
الآية 92: ﴿وَلَا تَكُونُوا﴾ - برُجوعكم في عهودكم وحَلفكم - ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾: أي كامرأةٍ غزلتْ غَزْلاً وأحْكَمَتْهُ بقوة، ثم حَلَّتْهُ وأفسَدَتْهُ، فجعلتْهُ ﴿أَنْكَاثًا﴾: أي مَنقوضاً (يعني أصبح خيوطاً عديدة، كما كان قبل الغزْل)، وذلك حينَ ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾: أي تجعلونَ حَلِفكم - أثناء التعاهد - وسيلة إلى خِداع مَن عاهدتموه، كأنْ تعاهدوا جماعة معينة، وتحلفوا لهم باللهِ فيُصَدِّقوكم، ثم تنقضوا عهدكم معهم بسبب: ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾: يعني لأنّ هناك جماعة أخرى أكثر مالاً ومَنفعة من الذين عاهدتموهم، ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ﴾: يعني إنما يَختبركم اللهُ بهذه الأحوال، ويُهيئ هذه الأسباب، ليرى الصادق الوفي، من الخائن الذي يُفَضِّل الدنيا على الانقياد لأمْر ربه، ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ﴾ أي: وسوف يُبَيّنُ سبحانه لكم ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ مِن أمْر الدين (ومن ذلك اختلاف أحوالكم في العهود)، فيُعطي الصادق الوفي ما يَستحقه من النعيم، ويُجازي الكاذب الخائن بما يَستحقه من العذاب.
الآية 93: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي على دينٍ واحد، وهو الإسلام، ﴿وَلَكِنْ يُضِلُّ﴾ سبحانه ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ مِمَّن عَلِمَ أنه يُفَضِّل الضلال على الهدى، والدنيا على الآخرة، ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ مِمَّن عَلِمَ أنه يُفَضِّل الهدى على الضلال، ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
الآية 94: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ أي: ولا تجعلوا حَلِفكم خَديعةً لمن حلفتم له ليُصَدِّقكم، ثم تنقضوا عهدكم معه مِن أجْل غرض دُنيوي حقير، فإياكم والوقوع في هذه الكبيرة ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾: أي حتى لا تَزِلّ قدمُ أحدكم عن الإسلام بعد أن رَسَخَتْ فيه، فتَهلَكوا بعد أن كنتم آمنين، ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾: أي وتذوقوا ما يَسُوؤكم من العذاب في الدنيا ﴿بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي بما تسببتم فيه مِن مَنْع الناس عن الدخول في الإسلام (عندما رأوا غَدْركم وخيانتكم)، ﴿وَلَكُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
الآية 95: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي: ولا تنقضوا عهد اللهِ لتأخذوا مكانه عَرَضًا قليلاً مِن متاع الدنيا، ﴿إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾: يعني إنّ ما عند اللهِ من الثواب على الوفاء بالعهد ﴿هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من هذا الثمن القليل ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الفرق بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة.
الآية 96: ﴿مَا عِنْدَكُمْ﴾ مِن حُطام الدنيا﴿يَنْفَدُ﴾ أي يَذهب، ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من النعيم ﴿بَاقٍ﴾ لا يزول ولا يَنقص، فاذكروا هذا ولا تبيعوا الغالي بالرخيص والباقي بالفاني، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على التكاليف الشاقة - ومنها الوفاء بالعهد - فنُعطيهم ﴿أَجْرَهُمْ﴾ في الآخرة على عباداتهم ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي بمِثل جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه في الدنيا (حتى يكون أجر النافلة كأجر الفريضة).
الآية 97: ﴿مَنْ عَمِلَ﴾ عملاً ﴿صَالِحًا﴾﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ (يعني سواء كان العاملُ ذكرًا أو أنثى)، ولكنْ بشرط: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ باللهِ ورسوله والدار الآخرة، ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ﴾ في الدنيا ﴿حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ أي حياة سعيدة مطمئنة (بالقناعة والرزق الحلال، والتوفيق إلى الطاعة المُوجِبة لرضوان اللهِ تعالى)، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ في الجنة على عباداتهم ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي بمِثل جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه في الدنيا (واعلم أنّ الجزاء يكون بحسب أحسن عمل عملوه مِن كل نوع، ففي الصلاة يُعطَى جزاء أفضل صلاة صلاَّها، وفي الصدقات بأفضل صدقة أعطاها وهكذا).
الآية 98، والآية 99، والآية 100: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ﴾: يعني فإذا أردتَ - أيها المؤمن - أن تقرأ شيئًا من القرآن: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ أي المطرود مِن رحمة الله، وذلك بأن تقول: (أعوذ باللهِ من الشيطان الرجيم)، ليَحميك اللهُ تعالى من وسوسته أثناء القراءة، ﴿إِنَّهُ﴾ أي الشيطان﴿لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ أي ليس له تَحَكُّم أو تسلُّطٌ على إضلال الذين آمنوا ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أي والذين هم يَعتمدون على اللهِ وحده في كل أمورهم، (وقد قيل في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ أي لا يُوقعهم في ذنبٍ لا يَتوبونَ منه).
﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾: يعني إنما تَحَكُّمه وتَسَلُّطه يكون على الذين أطاعوه ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾: أي والذين هم - بسبب طاعته - مُشركونَ باللهِ تعالى (فهؤلاء هم الذين يَتسلط الشيطان عليهم فيُضِلَّهم حتى يُهلِكَهم).
الآية 101، والآية 102: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ﴾: يعني وإذا نَسَخَ اللهُ حُكماً في آيةٍ مُعَيّنة من القرآن، واستبدله بحُكمٍ آخر في آيةٍ أخرى ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ أي: وهو سبحانه الأعلم بمَا يُصلِحُ خَلْقه، فيُنَزِّل لهم الأحكام في أوقاتٍ مختلفة (تدريجاً لهم ورحمةً بهم): ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾: أي قال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنت مُختَلِق على اللهِ ما لم يَقُلْه ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يعني: بل هم الذين لا عِلْمَ لهم بحِكمة ربهم سبحانه، ﴿قُلْ﴾ لهم - أيها الرسول -: ﴿نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي نَزَلَ جبريلُ بالقرآنَ مِن عند ربك ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي مُشتمِلاً على الحق الواضح، فلستَ أنت الذي تقولُ ما تشاء، وإنما هو وَحْي اللهِ وكلامه ﴿لِيُثَبِّتَ﴾ بِهِ ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ على إيمانهم (إذ كلما نَزَلَ قرآنٌ: ازدادَ المؤمنون إيماناً، فقلوبهم تحيا بالقرآن، كما تحيا الأرض بالمطر)،﴿وَهُدًى﴾ أي ونَزَلَ القرآنُ هدايةً مِن الضَلال ﴿وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ بالفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة، (واعلم أنّ معنى روح القُدُس: أي الروح المُطهَّر، وهو جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)).
♦ ويُلاحَظ أنَّ اللهَ تعالى قال: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ﴾ رغم أنه كان المتوقع مِن السياق أن يقول له: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ من ربي)، وذلك لأنّ في هذه الآية تصبير ومُواساة للنبي صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم وافترائهم، فخرج الكلام عن أسلوب التلقين إلى أسلوب التكريم والتشريف، واللهُ أعلم.
الآية 103: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ أي نَعلم أنّ المشركين قد زعموا أنك تتلقى القرآن مِن بَشَر (يَعنُونَ بذلك (حداداً) نصرانياً في مكة)، وهم يَعلمون أنهم كاذبون في هذا الافتراء، فـ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ﴾: أي لسان الذي نَسَبوا إليه تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أعجمي لا يُحسن التحدث باللغة العربية ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾: أي والقرآن عربي، في غاية الفصاحة والبلاغة والوضوح والبيان، فكيف يُعلمه أعجمي؟!
الآية 104: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ﴾ يعني إنّ الذين لا يؤمنون بآيات القرآن (التي هي نورٌ وهدى، وحُجَج قاطعة وبراهين ساطعة)، أولئك المُكَذِّبون ﴿لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾ لأنهم أعرضوا عن طريق الهداية، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في نار جهنم.
الآية 105، والآية 106، والآية 107: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ﴾ يعني: إنما يَصدر افتراء الكذب من ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ﴾ كالمُعاندين الذين كَذَّبوا بما جاءهم من الآيات الواضحة، فهؤلاء لا يَسَعُهم إلا الافتراء لترويج كَذبهم وباطلهم ليَخدعوا به الناس، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ أي: الكذب مُنحَصِرٌ فيهم وهم أوْلَى به مِن غيرهم، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد وَصَفه أعداؤه قبل الرسالة بالصدق والأمانة، ولم يُجَرِّبوا عليه كذبة واحدة، فكيف يَترك الكذب عليهم ويَكذب على ربه؟! (وهذا رَدٌّ مِن اللهِ تعالى على وَصْفِهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالكذب، فأخبَرَهم تعالى أنّ الكاذب حقاً هو الكافر بآيات الله، لأنه لا يرجو ثوابَ اللهِ ولا يَخافُ عقابه، فلهذا لا يَمنعه شيءٌ عن الكذب).
♦ ثم يُخبر تعالى عن قُبح حال ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ وارتدَّ من بعد ما تبَيَّنَ له الحق، وفَضَّلَ الدنيا على الآخرة، واختار الانقياد للشهوات والمَلَذَّات على الانقياد لرب العباد، ولكنه سبحانه استثتى طائفة منهم فقال: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾: يعني إلا مَن أُجبِرَ على النُطق بالكفر، فنَطَقَ به خوفًاً من الهلاك (وقلبه ثابتٌ على الإيمان)، فهذا لا لوم عليه، ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾: يعني ولكنْ مَن نَطَقَ بالكفر، وفتَحَ صدره له، ورَضِيَ به: ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، و﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ﴾ أي بسبب أنهم ﴿اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ واختاروها ﴿عَلَى الْآَخِرَةِ﴾ لاعتقادهم الفاسد بأنهم سيَتحَرّرون من التقيُّد بالعبادات والحلال والحرام وغير ذلك، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ أي وبسبب أنّ اللهَ ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ أي لا يُوَفقهم للحق والصواب (عقوبةً لهم على اختيارهم الكفر وإصرارهم عليه).
الآية 108، والآية 109: ﴿أُولَئِكَ﴾ هم﴿الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾: أي خَتَمَ اللهُ على قلوبهم بالكفر واتِّباع الأهواء والشهوات، فلا يَصل إليها نور الهداية، ﴿وَسَمْعِهِمْ﴾: أي وأصَمّ اللهُ سَمْعهم عن آياته فلا يَسمعونها سماعَ تدبُّر وانتفاع، ﴿وَأَبْصَارِهِمْ﴾: أي وأعمى اللهُ أبصارهم، فلا يرون البراهين الدالة على استحقاقه وحده للعبادة، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ عمَّا أعدَّ اللهُ لهم من العذاب،﴿لَا جَرَمَ﴾: أي حقًا ولا شك ﴿أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ الذين استبدلوا النعيم المُقيم بالعذاب الأليم.
الآية 110: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا﴾ وهم المُستضعَفون الذين عَذَّبهم المشركون في "مكة"، حتى وافقوهم على ما هم عليه ظاهرًا، ففتنوهم بالتلفظ بما يُرضيهم، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولمَّا تمكنوا من الخَلاص منهم، هاجروا إلى "المدينة" ﴿ثُمَّ جَاهَدُوا﴾ في سبيل الله ﴿وَصَبَرُوا﴾ على التكاليف الشاقة (ومنها الجهاد): ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾ - أي مِن بعد هِجرتهم وجهادهم وصَبرهم - ﴿لَغَفُورٌ﴾ لجميع ذنوبهم، ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم، فلا يخافوا ولا يحزنوا.
♦ واعلم أنّ هذه الآية تُفَسِّر قوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا ﴾ أي أمَرناهم بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، ولكنهم فسقوا في القرية، ولم يَمتثلوا لأوامر اللهِ تعالى فأهلكهم.
الآية 91: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾: أي التزِموا بالوفاء بكل عهدٍ أوْجبتموه على أنفسكم (بينكم وبين اللهِ تعالى، أو بينكم وبين الناس)، فيما لا يُخالف شرع الله، ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾: أي ولا ترجعوا في الحَلف بعد أن أكَّدْتموهُ بذِكر لفظ الجلالة (واللهِ) أثناء القَسَم ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا﴾ أي شاهداً وضامنًا ووكيلاً، عندما حلفتم به وأنتم تعاهدون الناس، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (هذه الجملة تحمل وعيداً شديداً لمن ينقض العهد).
♦ واعلم أنّ هذه الآية قد حَرَّمتْ نقض العهد وعدم الالتزام بالحَلف (إذا كان ذلك لمصالح مادية)، أمّا إذا حلف العبد على شيء، ثم رأى شيئاً خيراً منه، فإنه يَنقض يمينه ويُكَفِّر كفّارة يمين، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (إني واللهِ لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيراً منها، إلا كَفَّرتُ عن يميني وأتيتُ الذي هو خير) (انظر صحيح سنن النسائي ج: 9/7).
الآية 92: ﴿وَلَا تَكُونُوا﴾ - برُجوعكم في عهودكم وحَلفكم - ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾: أي كامرأةٍ غزلتْ غَزْلاً وأحْكَمَتْهُ بقوة، ثم حَلَّتْهُ وأفسَدَتْهُ، فجعلتْهُ ﴿أَنْكَاثًا﴾: أي مَنقوضاً (يعني أصبح خيوطاً عديدة، كما كان قبل الغزْل)، وذلك حينَ ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾: أي تجعلونَ حَلِفكم - أثناء التعاهد - وسيلة إلى خِداع مَن عاهدتموه، كأنْ تعاهدوا جماعة معينة، وتحلفوا لهم باللهِ فيُصَدِّقوكم، ثم تنقضوا عهدكم معهم بسبب: ﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾: يعني لأنّ هناك جماعة أخرى أكثر مالاً ومَنفعة من الذين عاهدتموهم، ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ﴾: يعني إنما يَختبركم اللهُ بهذه الأحوال، ويُهيئ هذه الأسباب، ليرى الصادق الوفي، من الخائن الذي يُفَضِّل الدنيا على الانقياد لأمْر ربه، ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ﴾ أي: وسوف يُبَيّنُ سبحانه لكم ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ مِن أمْر الدين (ومن ذلك اختلاف أحوالكم في العهود)، فيُعطي الصادق الوفي ما يَستحقه من النعيم، ويُجازي الكاذب الخائن بما يَستحقه من العذاب.
الآية 93: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي على دينٍ واحد، وهو الإسلام، ﴿وَلَكِنْ يُضِلُّ﴾ سبحانه ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾ مِمَّن عَلِمَ أنه يُفَضِّل الضلال على الهدى، والدنيا على الآخرة، ﴿وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ مِمَّن عَلِمَ أنه يُفَضِّل الهدى على الضلال، ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
الآية 94: ﴿وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ أي: ولا تجعلوا حَلِفكم خَديعةً لمن حلفتم له ليُصَدِّقكم، ثم تنقضوا عهدكم معه مِن أجْل غرض دُنيوي حقير، فإياكم والوقوع في هذه الكبيرة ﴿فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾: أي حتى لا تَزِلّ قدمُ أحدكم عن الإسلام بعد أن رَسَخَتْ فيه، فتَهلَكوا بعد أن كنتم آمنين، ﴿وَتَذُوقُوا السُّوءَ﴾: أي وتذوقوا ما يَسُوؤكم من العذاب في الدنيا ﴿بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي بما تسببتم فيه مِن مَنْع الناس عن الدخول في الإسلام (عندما رأوا غَدْركم وخيانتكم)، ﴿وَلَكُمْ﴾ في الآخرة ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾.
الآية 95: ﴿وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي: ولا تنقضوا عهد اللهِ لتأخذوا مكانه عَرَضًا قليلاً مِن متاع الدنيا، ﴿إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾: يعني إنّ ما عند اللهِ من الثواب على الوفاء بالعهد ﴿هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ من هذا الثمن القليل ﴿إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ الفرق بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة.
الآية 96: ﴿مَا عِنْدَكُمْ﴾ مِن حُطام الدنيا﴿يَنْفَدُ﴾ أي يَذهب، ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ من النعيم ﴿بَاقٍ﴾ لا يزول ولا يَنقص، فاذكروا هذا ولا تبيعوا الغالي بالرخيص والباقي بالفاني، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ على التكاليف الشاقة - ومنها الوفاء بالعهد - فنُعطيهم ﴿أَجْرَهُمْ﴾ في الآخرة على عباداتهم ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي بمِثل جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه في الدنيا (حتى يكون أجر النافلة كأجر الفريضة).
الآية 97: ﴿مَنْ عَمِلَ﴾ عملاً ﴿صَالِحًا﴾﴿مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ (يعني سواء كان العاملُ ذكرًا أو أنثى)، ولكنْ بشرط: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ باللهِ ورسوله والدار الآخرة، ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ﴾ في الدنيا ﴿حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ أي حياة سعيدة مطمئنة (بالقناعة والرزق الحلال، والتوفيق إلى الطاعة المُوجِبة لرضوان اللهِ تعالى)، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ﴾ في الجنة على عباداتهم ﴿بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أي بمِثل جزاء أحسن عمل كانوا يعملونه في الدنيا (واعلم أنّ الجزاء يكون بحسب أحسن عمل عملوه مِن كل نوع، ففي الصلاة يُعطَى جزاء أفضل صلاة صلاَّها، وفي الصدقات بأفضل صدقة أعطاها وهكذا).
الآية 98، والآية 99، والآية 100: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ﴾: يعني فإذا أردتَ - أيها المؤمن - أن تقرأ شيئًا من القرآن: ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ أي المطرود مِن رحمة الله، وذلك بأن تقول: (أعوذ باللهِ من الشيطان الرجيم)، ليَحميك اللهُ تعالى من وسوسته أثناء القراءة، ﴿إِنَّهُ﴾ أي الشيطان﴿لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ أي ليس له تَحَكُّم أو تسلُّطٌ على إضلال الذين آمنوا ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أي والذين هم يَعتمدون على اللهِ وحده في كل أمورهم، (وقد قيل في قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ أي لا يُوقعهم في ذنبٍ لا يَتوبونَ منه).
﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾: يعني إنما تَحَكُّمه وتَسَلُّطه يكون على الذين أطاعوه ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾: أي والذين هم - بسبب طاعته - مُشركونَ باللهِ تعالى (فهؤلاء هم الذين يَتسلط الشيطان عليهم فيُضِلَّهم حتى يُهلِكَهم).
الآية 101، والآية 102: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ﴾: يعني وإذا نَسَخَ اللهُ حُكماً في آيةٍ مُعَيّنة من القرآن، واستبدله بحُكمٍ آخر في آيةٍ أخرى ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ﴾ أي: وهو سبحانه الأعلم بمَا يُصلِحُ خَلْقه، فيُنَزِّل لهم الأحكام في أوقاتٍ مختلفة (تدريجاً لهم ورحمةً بهم): ﴿قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ﴾: أي قال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما أنت مُختَلِق على اللهِ ما لم يَقُلْه ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ يعني: بل هم الذين لا عِلْمَ لهم بحِكمة ربهم سبحانه، ﴿قُلْ﴾ لهم - أيها الرسول -: ﴿نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ﴾ أي نَزَلَ جبريلُ بالقرآنَ مِن عند ربك ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي مُشتمِلاً على الحق الواضح، فلستَ أنت الذي تقولُ ما تشاء، وإنما هو وَحْي اللهِ وكلامه ﴿لِيُثَبِّتَ﴾ بِهِ ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا﴾ على إيمانهم (إذ كلما نَزَلَ قرآنٌ: ازدادَ المؤمنون إيماناً، فقلوبهم تحيا بالقرآن، كما تحيا الأرض بالمطر)،﴿وَهُدًى﴾ أي ونَزَلَ القرآنُ هدايةً مِن الضَلال ﴿وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ بالفلاح في الدنيا والفوز في الآخرة، (واعلم أنّ معنى روح القُدُس: أي الروح المُطهَّر، وهو جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)).
♦ ويُلاحَظ أنَّ اللهَ تعالى قال: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ﴾ رغم أنه كان المتوقع مِن السياق أن يقول له: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ من ربي)، وذلك لأنّ في هذه الآية تصبير ومُواساة للنبي صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم وافترائهم، فخرج الكلام عن أسلوب التلقين إلى أسلوب التكريم والتشريف، واللهُ أعلم.
الآية 103: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ أي نَعلم أنّ المشركين قد زعموا أنك تتلقى القرآن مِن بَشَر (يَعنُونَ بذلك (حداداً) نصرانياً في مكة)، وهم يَعلمون أنهم كاذبون في هذا الافتراء، فـ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ﴾: أي لسان الذي نَسَبوا إليه تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أعجمي لا يُحسن التحدث باللغة العربية ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾: أي والقرآن عربي، في غاية الفصاحة والبلاغة والوضوح والبيان، فكيف يُعلمه أعجمي؟!
الآية 104: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ﴾ يعني إنّ الذين لا يؤمنون بآيات القرآن (التي هي نورٌ وهدى، وحُجَج قاطعة وبراهين ساطعة)، أولئك المُكَذِّبون ﴿لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ﴾ لأنهم أعرضوا عن طريق الهداية، ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في نار جهنم.
الآية 105، والآية 106، والآية 107: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ﴾ يعني: إنما يَصدر افتراء الكذب من ﴿الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ﴾ كالمُعاندين الذين كَذَّبوا بما جاءهم من الآيات الواضحة، فهؤلاء لا يَسَعُهم إلا الافتراء لترويج كَذبهم وباطلهم ليَخدعوا به الناس، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ أي: الكذب مُنحَصِرٌ فيهم وهم أوْلَى به مِن غيرهم، وأما محمد صلى الله عليه وسلم فقد وَصَفه أعداؤه قبل الرسالة بالصدق والأمانة، ولم يُجَرِّبوا عليه كذبة واحدة، فكيف يَترك الكذب عليهم ويَكذب على ربه؟! (وهذا رَدٌّ مِن اللهِ تعالى على وَصْفِهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالكذب، فأخبَرَهم تعالى أنّ الكاذب حقاً هو الكافر بآيات الله، لأنه لا يرجو ثوابَ اللهِ ولا يَخافُ عقابه، فلهذا لا يَمنعه شيءٌ عن الكذب).
♦ ثم يُخبر تعالى عن قُبح حال ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ﴾ وارتدَّ من بعد ما تبَيَّنَ له الحق، وفَضَّلَ الدنيا على الآخرة، واختار الانقياد للشهوات والمَلَذَّات على الانقياد لرب العباد، ولكنه سبحانه استثتى طائفة منهم فقال: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾: يعني إلا مَن أُجبِرَ على النُطق بالكفر، فنَطَقَ به خوفًاً من الهلاك (وقلبه ثابتٌ على الإيمان)، فهذا لا لوم عليه، ﴿وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا﴾: يعني ولكنْ مَن نَطَقَ بالكفر، وفتَحَ صدره له، ورَضِيَ به: ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾، و﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ﴾ أي بسبب أنهم ﴿اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ واختاروها ﴿عَلَى الْآَخِرَةِ﴾ لاعتقادهم الفاسد بأنهم سيَتحَرّرون من التقيُّد بالعبادات والحلال والحرام وغير ذلك، ﴿وَأَنَّ اللَّهَ﴾ أي وبسبب أنّ اللهَ ﴿لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ أي لا يُوَفقهم للحق والصواب (عقوبةً لهم على اختيارهم الكفر وإصرارهم عليه).
الآية 108، والآية 109: ﴿أُولَئِكَ﴾ هم﴿الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾: أي خَتَمَ اللهُ على قلوبهم بالكفر واتِّباع الأهواء والشهوات، فلا يَصل إليها نور الهداية، ﴿وَسَمْعِهِمْ﴾: أي وأصَمّ اللهُ سَمْعهم عن آياته فلا يَسمعونها سماعَ تدبُّر وانتفاع، ﴿وَأَبْصَارِهِمْ﴾: أي وأعمى اللهُ أبصارهم، فلا يرون البراهين الدالة على استحقاقه وحده للعبادة، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ عمَّا أعدَّ اللهُ لهم من العذاب،﴿لَا جَرَمَ﴾: أي حقًا ولا شك ﴿أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ الذين استبدلوا النعيم المُقيم بالعذاب الأليم.
الآية 110: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا﴾ وهم المُستضعَفون الذين عَذَّبهم المشركون في "مكة"، حتى وافقوهم على ما هم عليه ظاهرًا، ففتنوهم بالتلفظ بما يُرضيهم، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولمَّا تمكنوا من الخَلاص منهم، هاجروا إلى "المدينة" ﴿ثُمَّ جَاهَدُوا﴾ في سبيل الله ﴿وَصَبَرُوا﴾ على التكاليف الشاقة (ومنها الجهاد): ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾ - أي مِن بعد هِجرتهم وجهادهم وصَبرهم - ﴿لَغَفُورٌ﴾ لجميع ذنوبهم، ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم، فلا يخافوا ولا يحزنوا.