Şøķåŕą
02-04-2025, 02:08 PM
جالسٌ وحده في مكتبه يتصفَّح كُتُبَه القديمةَ؛ يتصفح العِقد الفريد تارة، والأغاني تارة أخرى، ويُطالع صديقه الجاحظ؛ فقد كان أكثرَ الأعلام الذين يعشقهم، يُحِبُّ "بيانه وتبيينه"، و"حيوانه"، و"بخلاءه"، يقرؤها بنَهَمٍ ولا يبالي بما صرفه من وقتٍ في سبيل قراءة هذه الكتب، لم يكن يدري سبب انجذابه إلى كُتُب الجاحظ وأدبه، ألأنَّه كان سَمَّاكًا كصاحبه، أم لأنه كان يهْوَى قراءة الكتب بغير انقطاع، أم لأنه كان ذميمَ الخِلْقَة، مُحِبًّا للدُّعابة كحال أبي عثمان؟ ومهما يكُنِ السبب، فإنه يقرأ له ما يقع بين يديه من نكت وقصصٍ ونوادرَ، صارت طيِّعة في فَهمِهِ بعد طول مجاهدة ومكابدة.
كان موسى رجلًا في الخمسين من عمره، قويَّ البِنْيَةِ، قصيرَ القامة، خَشن الملامح، ذميم الوجه، لا شيء في قسماته ينطِق بحُسْنٍ، لكن صدره كان رحبًا للجميع، منشرحَ الخاطر، محبًّا للفُكاهة، التحق بالجامعة ودرس الأدب العربيَّ، لكنه لم يحظَ بوظيفة في بلده، فاشتغل سمَّاكًا في سوق شعبي، يستيقظ كل صباح قبل الفجر بساعة، فهو يعلم أنها ساعة مرغَّب فيها، يتوضأ ويصلي ما شاء من ركعات حتى يؤذَّن لصلاة الفجر، فيُهرع إلى المسجد مع النَّزر القليل من روَّادٍ غالَبوا النومَ والشيطان، فانتصروا في معركتهم اليومية، فلا بردٌ في الشتاء يمنعُهم من إزالة دِثارٍ ناعمٍ دافئ، ولا حرٌّ في الصيف تَثْنِيهم لَفَحاتُه عن شدِّ الْمِئْزَرِ والثبات على الصنيع، يقرأ بضعة أثمان بُعَيدَ الصلاة، ثم يتوجه إلى السوق، يتناول إفطارًا من زبد وشاي وخبز سميد أو ذرة يُطهى على نارٍ بحريق الأعواد، مذاق طيب يختلف عن ذاك الذي اعتاده كثيرون بطهو الغاز، كمذاق غَبَشِ الفجر مُتَنَدِّيًا يمسح على القلب، فيُشرق فيه الإيمان، وتنبعث في شَغافه أرواحٌ تمنحه حَيَواتٍ جديدةً في جسد واحد، فيشعر كأنه أجساد تتناسخ من ذات الجسد، قوة ربانية، وإرادة حازمة، تدفعه إلى القيام بكل شيء.
صفيرُ الشاحنة يعلن عن الوصول، يتقدم السَّمَّاكون من السائق ومساعديه، يُفتح الباب الخلفي، يبدأ إنزال الصناديق، أسماك متنوعة جاد بها البحر لحمًا طريًّا، استرَقَ موسى نظراتٍ إلى الأنواع، وطلب من المساعدين مدَّه بأصناف أربعة، نظر إليه أحد السَّمَّاكين بامتعاض وقال: "من تظن نفسك؟ تأخذ لنفسك أربعة أنواع، وماذا عنا نحن؟" ردَّ موسى بنبرة هادئة: "أنا مجرد سمَّاك بسيط"، قالها وصرف وجهه نحو المساعدين وقال: "هاتِ الصناديق الأربعة، وأضِفْ إليها سمكة التونة الكبيرة"، فقال أحد السَّمَّاكين لموسى: "يا رجل، إذا استأثرت لنفسك بالأنواع الأربعة، فإنك لن تترك للآخرين غير نوع واحد، وأنت تعلم أن الزبائن يحبون أن يبتاعوا من كل صِنفٍ".
فرد موسى: "حسنًا، اصنعوا ما بدا لكم".
السَّمَّاك: "سنقتسم بيننا صناديق السمك بالتساوي؛ حتى تطيبَ نفوسنا".
أحد المساعدين: "عين العقل سي محمود، سيحصل كلٌّ منكم على صندوق ونصف، أما عن سمكة التونة، فستقترعون عليها، ولْيَرْضَ كل واحد بنصيبه، ما رأيك سي المعطي؟".
المعطي وهو ينظر إلى الجماعة قال وهو يومئ برأسه: "قبِلتُ".
وزَّع المساعدان السمك على الرجال الثلاثة بالتساوي، وحان دور الاقتراع، كتب السائق أسماء السماكين على ورقات ثلاثة، وخلط بينها ثم أمر أحد المساعدين باختيار واحدة، فتحها، نظر في الورقة مليًّا، تطلَّعت إليه النظرات المتشوقة لمعرفة الاسم، أمره السائق بقراءة الاسم فقال المساعد: ما هذا الاسم الغريب المكتوب سي محمد؟ فرد السائق: ماذا هناك؟ نظر نظرةً مُمْعِنة فصمت قليلًا، والذهول يلُفُّه فقرأ بتلعثم: الجاحظ، فقفز موسى من مكانه كشابٍّ في العشرين، وكاد يطير في الهواء، وقال: "إنه أنا، إنه أنا، صاحب السمكة، صاحِ".
قاطعه المعطي وقال بنبرة حادة: "لا بد أنك جُننتَ، هذا اسم غريب، ومتى كان اسمك جاحظًا؟"، وأردف السَّمَّاك محمود: "هذا ليس اسمًا، قد يكون إشارة إلى شيء غير آدمي أو ...".
السائق ذاهلًا: "أنا لم أكتب هذا الاسم ... أخذت الأسئلة تدور في خَلَدِهِ، وقال في نفسه: ربما كانت الورقة قديمة، أو كُتبت سهوًا أو ...".
التمس منه المساعد أن يُعيد الكَرَّةَ بنفسه، ويكتب الأسماء الثلاثة من جديد في ورقة أخرى، هذه المرة سيلتمس من أحد الروَّاد اختيار ورقة من الورقات، شيخ هرِم ذميمِ الخِلقة، تقوَّس ظهره يحمل في يده كتابًا قديمًا، يختار ورقة من الثلاث، وقال: ستكون حاملة لنفس الاسم، ضحِك بملء فمٍ أدْرَد لم تَبْقَ فيه غير شفتين مُتَيَبِّسَتَين، وانصرف وهو يلوِّح لهم بعُكَّازةٍ في يده اليمنى، المساعدان والسائق يتتبعان الشيخ بنظرات ذاهلة، اليد تُمسك الورقة، تفتحها بحذر كأنها ستُنبئ عن خطر، المساعد يُحَمْلِقُ في الحروف نفسها فقال: "لقد صدق العجوز، الجاحظ".
قفز موسى فرحًا من جديد، وأحس نفسه طائرًا في السماء، يركب مع الرجل العجوز عكازه طائرَينِ بين السحاب، كان يُطيل النظر في وجهه، كلما سنحت له الفرصة، فيرى فيه شيئًا من ملامحه، لكن العجوز فطِن إلى نظرات موسى فقال: "لم يعجبك وجهي المتجعِّدَ، أعرف أنك ترى فيه قبح صورة، غير أني أجدك كهلًا أقبح مني"، تعالت ضحكات العجوز وقال موسى: "وهل هناك أقبح من وجهك يا جاحظ؟"، استدار العجوز مُغضبًا، ولوَّح بكفٍّ مرتعشة إلى موسى، فأخذت العُكَّازة تتأرجح بهما، فسقط الكتاب من بين يدي العجوز، وفقدا توازنهما وهَوَيَا من السماء، استفاق موسى فَزِعًا، وقد سقط الجزء الأول من "البيان والتبيين" من مكتبه بعدما حرك يده على حين غرَّةٍ، كانت رائحة السمك تفوح من سردين مقليٍّ تناوله فوق مكتبه الصغير، فقد لعِب به الكَرَى بعد طول تعبٍ وجُهدٍ في عمله هذا اليوم.
حمل "بيانه" ووضعه بهدوء فوق المكتب باحثًا عن رَقْمِ الصفحة التي كان منهمكًا في قراءتها، وهو يسترجع ملامح العجوز ورحلته معه في السماء.
كان موسى رجلًا في الخمسين من عمره، قويَّ البِنْيَةِ، قصيرَ القامة، خَشن الملامح، ذميم الوجه، لا شيء في قسماته ينطِق بحُسْنٍ، لكن صدره كان رحبًا للجميع، منشرحَ الخاطر، محبًّا للفُكاهة، التحق بالجامعة ودرس الأدب العربيَّ، لكنه لم يحظَ بوظيفة في بلده، فاشتغل سمَّاكًا في سوق شعبي، يستيقظ كل صباح قبل الفجر بساعة، فهو يعلم أنها ساعة مرغَّب فيها، يتوضأ ويصلي ما شاء من ركعات حتى يؤذَّن لصلاة الفجر، فيُهرع إلى المسجد مع النَّزر القليل من روَّادٍ غالَبوا النومَ والشيطان، فانتصروا في معركتهم اليومية، فلا بردٌ في الشتاء يمنعُهم من إزالة دِثارٍ ناعمٍ دافئ، ولا حرٌّ في الصيف تَثْنِيهم لَفَحاتُه عن شدِّ الْمِئْزَرِ والثبات على الصنيع، يقرأ بضعة أثمان بُعَيدَ الصلاة، ثم يتوجه إلى السوق، يتناول إفطارًا من زبد وشاي وخبز سميد أو ذرة يُطهى على نارٍ بحريق الأعواد، مذاق طيب يختلف عن ذاك الذي اعتاده كثيرون بطهو الغاز، كمذاق غَبَشِ الفجر مُتَنَدِّيًا يمسح على القلب، فيُشرق فيه الإيمان، وتنبعث في شَغافه أرواحٌ تمنحه حَيَواتٍ جديدةً في جسد واحد، فيشعر كأنه أجساد تتناسخ من ذات الجسد، قوة ربانية، وإرادة حازمة، تدفعه إلى القيام بكل شيء.
صفيرُ الشاحنة يعلن عن الوصول، يتقدم السَّمَّاكون من السائق ومساعديه، يُفتح الباب الخلفي، يبدأ إنزال الصناديق، أسماك متنوعة جاد بها البحر لحمًا طريًّا، استرَقَ موسى نظراتٍ إلى الأنواع، وطلب من المساعدين مدَّه بأصناف أربعة، نظر إليه أحد السَّمَّاكين بامتعاض وقال: "من تظن نفسك؟ تأخذ لنفسك أربعة أنواع، وماذا عنا نحن؟" ردَّ موسى بنبرة هادئة: "أنا مجرد سمَّاك بسيط"، قالها وصرف وجهه نحو المساعدين وقال: "هاتِ الصناديق الأربعة، وأضِفْ إليها سمكة التونة الكبيرة"، فقال أحد السَّمَّاكين لموسى: "يا رجل، إذا استأثرت لنفسك بالأنواع الأربعة، فإنك لن تترك للآخرين غير نوع واحد، وأنت تعلم أن الزبائن يحبون أن يبتاعوا من كل صِنفٍ".
فرد موسى: "حسنًا، اصنعوا ما بدا لكم".
السَّمَّاك: "سنقتسم بيننا صناديق السمك بالتساوي؛ حتى تطيبَ نفوسنا".
أحد المساعدين: "عين العقل سي محمود، سيحصل كلٌّ منكم على صندوق ونصف، أما عن سمكة التونة، فستقترعون عليها، ولْيَرْضَ كل واحد بنصيبه، ما رأيك سي المعطي؟".
المعطي وهو ينظر إلى الجماعة قال وهو يومئ برأسه: "قبِلتُ".
وزَّع المساعدان السمك على الرجال الثلاثة بالتساوي، وحان دور الاقتراع، كتب السائق أسماء السماكين على ورقات ثلاثة، وخلط بينها ثم أمر أحد المساعدين باختيار واحدة، فتحها، نظر في الورقة مليًّا، تطلَّعت إليه النظرات المتشوقة لمعرفة الاسم، أمره السائق بقراءة الاسم فقال المساعد: ما هذا الاسم الغريب المكتوب سي محمد؟ فرد السائق: ماذا هناك؟ نظر نظرةً مُمْعِنة فصمت قليلًا، والذهول يلُفُّه فقرأ بتلعثم: الجاحظ، فقفز موسى من مكانه كشابٍّ في العشرين، وكاد يطير في الهواء، وقال: "إنه أنا، إنه أنا، صاحب السمكة، صاحِ".
قاطعه المعطي وقال بنبرة حادة: "لا بد أنك جُننتَ، هذا اسم غريب، ومتى كان اسمك جاحظًا؟"، وأردف السَّمَّاك محمود: "هذا ليس اسمًا، قد يكون إشارة إلى شيء غير آدمي أو ...".
السائق ذاهلًا: "أنا لم أكتب هذا الاسم ... أخذت الأسئلة تدور في خَلَدِهِ، وقال في نفسه: ربما كانت الورقة قديمة، أو كُتبت سهوًا أو ...".
التمس منه المساعد أن يُعيد الكَرَّةَ بنفسه، ويكتب الأسماء الثلاثة من جديد في ورقة أخرى، هذه المرة سيلتمس من أحد الروَّاد اختيار ورقة من الورقات، شيخ هرِم ذميمِ الخِلقة، تقوَّس ظهره يحمل في يده كتابًا قديمًا، يختار ورقة من الثلاث، وقال: ستكون حاملة لنفس الاسم، ضحِك بملء فمٍ أدْرَد لم تَبْقَ فيه غير شفتين مُتَيَبِّسَتَين، وانصرف وهو يلوِّح لهم بعُكَّازةٍ في يده اليمنى، المساعدان والسائق يتتبعان الشيخ بنظرات ذاهلة، اليد تُمسك الورقة، تفتحها بحذر كأنها ستُنبئ عن خطر، المساعد يُحَمْلِقُ في الحروف نفسها فقال: "لقد صدق العجوز، الجاحظ".
قفز موسى فرحًا من جديد، وأحس نفسه طائرًا في السماء، يركب مع الرجل العجوز عكازه طائرَينِ بين السحاب، كان يُطيل النظر في وجهه، كلما سنحت له الفرصة، فيرى فيه شيئًا من ملامحه، لكن العجوز فطِن إلى نظرات موسى فقال: "لم يعجبك وجهي المتجعِّدَ، أعرف أنك ترى فيه قبح صورة، غير أني أجدك كهلًا أقبح مني"، تعالت ضحكات العجوز وقال موسى: "وهل هناك أقبح من وجهك يا جاحظ؟"، استدار العجوز مُغضبًا، ولوَّح بكفٍّ مرتعشة إلى موسى، فأخذت العُكَّازة تتأرجح بهما، فسقط الكتاب من بين يدي العجوز، وفقدا توازنهما وهَوَيَا من السماء، استفاق موسى فَزِعًا، وقد سقط الجزء الأول من "البيان والتبيين" من مكتبه بعدما حرك يده على حين غرَّةٍ، كانت رائحة السمك تفوح من سردين مقليٍّ تناوله فوق مكتبه الصغير، فقد لعِب به الكَرَى بعد طول تعبٍ وجُهدٍ في عمله هذا اليوم.
حمل "بيانه" ووضعه بهدوء فوق المكتب باحثًا عن رَقْمِ الصفحة التي كان منهمكًا في قراءتها، وهو يسترجع ملامح العجوز ورحلته معه في السماء.