البرنس مديح آل قطب
12-14-2024, 12:46 PM
https://www.raed.net/img?id=389576
https://www.raed.net/img?id=1021981
https://www.raed.net/img?id=1021981
https://www.raed.net/img?id=1021981
مواعظ الشتاء 1
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأوَّلين والآخرين وقيُّوم السماوات والأرَضين، أرسل رسله حجةً على العالمين ليحيى من حَيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، ترك أمته على المحَجَّة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات ربي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما غفل عن ذكره الغافلون، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستَنَّ بسُنَّته إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله، اتقوا الله وأطيعوه، وابتدروا أمره ولا تعصوه، واعلموا أن خير دنياكم وأخراكم بتقوى الله تبارك وتعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3] ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
المؤمن البصير له في كل لحظة من حياته عبرة، وفي كل خطرة وفكرة تذكرة، والله جل جلاله له الآيات العظيمة، ومنها أن جعل الليل والنهار خلفةً، قال تعالى داعيًا عباده لمعرفة فضله ومِنَّتِه، ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [القصص: 71، 72]، وفي تعاقب الصيف والشتاء فضل من الله ومِنَّة، والله جعل من أوصاف أولي الألباب من عباده التفكُّر في آلائه ونعمه ومخلوقاته، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191].
ومن حكمة الله الباهرة وقدرته الظاهرة، تعاقب الليالي والأيام، وتوالي السنين والأعوام، فيعقب الليل النهار، فتتنوَّع الظواهر الكونية وتتغيَّر الفصول السنوية، وتختلف الأحوال الجوية، حتى تكون عظة وعبرة لأولي الأبصار من عبادة، قال تعالى: ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44]، قال الإمام البيضاوي في تفسيره: يقلب الليل والنهار؛ أي: بالمعاقبة بينهما، أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور، أو بما يعم ذلك، إن في ذلك لدلالة على وجود الخالق المدبِّر وكمال قوته وقدرته، وإحاطة علمه ونفاذ مشيئته.
عباد الله، أمرنا الله بالتفكُّر في جميع الأشياء واستجابة لأمر الله، نتأمل في فصل الشتاء ونقول: لدخول فصل الشتاء والبرد فوائد، قال ابن القيم رحمه الله: "في الشتاء تغور الحرارة في الأجواف، وبطون الأرض والجبال، فتتولَّد مواد الثمار وغيرها، وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء، فيحصل السحاب والمطر والثلج والبرد الذي به حياة الأرض وأهلها، واشتداد أبدان الحيوان وقوتها فتتهيَّأ الأرض للإنبات في فصل الربيع، ويتحرك الحيوان للتناسُل، ولكل فصل ما يميِّزه، فسبحان من قال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62]، ومن اللطائف: أن الشيء يهرب من ضده، فالحر يهرب من البرد، والبرد يهرب من الحر؛ ولذا يسخن جوف الإنسان في الشتاء، ويبرد في الصيف، والضد يهرب من الضد، فإذا علم هذا فالطاعة والمعصية أضداد، فلا طريق للتخَلُّص من رِقِّ المعصية إلا بضدِّها وهي الطاعة، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114].
ومن مواعظ الشتاء:
إنه مُذكِّر بزمهرير جهنم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "اشتكت النار إلى ربِّها، فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفَسَين: نفَس في الشتاء، ونفَس في الصيف، فهو أشدُّ ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير"؛ رواه البخاري.
تأمل- يا رعاك الله- النار أكل بعضها بعضًا، فكيف بمن دخلها وعذب بها، فيا رب رحماك رحماك! قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]؛ ولذا لزم العاقل الفرار من النار والبعد كل البعد عن الأسباب الموجبة لدخولها، فإذا زلَّ العبد، وأخطأ وأسرف على نفسه فعليه المسارعة لمحو الذنوب بالاستغفار والاعتذار من الربِّ الجبار؛ لأنه لا خسران أعظم من دخول جهنم، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15]، فسبحان من عرف عباده بعظيم عقوبته إنذارًا لهم، وحجةً عليهم، فاللهم أعِنَّا على فعل موجبات رحمتك، وأبعدنا عن موجبات سخطك.
ومن مواعظ الشتاء:
أنه يُذكِّر بنعم الله العظيمة علينا في هذه الأزمان، بما مَنَّ به علينا من وسائل التدفئة المختلفة، والألبسة المتنوعة، قال تعالى: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [النحل: 5]؛ ولذا كان لزامًا على العبد المؤمن شكر نعمة ربِّه باللسان والجنان والجوارح، ومن شكر نِعَم الله تفَقُّد الفقراء والمعوزين، وأن تنعم عليهم بما أنعم الله عليك فتتعاهدهم، وتسأل عنهم، وتكسوهم بما يحتاجون إليه، وتمدهم بوسائل التدفئة ليسلموا، والراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، فكم يعاني الفقير وقت الشتاء، فعن الأصمعي قال: كانت العرب تسمي الشتاء الفاضح؛ لأنه والله أعلم يفضح الفقير، فلا صبر له عليه بخلاف الحر فيصبر عليه.
ويذكر عن عمر رضي الله عنه أنه كان يتعاهد رعيته إذا حضر الشتاء، ويكتب لهم قائلًا: إنه الشتاء قد حضر، هو عدوٌّ فتأهَّبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا فإن البرد عدوٌّ سريع دخوله بعيد خروجه.
ومن مواعظ الشتاء:
أنه مُذكِّر بعظيم عفو الله، ولطفه، ويُسْر الشريعة؛ وذلك أن شدة البرد تؤذي الناس وقد تهلكهم، فإن الله قد خفَّف عنهم في كثير من الأحكام الشرعية لأجل ذلك، فأباح الله لهم التيمُّم في شدة البرد إن خاف باستعماله أو طلبه ضرر بدنه، ويدل على ذلك حديث عمرو بن العاص، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أنْ أهلك فتيمَّمْتُ ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ياعمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب"، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئًا، وليس المراد المشقة فلا بد من وجودها في الوضوء في البرد؛ ولكن الخوف من استعمال الماء البارد وضرره هو المبيح للتيَمُّم.
ومن تخفيف الله تعالى للناس أن شرع لهم المسح على الخُفَّيْن بدل غسل الرِّجْلين، ومدته يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، تكون بدايتها مع بداية المسح الذي سبقه حدث، ويكون المسح على طاهر مباح ساتر للمفروض، يثبت بنفسه من خفّ وجورب. وهنا لا بد من التنبيه على أمر مهم لا بد أن يكون الجورب ساترًا للكعبين، وذلك لوجود جوارب لا تستر الكعبين انتشرت في أسواقنا، فلا يصح المسح عليها، فتَنَبَّهوا ونَبِّهوا أهلكم في بيوتكم، فالأمر يترتَّب عليه صحة الصلاة وبطلانها.
ومن لطف الله ويسر شريعته أن أباح الله الجمع بين الصلاتين للمطر، وكذا الصلاة في الرحال إذا كان البرد شديدًا ومصحوبًا بأمطار أو ريح تضر الناس وتؤذيهم، فقد "كان ابن عمر يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول: ألا صلوا في الرحال"؛ واللفظ لمسلم.
ومن مواعظ الشتاء:
أنه مُذكِّر بكرم الله وسعة رحمته، وذلك أنه يُعظِّم لهم المثوبة على تحَمُّل المكاره في طاعته، فمن أسباب محو الخطايا ورفع الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره، ومعلوم أن إسباغ الوضوء في شدة البرد وكثرة الملابس على المتوضئ من يكرهه ويشق عليه؛ ولكن يفعله قربة لله، فاستحق ما رتَّب عليه من أجر عظيم.
وليحذر المسلم من التقصير في إسباغ الوضوء وترك غسل أجزاء من بعض الأعضاء؛ كالوجه والكعبين ولا سيما المرفقين مع كثرة اللباس.
ومن مواعظ الشتاء:
إنه فرصة للتقرُّب لرَبِّ العالمين، فهو ربيع المؤمن، ليله طويل للقائم، ونهاره قصير للصائم، ولقد بوَّب الإمام الترمذي في كتابه باب: ما جاء في الصوم في الشتاء، ثم ذكر بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء"، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول مُرَحِّبًا بالشتاء: تتنَزَّل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام.
عباد الله، فكم وعظنا الشتاء! فهل من معتبر؟! فهو مُذكِّر بقدرة الله وحكمته، ومُذكِّر بالمعاد يوم القيامة، ومُذكِّر بكرم الله وسعة رحمته وعظيم إنعامه، ومُذكِّر بعفو الله ولطفه ويُسْر شريعته، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 27، 28]
https://up6.cc/2023/10/169857152674393.jpg
https://www.raed.net/img?id=1137751
https://www.raed.net/img?id=389576
https://www.raed.net/img?id=1021981
https://www.raed.net/img?id=1021981
https://www.raed.net/img?id=1021981
مواعظ الشتاء 1
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأوَّلين والآخرين وقيُّوم السماوات والأرَضين، أرسل رسله حجةً على العالمين ليحيى من حَيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله البشير النذير، والسراج المنير، ترك أمته على المحَجَّة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات ربي وسلامه عليه ما تعاقب الليل والنهار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلوات ربي وسلامه عليه ما غفل عن ذكره الغافلون، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستَنَّ بسُنَّته إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله، اتقوا الله وأطيعوه، وابتدروا أمره ولا تعصوه، واعلموا أن خير دنياكم وأخراكم بتقوى الله تبارك وتعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3] ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ [الأنفال: 29] ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
المؤمن البصير له في كل لحظة من حياته عبرة، وفي كل خطرة وفكرة تذكرة، والله جل جلاله له الآيات العظيمة، ومنها أن جعل الليل والنهار خلفةً، قال تعالى داعيًا عباده لمعرفة فضله ومِنَّتِه، ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [القصص: 71، 72]، وفي تعاقب الصيف والشتاء فضل من الله ومِنَّة، والله جعل من أوصاف أولي الألباب من عباده التفكُّر في آلائه ونعمه ومخلوقاته، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191].
ومن حكمة الله الباهرة وقدرته الظاهرة، تعاقب الليالي والأيام، وتوالي السنين والأعوام، فيعقب الليل النهار، فتتنوَّع الظواهر الكونية وتتغيَّر الفصول السنوية، وتختلف الأحوال الجوية، حتى تكون عظة وعبرة لأولي الأبصار من عبادة، قال تعالى: ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44]، قال الإمام البيضاوي في تفسيره: يقلب الليل والنهار؛ أي: بالمعاقبة بينهما، أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغير أحوالهما بالحر والبرد والظلمة والنور، أو بما يعم ذلك، إن في ذلك لدلالة على وجود الخالق المدبِّر وكمال قوته وقدرته، وإحاطة علمه ونفاذ مشيئته.
عباد الله، أمرنا الله بالتفكُّر في جميع الأشياء واستجابة لأمر الله، نتأمل في فصل الشتاء ونقول: لدخول فصل الشتاء والبرد فوائد، قال ابن القيم رحمه الله: "في الشتاء تغور الحرارة في الأجواف، وبطون الأرض والجبال، فتتولَّد مواد الثمار وغيرها، وتبرد الظواهر ويستكثف فيه الهواء، فيحصل السحاب والمطر والثلج والبرد الذي به حياة الأرض وأهلها، واشتداد أبدان الحيوان وقوتها فتتهيَّأ الأرض للإنبات في فصل الربيع، ويتحرك الحيوان للتناسُل، ولكل فصل ما يميِّزه، فسبحان من قال: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62]، ومن اللطائف: أن الشيء يهرب من ضده، فالحر يهرب من البرد، والبرد يهرب من الحر؛ ولذا يسخن جوف الإنسان في الشتاء، ويبرد في الصيف، والضد يهرب من الضد، فإذا علم هذا فالطاعة والمعصية أضداد، فلا طريق للتخَلُّص من رِقِّ المعصية إلا بضدِّها وهي الطاعة، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ [هود: 114].
ومن مواعظ الشتاء:
إنه مُذكِّر بزمهرير جهنم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "اشتكت النار إلى ربِّها، فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفَسَين: نفَس في الشتاء، ونفَس في الصيف، فهو أشدُّ ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير"؛ رواه البخاري.
تأمل- يا رعاك الله- النار أكل بعضها بعضًا، فكيف بمن دخلها وعذب بها، فيا رب رحماك رحماك! قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]؛ ولذا لزم العاقل الفرار من النار والبعد كل البعد عن الأسباب الموجبة لدخولها، فإذا زلَّ العبد، وأخطأ وأسرف على نفسه فعليه المسارعة لمحو الذنوب بالاستغفار والاعتذار من الربِّ الجبار؛ لأنه لا خسران أعظم من دخول جهنم، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15]، فسبحان من عرف عباده بعظيم عقوبته إنذارًا لهم، وحجةً عليهم، فاللهم أعِنَّا على فعل موجبات رحمتك، وأبعدنا عن موجبات سخطك.
ومن مواعظ الشتاء:
أنه يُذكِّر بنعم الله العظيمة علينا في هذه الأزمان، بما مَنَّ به علينا من وسائل التدفئة المختلفة، والألبسة المتنوعة، قال تعالى: ﴿ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [النحل: 5]؛ ولذا كان لزامًا على العبد المؤمن شكر نعمة ربِّه باللسان والجنان والجوارح، ومن شكر نِعَم الله تفَقُّد الفقراء والمعوزين، وأن تنعم عليهم بما أنعم الله عليك فتتعاهدهم، وتسأل عنهم، وتكسوهم بما يحتاجون إليه، وتمدهم بوسائل التدفئة ليسلموا، والراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، فكم يعاني الفقير وقت الشتاء، فعن الأصمعي قال: كانت العرب تسمي الشتاء الفاضح؛ لأنه والله أعلم يفضح الفقير، فلا صبر له عليه بخلاف الحر فيصبر عليه.
ويذكر عن عمر رضي الله عنه أنه كان يتعاهد رعيته إذا حضر الشتاء، ويكتب لهم قائلًا: إنه الشتاء قد حضر، هو عدوٌّ فتأهَّبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا ودثارًا فإن البرد عدوٌّ سريع دخوله بعيد خروجه.
ومن مواعظ الشتاء:
أنه مُذكِّر بعظيم عفو الله، ولطفه، ويُسْر الشريعة؛ وذلك أن شدة البرد تؤذي الناس وقد تهلكهم، فإن الله قد خفَّف عنهم في كثير من الأحكام الشرعية لأجل ذلك، فأباح الله لهم التيمُّم في شدة البرد إن خاف باستعماله أو طلبه ضرر بدنه، ويدل على ذلك حديث عمرو بن العاص، قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أنْ أهلك فتيمَّمْتُ ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ياعمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب"، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئًا، وليس المراد المشقة فلا بد من وجودها في الوضوء في البرد؛ ولكن الخوف من استعمال الماء البارد وضرره هو المبيح للتيَمُّم.
ومن تخفيف الله تعالى للناس أن شرع لهم المسح على الخُفَّيْن بدل غسل الرِّجْلين، ومدته يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، تكون بدايتها مع بداية المسح الذي سبقه حدث، ويكون المسح على طاهر مباح ساتر للمفروض، يثبت بنفسه من خفّ وجورب. وهنا لا بد من التنبيه على أمر مهم لا بد أن يكون الجورب ساترًا للكعبين، وذلك لوجود جوارب لا تستر الكعبين انتشرت في أسواقنا، فلا يصح المسح عليها، فتَنَبَّهوا ونَبِّهوا أهلكم في بيوتكم، فالأمر يترتَّب عليه صحة الصلاة وبطلانها.
ومن لطف الله ويسر شريعته أن أباح الله الجمع بين الصلاتين للمطر، وكذا الصلاة في الرحال إذا كان البرد شديدًا ومصحوبًا بأمطار أو ريح تضر الناس وتؤذيهم، فقد "كان ابن عمر يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤذن إذا كانت ليلة باردة ذات مطر يقول: ألا صلوا في الرحال"؛ واللفظ لمسلم.
ومن مواعظ الشتاء:
أنه مُذكِّر بكرم الله وسعة رحمته، وذلك أنه يُعظِّم لهم المثوبة على تحَمُّل المكاره في طاعته، فمن أسباب محو الخطايا ورفع الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره، ومعلوم أن إسباغ الوضوء في شدة البرد وكثرة الملابس على المتوضئ من يكرهه ويشق عليه؛ ولكن يفعله قربة لله، فاستحق ما رتَّب عليه من أجر عظيم.
وليحذر المسلم من التقصير في إسباغ الوضوء وترك غسل أجزاء من بعض الأعضاء؛ كالوجه والكعبين ولا سيما المرفقين مع كثرة اللباس.
ومن مواعظ الشتاء:
إنه فرصة للتقرُّب لرَبِّ العالمين، فهو ربيع المؤمن، ليله طويل للقائم، ونهاره قصير للصائم، ولقد بوَّب الإمام الترمذي في كتابه باب: ما جاء في الصوم في الشتاء، ثم ذكر بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغنيمة الباردة الصوم في الشتاء"، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول مُرَحِّبًا بالشتاء: تتنَزَّل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام.
عباد الله، فكم وعظنا الشتاء! فهل من معتبر؟! فهو مُذكِّر بقدرة الله وحكمته، ومُذكِّر بالمعاد يوم القيامة، ومُذكِّر بكرم الله وسعة رحمته وعظيم إنعامه، ومُذكِّر بعفو الله ولطفه ويُسْر شريعته، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 27، 28]
https://up6.cc/2023/10/169857152674393.jpg
https://www.raed.net/img?id=1137751