زمردة ❥
11-26-2024, 11:42 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
{وَيُعَلِّمُهُ} قرأ نافع، وعاصم: {ويعلمه} بالتحتية، أي: يعلمه الله. وقرأه الباقون بنون العظمة: {ونعلمه}، على الالتفات.
{الْكِتَابَ} الخط والكتابة، وفيه شرف الكتابة وفضلها.
{وَالْحِكْمَةَ} وأحسن ما قيل في الحكمة: قول مجاهد ومالك: إنها معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل.
والحكمة حكمتان: علمية وعملية.. فالعلمية: الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقا وأمرا، قدرا وشرعا، والعملية: كما قال صاحب المنازل: وهي وضع الشيء في موضعه.
{وَالتَّوْرَاةَ} كتبها الله تعالى كتابة بيده، قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف:145]
ولهذا قال أهل العلم من علماء السلف: إن الله تعالى غرس جنة عدن بیده، وخلق آدم بیده، وكتب التوراة بيده سبحانه وتعالى، ونزلت ألواحاً على موسى وفيها ما تقتضيه
المصلحة، والحاجة والضرورة في ذلك الوقت.
{وَالْإِنْجِيلَ} روي أن عيسى كان يستظهر التوراة والإنجيل، ويقال لم يحفظها عن ظهر قلب غير: موسى، ويوشع، وعزير، وعيسى.
وذَكر الإنجيل لمريم وهو لم ينزل بعد لأنه كان كتاباً مذكوراً عند الأنبياء والعلماء، وأنه سينزل.
{وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} قائلا لهم {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} أرسلت إليكم من جانب الله، ونظيره قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} [الزخرف:63]
{بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فيه الإشارة إلى وجوب قبول رسالته لأنها من الله تعالى.
{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ} أصور لكم، لا الخلق الذي هو الإِنشاء والاختراع إذ ذاك لله تعالى.
{مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} الهيئة: الصورة والكيفية أي أصور من الطين صورة كصور الطير.
{فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} هذا من أجل تحقيق التوحيد، بإظهار العبودية، ونفي توهم المشاركة في خلق الكائنات.
وفي قراءة سبعية: {فيكون طائراً بإذن الله}، والقراءتان لكل واحدة منهما معنى يكمل الأخرى، فقوله: {فيكون طيراً} أي طيراً حيا بعد أن كان على صورة الطير وليس فيه روح، وقوله: {فيكون طائراً} أي: يطير، تشاهدونه يطير بالفعل، فعندنا ثلاث مراتب: تصوير على هيئة الطير، وطير فيه روح على قراءة {فيكون طيراً}، وطير يطير بالفعل على قراءة {فيكون طائراً} بإذن الله.
** وفيه أن ما فعل بأمر الله فهو حلال مباح وإن كان نظيره بدون أمر حراماً، فلو أن أحداً أراد أن يصنع تمثالاً من الطين على هيئة الطير لكان ذلك حراما، لكن لما كان هذا بأمر من الله كان هذا حلالاً، ولهذا نظائر: السجود لغير الله شرك والسجود لغير الله بأمر الله طاعة، ولهذا سجد الملائكة لآدم فكانوا طائعين، واستكبر عن ذلك إبليس فكان من الكافرين.. قتل النفس المحرمة ولاسيما ذو الرحم من كبائر الذنوب، وإذا كان بأمر الله كان مما يقرب إلى الله، فإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أُمر بذبح ابنه إسماعيل فامتثل، وكان امتثاله لذلك طاعة الله عز وجل.. هكذا خلق عيسى كهيئة الطير لينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، هذا من الأمور التي أبيحت له بأمر الله عز وجل.
{وَأُبْرِئُ} أشفي، والبرءُ في الأصل من البراءة، والبراءة من الشيء السلامة منه.
{الْأَكْمَهَ} هو الذي يولد أعمى، وقيل: من ولد بلا عين، وهذا أبلغ في القدرة.
{وَالْأَبْرَصَ} داء جلدي عبارة عن بقع بيضاء شديدة البياض تظهر على الجلد، فإن كانت غائرة في الجلد فهو البرص، وإن كانت مساوية لسطح الجلد فهو البهق، ثم تنتشر على الجلد فربما عمت الجلد كله حتى يصير أبيض، وربما بقيت متميزة عن لون الجلد. وأسبابه مجهولة، ويأتي بالوراثة أحيانا، وهو غير معد.
والعرب والعبرانيون واليونان يطلقون البرص على مرض آخر هو من مبادئ الجذام، فكانوا يتشاءمون بالبرص إذا بدت أعراضه على واحد منهم.
فإما العرب فكان ملوكهم لا يكلمون الأبرص إلا من وراء حجاب، كما وقع في قصة الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ الشاعر مع الملك عمرو بن هند [وحِلِّزة اشتقاقُه من الضِّيق. رجلٌ حِلِّزٌ ، إذا كانَ بخيلاً].
وأما العبرانيون فهم أشد في ذلك. وقد اهتمت التوراة بأحكام الأبرص، وأطالت في بيانها، وكررته مرارا، ويظهر منها أنه مرض ينزل في الهواء ويلتصق بجدران المنازل، وقد وصفه الوحي لموسى ليعلمه الكهنة من بني إسرائيل ويعلمهم طريقة علاجه، ومن أحكامهم أن المصاب يعزل عن القوم ويجعل في محل خاص، وأحكامه مفصلة في سفر اللاويين. ولهذا كان إعجاز المسيح بإبراء الأبرص أهم المعجزات فائدة عندهم دينا ودنيا.
وقد ذكر فقهاء الإسلام البرص في عيوب الزوجين الموجبة للخيار وفصلوا بين أنواعه التي توجب الخيار والتي لا توجبه ولم يضبطوا أوصافه واقتصروا على تحديد أجل برئه.
{وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} ولا شك أنها آية عظيمة -وهي إحياء الموتى-، وهذا من آيات الله، وفي الآية الأخرى: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي} [المائدة:١١٠]، ففي الآيتين إحياء الموتى وإن كانوا على ظهر الأرض، وإحياء الموتى وإن كانوا في القبور وإخراجهم منها أحياء، يعني إذا ضممت هذه إلى هذه استفدت فائدتين أنه يحيي الموتى وهم على ظهر الأرض، ويحييهم وهم في بطن الأرض فيخرجون.
وإحياء الموتى معجزة للمسيح، كنفخ الروح في الطير المصور من الطين، فكان إذا أحيا ميتا كلمه ثم رجع ميتا، وورد في الأناجيل أنه أحيا بنتا كانت ماتت فأحياها عقب موتها. ووقع في إنجيل متى في الإصحاح 17 أن عيسى صعد الجبل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا أخوه وأظهر لهم موسى وإيلياء يتكلمان معهم، وكل ذلك بإذن الله له أن يفعل ذلك.
ولقد بُعث عيسى في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه، إلا أن يكون مؤيدًا من الذي شرع الشريعة. فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه، والأبرص، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد.
{وَأُنَبِّئُكُمْ} أخبركم {بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} وفيه أن الغيب لله، ويعلم أنبياءه منه ما يشاء، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن:26-27]
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} إن في ذلك كله {لَآيَةً لَكُمْ} على صدْقي فيما جئتكم به.
** وفيه أنه ينبغي التكرار في المقام الهام؛ لقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ}، مع أنه قال في أول الآية: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، وذلك لأن الأمور الهامة ينبغي تكرارها أولاً من أجل أن يتبين للمخاطب أهميتها عند المتكلم وأنه ذو عناية بها، والثاني من أجل أن ترسخ في الذهن؛ لأنه كلما تكرر الشيء ازداد رسوخاً .
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم تريدون الإيمان، بخلاف ما إذا كان دأبكم المكابرة.
يعني أنها آية بهذا القيد، وأما غير المؤمن فإنه لا ينتفع بالآيات، ولا تكون الآية له آية، قال تعالى: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] بل إن غير المؤمن يرى أن هذه الآيات العظيمة أساطير الأولين، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المطففين:13] وذلك بسبب ما كان على قلبه من ظلمات المعاصي، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]
والإيمان هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان، وليس مجرد التصديق، ودليل ذلك أنه لا يتعدى بما يتعدى به التصديق، فإنه لا يقال: «آمنته»، ويقال: «صدقته». بل إنه يتضمن الإقرار والاعتراف والانقياد والتسليم، ومن صدق ولم يقبل ولم يذعن فليس بمؤمن، فأبو طالب عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان مصدقا برسالته لكنه لم يقبل ولم يذعن فلم يكن مؤمنا، فالإيمان معنى زائد على التصديق وليس هو مجرد التصديق.
وتعرض القرآن لذكر هذه المعجزات تعريض بالنصارى الذي جعلوا منها دليلا على ألوهية عيسى، بعلة أن هذه الأعمال لا تدخل تحت مقدرة البشر، فمن قدر عليها فهو الإله، وهذا دليل سفسطائي أشار الله تعالى إلى كشفه بقوله: {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} مرتين. وقد روى أهل السير أن نصارى نجران استدلوا بهذه الأعمال لدى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
{وَمُصَدِّقًا} المصدق: المخبر بصدق غيره.
{لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} ما تقدم قبلي، لأن المتقدم السابق يمشي بين يدي الجائي، وإن كان بينه وبين نزول التوراة أزمنة طويلة، لأنها لما اتصل العمل بها إلى مجيئه، فكأنها لم تسبقه بزمن طويل.
ويطلق «ما بين اليدين» على ما سيأتي أيضا، أي ما يستقبل، فإن قرن بالخلف فهو للمستقبل، وإلا فإنه صالح للمستقبل والماضي، ففي قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:٢٥٥] المراد هنا المستقبل لقوله مقترنا: {وَمَا خَلْفَهُمْ}.
{مِنَ التَّوْرَاةِ} هي الكتاب الذي أنزله الله على موسى -عليه الصلاة والسلام-، وهي أصل الكتب المنزلة على بني إسرائيل وأعظمها، بل هي أعظم الكتب فيما نعلم بعد القرآن.
وانحصرت شريعة عيسى في إحياء أحكام التوراة وما تركوه فيها وهو في هذا كغيره من أنبياء بني إسرائيل، وأيضا في تحليل بعض ما حرمه الله عليهم رعيا لحالهم في أزمنة مختلفة، وبهذا كان رسولا.
{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ} ولم يقل: «كل» {الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} والمحرم عليهم ذكره الله في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً} [النساء:160] وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146]
فلما حرمت عليهم هذه الطيبات لظلمهم وعدوانهم، وبعث الله عيسى أحل لهم بعض ما حرم عليهم، ولم يُذكر في القرآن بيان هذا البعض فيكون باقياً على إطلاقه، ولو كان لنا مصلحة في تعيين ذلك لبينه الله. وقيل: أنه محللاً أشياء مما حرم فيها: كالشحوم، ولحوم الإبل، وبعض من الحيتان [الأسماك] والطير.
وما قيل أنه حرم عليهم الطلاق فهو تقول عليه، بل حذرهم منه وبين لهم سوء عواقبه، وحرم تزوج المرأة المطلقة.
وينضم إلى ذلك ما لا تخلو عنه دعوة: من تذكير، ومواعظ، وترغيبات.
** وفيه دلالة على أن عيسى -عليه السلام- نسَخ بعض شريعة التوراة، وهو الصحيح من القولين. فالإنجيل كالمتمم للتوراة؛ لأنه في الحقيقة نزل على بني إسرائيل الذين أنزلت عليهم التوراة؛ ومن المعلوم أن حال بني إسرائيل تغیرت من وقت موسى إلى عيسى، فكان في الإنجيل أشياء فيها تعديل أو زيادة، فهو متمم للتوراة.
ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئًا، وإنما أحَلّ لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطئوا، فكشف لهم عن المغطى في ذلك، كما قال في الآية الأخرى: {وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف:63] والله أعلم.
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
{وَيُعَلِّمُهُ} قرأ نافع، وعاصم: {ويعلمه} بالتحتية، أي: يعلمه الله. وقرأه الباقون بنون العظمة: {ونعلمه}، على الالتفات.
{الْكِتَابَ} الخط والكتابة، وفيه شرف الكتابة وفضلها.
{وَالْحِكْمَةَ} وأحسن ما قيل في الحكمة: قول مجاهد ومالك: إنها معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل.
والحكمة حكمتان: علمية وعملية.. فالعلمية: الاطلاع على بواطن الأشياء ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها خلقا وأمرا، قدرا وشرعا، والعملية: كما قال صاحب المنازل: وهي وضع الشيء في موضعه.
{وَالتَّوْرَاةَ} كتبها الله تعالى كتابة بيده، قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف:145]
ولهذا قال أهل العلم من علماء السلف: إن الله تعالى غرس جنة عدن بیده، وخلق آدم بیده، وكتب التوراة بيده سبحانه وتعالى، ونزلت ألواحاً على موسى وفيها ما تقتضيه
المصلحة، والحاجة والضرورة في ذلك الوقت.
{وَالْإِنْجِيلَ} روي أن عيسى كان يستظهر التوراة والإنجيل، ويقال لم يحفظها عن ظهر قلب غير: موسى، ويوشع، وعزير، وعيسى.
وذَكر الإنجيل لمريم وهو لم ينزل بعد لأنه كان كتاباً مذكوراً عند الأنبياء والعلماء، وأنه سينزل.
{وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} قائلا لهم {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} أرسلت إليكم من جانب الله، ونظيره قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} [الزخرف:63]
{بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فيه الإشارة إلى وجوب قبول رسالته لأنها من الله تعالى.
{أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ} أصور لكم، لا الخلق الذي هو الإِنشاء والاختراع إذ ذاك لله تعالى.
{مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} الهيئة: الصورة والكيفية أي أصور من الطين صورة كصور الطير.
{فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} هذا من أجل تحقيق التوحيد، بإظهار العبودية، ونفي توهم المشاركة في خلق الكائنات.
وفي قراءة سبعية: {فيكون طائراً بإذن الله}، والقراءتان لكل واحدة منهما معنى يكمل الأخرى، فقوله: {فيكون طيراً} أي طيراً حيا بعد أن كان على صورة الطير وليس فيه روح، وقوله: {فيكون طائراً} أي: يطير، تشاهدونه يطير بالفعل، فعندنا ثلاث مراتب: تصوير على هيئة الطير، وطير فيه روح على قراءة {فيكون طيراً}، وطير يطير بالفعل على قراءة {فيكون طائراً} بإذن الله.
** وفيه أن ما فعل بأمر الله فهو حلال مباح وإن كان نظيره بدون أمر حراماً، فلو أن أحداً أراد أن يصنع تمثالاً من الطين على هيئة الطير لكان ذلك حراما، لكن لما كان هذا بأمر من الله كان هذا حلالاً، ولهذا نظائر: السجود لغير الله شرك والسجود لغير الله بأمر الله طاعة، ولهذا سجد الملائكة لآدم فكانوا طائعين، واستكبر عن ذلك إبليس فكان من الكافرين.. قتل النفس المحرمة ولاسيما ذو الرحم من كبائر الذنوب، وإذا كان بأمر الله كان مما يقرب إلى الله، فإبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أُمر بذبح ابنه إسماعيل فامتثل، وكان امتثاله لذلك طاعة الله عز وجل.. هكذا خلق عيسى كهيئة الطير لينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله، هذا من الأمور التي أبيحت له بأمر الله عز وجل.
{وَأُبْرِئُ} أشفي، والبرءُ في الأصل من البراءة، والبراءة من الشيء السلامة منه.
{الْأَكْمَهَ} هو الذي يولد أعمى، وقيل: من ولد بلا عين، وهذا أبلغ في القدرة.
{وَالْأَبْرَصَ} داء جلدي عبارة عن بقع بيضاء شديدة البياض تظهر على الجلد، فإن كانت غائرة في الجلد فهو البرص، وإن كانت مساوية لسطح الجلد فهو البهق، ثم تنتشر على الجلد فربما عمت الجلد كله حتى يصير أبيض، وربما بقيت متميزة عن لون الجلد. وأسبابه مجهولة، ويأتي بالوراثة أحيانا، وهو غير معد.
والعرب والعبرانيون واليونان يطلقون البرص على مرض آخر هو من مبادئ الجذام، فكانوا يتشاءمون بالبرص إذا بدت أعراضه على واحد منهم.
فإما العرب فكان ملوكهم لا يكلمون الأبرص إلا من وراء حجاب، كما وقع في قصة الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ الشاعر مع الملك عمرو بن هند [وحِلِّزة اشتقاقُه من الضِّيق. رجلٌ حِلِّزٌ ، إذا كانَ بخيلاً].
وأما العبرانيون فهم أشد في ذلك. وقد اهتمت التوراة بأحكام الأبرص، وأطالت في بيانها، وكررته مرارا، ويظهر منها أنه مرض ينزل في الهواء ويلتصق بجدران المنازل، وقد وصفه الوحي لموسى ليعلمه الكهنة من بني إسرائيل ويعلمهم طريقة علاجه، ومن أحكامهم أن المصاب يعزل عن القوم ويجعل في محل خاص، وأحكامه مفصلة في سفر اللاويين. ولهذا كان إعجاز المسيح بإبراء الأبرص أهم المعجزات فائدة عندهم دينا ودنيا.
وقد ذكر فقهاء الإسلام البرص في عيوب الزوجين الموجبة للخيار وفصلوا بين أنواعه التي توجب الخيار والتي لا توجبه ولم يضبطوا أوصافه واقتصروا على تحديد أجل برئه.
{وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} ولا شك أنها آية عظيمة -وهي إحياء الموتى-، وهذا من آيات الله، وفي الآية الأخرى: {وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي} [المائدة:١١٠]، ففي الآيتين إحياء الموتى وإن كانوا على ظهر الأرض، وإحياء الموتى وإن كانوا في القبور وإخراجهم منها أحياء، يعني إذا ضممت هذه إلى هذه استفدت فائدتين أنه يحيي الموتى وهم على ظهر الأرض، ويحييهم وهم في بطن الأرض فيخرجون.
وإحياء الموتى معجزة للمسيح، كنفخ الروح في الطير المصور من الطين، فكان إذا أحيا ميتا كلمه ثم رجع ميتا، وورد في الأناجيل أنه أحيا بنتا كانت ماتت فأحياها عقب موتها. ووقع في إنجيل متى في الإصحاح 17 أن عيسى صعد الجبل ومعه بطرس ويعقوب ويوحنا أخوه وأظهر لهم موسى وإيلياء يتكلمان معهم، وكل ذلك بإذن الله له أن يفعل ذلك.
ولقد بُعث عيسى في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه، إلا أن يكون مؤيدًا من الذي شرع الشريعة. فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد، أو على مداواة الأكمه، والأبرص، وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد.
{وَأُنَبِّئُكُمْ} أخبركم {بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} وفيه أن الغيب لله، ويعلم أنبياءه منه ما يشاء، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن:26-27]
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} إن في ذلك كله {لَآيَةً لَكُمْ} على صدْقي فيما جئتكم به.
** وفيه أنه ينبغي التكرار في المقام الهام؛ لقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ}، مع أنه قال في أول الآية: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، وذلك لأن الأمور الهامة ينبغي تكرارها أولاً من أجل أن يتبين للمخاطب أهميتها عند المتكلم وأنه ذو عناية بها، والثاني من أجل أن ترسخ في الذهن؛ لأنه كلما تكرر الشيء ازداد رسوخاً .
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم تريدون الإيمان، بخلاف ما إذا كان دأبكم المكابرة.
يعني أنها آية بهذا القيد، وأما غير المؤمن فإنه لا ينتفع بالآيات، ولا تكون الآية له آية، قال تعالى: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] بل إن غير المؤمن يرى أن هذه الآيات العظيمة أساطير الأولين، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المطففين:13] وذلك بسبب ما كان على قلبه من ظلمات المعاصي، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]
والإيمان هو التصديق المستلزم للقبول والإذعان، وليس مجرد التصديق، ودليل ذلك أنه لا يتعدى بما يتعدى به التصديق، فإنه لا يقال: «آمنته»، ويقال: «صدقته». بل إنه يتضمن الإقرار والاعتراف والانقياد والتسليم، ومن صدق ولم يقبل ولم يذعن فليس بمؤمن، فأبو طالب عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان مصدقا برسالته لكنه لم يقبل ولم يذعن فلم يكن مؤمنا، فالإيمان معنى زائد على التصديق وليس هو مجرد التصديق.
وتعرض القرآن لذكر هذه المعجزات تعريض بالنصارى الذي جعلوا منها دليلا على ألوهية عيسى، بعلة أن هذه الأعمال لا تدخل تحت مقدرة البشر، فمن قدر عليها فهو الإله، وهذا دليل سفسطائي أشار الله تعالى إلى كشفه بقوله: {بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} مرتين. وقد روى أهل السير أن نصارى نجران استدلوا بهذه الأعمال لدى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
{وَمُصَدِّقًا} المصدق: المخبر بصدق غيره.
{لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ} ما تقدم قبلي، لأن المتقدم السابق يمشي بين يدي الجائي، وإن كان بينه وبين نزول التوراة أزمنة طويلة، لأنها لما اتصل العمل بها إلى مجيئه، فكأنها لم تسبقه بزمن طويل.
ويطلق «ما بين اليدين» على ما سيأتي أيضا، أي ما يستقبل، فإن قرن بالخلف فهو للمستقبل، وإلا فإنه صالح للمستقبل والماضي، ففي قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:٢٥٥] المراد هنا المستقبل لقوله مقترنا: {وَمَا خَلْفَهُمْ}.
{مِنَ التَّوْرَاةِ} هي الكتاب الذي أنزله الله على موسى -عليه الصلاة والسلام-، وهي أصل الكتب المنزلة على بني إسرائيل وأعظمها، بل هي أعظم الكتب فيما نعلم بعد القرآن.
وانحصرت شريعة عيسى في إحياء أحكام التوراة وما تركوه فيها وهو في هذا كغيره من أنبياء بني إسرائيل، وأيضا في تحليل بعض ما حرمه الله عليهم رعيا لحالهم في أزمنة مختلفة، وبهذا كان رسولا.
{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ} ولم يقل: «كل» {الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} والمحرم عليهم ذكره الله في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيراً} [النساء:160] وقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام:146]
فلما حرمت عليهم هذه الطيبات لظلمهم وعدوانهم، وبعث الله عيسى أحل لهم بعض ما حرم عليهم، ولم يُذكر في القرآن بيان هذا البعض فيكون باقياً على إطلاقه، ولو كان لنا مصلحة في تعيين ذلك لبينه الله. وقيل: أنه محللاً أشياء مما حرم فيها: كالشحوم، ولحوم الإبل، وبعض من الحيتان [الأسماك] والطير.
وما قيل أنه حرم عليهم الطلاق فهو تقول عليه، بل حذرهم منه وبين لهم سوء عواقبه، وحرم تزوج المرأة المطلقة.
وينضم إلى ذلك ما لا تخلو عنه دعوة: من تذكير، ومواعظ، وترغيبات.
** وفيه دلالة على أن عيسى -عليه السلام- نسَخ بعض شريعة التوراة، وهو الصحيح من القولين. فالإنجيل كالمتمم للتوراة؛ لأنه في الحقيقة نزل على بني إسرائيل الذين أنزلت عليهم التوراة؛ ومن المعلوم أن حال بني إسرائيل تغیرت من وقت موسى إلى عيسى، فكان في الإنجيل أشياء فيها تعديل أو زيادة، فهو متمم للتوراة.
ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئًا، وإنما أحَلّ لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطئوا، فكشف لهم عن المغطى في ذلك، كما قال في الآية الأخرى: {وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف:63] والله أعلم.