غـرام الشوق
05-23-2024, 05:21 PM
القُدُّوس جل جلاله، وتقدست أسماؤه
عَنَاصِرُ الموْضُوعِ:
أولًا: المَعْنَى اللُّغَوِيُّ.
ثانيًا: القُدُّوسُ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ.
ثالثًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى.
رابعًا: آثَارُ الإِيمَانِ بِهَذَا الاسْمِ.
خامسًا: التَّقْدِيسُ الحَقُّ لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَكُونُ بِشرْعِهِ.
1- تَقْدِيسُ الله بالتَّوْحِيدِ والإيمَانِ الصَّحِيحِ.
2- تَقْدِيسُ الله بِالقُلُوبِ.
3- تَقْدِيسُ الله بالأَعْمَالِ.
4- تَقْدِيسُ الله بالدُّعَاءِ.
سادسًا: المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ.
1- القُدْسِيَّةُ التَّامَّةُ لله مِنْ جَمِيعِ الوُجُوهِ.
2- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ في قُدْسِيَّتِهِ.
النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ:
قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ:
أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:
1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً»؛ رواه البخاري.
2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ[1].
3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ[2].
4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ.
5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة - عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ - لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً للهِ في بيتِ الله.
6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ [3].
7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ [4].
8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ [5].
9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ [6].
10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ - بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ - إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك.
11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها»، رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766).
ثُمَّ قَدْ يَفْتَحُ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، مُتَّفَقٌ عَلَيه.
ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ:
1- تَنْوِي تَعْرِيفَ المسْلِمينَ بِبَعْضِ مَعَانِي اسْمِ الله (القُدُّوسِ).
2- تَنْوِي تَعْلِيمَ المسْلِمينَ كَيْفَ يُقَدِّسُونَ رَبَّهم بِالقُلُوبِ.
3- تَنْوِي تَعْلِيمَ المسْلِمينَ كَيْفَ يُقَدِّسُونَ رَبَّهم بِالدُّعَاءِ.
4- تَنْوِي التَّنْبِيهَ إلى أَنَّ القُلُوبَ التي تُقَدِّسُ رَبَّها تَسْمُو وتُطَهَّرُ.
5- حَثُّ المسْلِمينَ عَلَى التَّعَلُّقِ بِرَبِّ العَالَمِينَ.
أولًا: المَعْنَى اللُّغَوِي
لَهُ مَعْنَيَانِ في اللُّغَةِ:
الأَوَّلُ: أَنَّ (القُدَّوسَ) فَعُولٌ مِنَ القُدْسِ وهو الطَّهَارَةُ، والقَدَسُ بالتَّحْرِيكِ السَطْل بِلُغَةِ أَهْلِ الحِجَازِ لأَنَّهُ يُتَقَدَّسُ مِنْهُ أَيْ: يُتَطَهَّرُ منه، وَجَاءَ فِي التَّنْزِيلِ ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].
قَالَ الزَّجَّاجُ: «مَعْنَى نُقَدِّسُ لَكَ أَيْ: نُطَهِّرُ أَنْفُسَنَا لَكَ، ولِهَذَا بَيْتُ الَمقْدِسِ أَيْ: البَيْتُ الُمطَهَّرُ أَوِ الَمكَانُ الذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ».
وَقَالَ الفَرَّاءُ: «الأَرْضُ الُمقَدَّسَةُ الطَّاهِرَةُ وَهِيَ دِمَشْقُ وَفِلَسْطِينَ وبَعْضُ الأُرْدُنِ، ورُوحُ القُدُسِ وهو جِبْرِيلُ ؛ مَعْنَاهُ رَوحُ الطَّهَارَةِ أَيْ: خُلِقَ مِنَ الطَّهَارَةِ».
والَمعْنَى الثَّانِي: أَنَّ القُدْسَ البَرَكَةُ، والأَرْضُ الُمقَدَّسَةُ أَيْ: الَمبَارَكَةُ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وإليه ذَهَبَ ابنُ الأَعْرَابِي.
ويُقَوِّيه أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الأَرْضَ الُمقَدَّسَةَ مُبَارَكَةٌ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71]، وَهِيَ الأَرْضُ الُمقَدَّسَةُ.
ثانيًا: وُرُودُ الاسْمِ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ
وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الاسْمُ في القُرْآنِ مَرَّتَينِ:
مَرَّةً فِي سُورَةِ الحَشْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الحشر: 23].
وَمَرَّةً فِي مَطْلَعِ سُورَةِ الجُمُعَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [الجمعة: 1].
ثالثًا: مَعْنَى الاِسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى
قَالَ قَتَادَةُ: «القُدُّوسُ أَيْ: الُمبَارَكُ» [7].
وَعَنِ ابنِ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيِر قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بَحَمْدِكَ: نُنَزِّهُكَ وَنُبَرِّئُكَ مِ-مَّا يُضِيفُهُ إِلَيْكَ أَهْلُ الشِّرْكِ بِكَ وَنُصَلِّي لَكَ، وُنُقَدِّسُ لَكَ: نَنْسِبُكَ إِلَى مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِكِ مِنَ الطَّهَارَةِ مِنَ الأَدْنَاسِ ومَا أَضَافَ إِلَيْكَ أَهْلُ الكُفْرِ بك» اه- [8].
وَقَالَ البَيْهَقِيُّ: «(القُدُّوسُ) هو الطَّاهِرُ مِنَ العُيوبِ، الُمنَزَّهُ عَنَ الأَوْلَادِ والأَنْدَادِ، وهَذِهِ صِفَةٌ يَسْتَحِقُّها بِذَاتِهِ» [9].
وقَالَ الغَزَّالِيُّ: «هو الُمنَزَّهُ عَنْ كُلِّ وَصْفٍ يُدْرِكُهُ حِسٌّ، أَوْ يَتَصَوَّرَهُ خَيَالٌ، أو يَسْبِقُ إليه وَهْمٌ، أَوْ يَخْتَلِجُ به ضَمِيرٌ، أَوْ يَقْضِي بِهِ تَفْكِيرٌ»[10].
وَقَالَ ابنُ كَثِيرٍ في مَعْنَى القُدُّوسِ: «أَيْ الُمنَزَّهُ عَنِ النَّقَائِصِ الَموْصُوفُ بِصِفَاتِ الكَمَالِ»[11].
وبنحوه قَالَ الشَّوْكَانِي[12].
وَقَالَ الأَلُوسِي: «(القُدُّوسُ) البَلِيغُ فِي النَّزَاهَةِ عَمَّا يُوجِبُ نُقْصَانًا، أو الذي له الكَمَالُ في كُلِّ وَصْفٍ اخْتَصَّ به، أو الذي لا يُحَدُّ ولا يُتَصَوَّرُ»[13].
وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ في (النُّونِيَّةِ):
هَذَا ومِنْ أَوْصَافِهِ القُدُّوسُ ذو ال
تَّنْزِيهِ بالتَّعْظِيمِ للرَّحَمَنِ[14]
رابعًا: آثَارُ الإِيمَانِ بِهَذَا الاسْمِ
1- تَقْدِيسُ الله سُبْحَانَهُ وَتَنْزِيهُهُ عَنِ النَّقَائِصِ وأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِكُلِّ كَمَالٍ، وَصِفَاتُ الكَمَالِ هي مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ سَبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ مَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم.
وَلَيْسَ مَعْنَى التَّنْزِيهِ هو تَعْطِيلُ صِفَاتِ الله ونَفْي مَعَانِي أَسْمَائِهِ الحُسْنَى كَمَا ظَنَّهُ الجَهْمِيَّةُ والُمعْتَزِلَةُ وَمَنْ شَابَهَهُم مِنَ الفِرَقِ الضَّالَّةِ، وإِنَّمَا هُوَ تَنْزِيهُهُ عَنْ مُشَابَهَةِ الخَلْقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].
فَتَنْزِيهُ أَهْلِ السُّنَّةِ لَيْسَ فيه تَعْطِيلٌ، وَإثْبَاتهُم ليس فيه تَشْبِيهٌ، والآيَةُ السَّابِقَةُ فيها تَنْزِيهٌ وإِثْبَاتٌ، وكُلُّ تَنْزِيهٍ ونَفْيٍ في الكِتَابِ فَإِنَّما هو لِثُبُوتِ كَمَالِ ضِدِّهِ، فَمَثَلًا نَفْيُ الله عن نَفْسِهِ الظُّلْمَ بِقَوْلِهِ: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وَذَلِكَ لِثُبُوتِ كَمَالِ العَدْلِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَهَكَذَا، وَأَمَّا النَّفْيُ الَمحْضُ فَلا كَمَالَ فيه، وهو مَذْمُومٌ.
وَقَالَ الحُلَيْمِيُّ: «(القُدُّوسُ) وَمَعْنَاهُ الَممْدُوحُ بالفَضَائِلِ والَمحَاسِنِ، والتَّقْدِيسِ مُضَمَّنٌ في صَرِيحِ التَسْبِيحِ، والتَسْبيحُ مُضَمَّنٌ فِي صَرِيحِ التَّقْدِيس ؛ لأَنَّ نَفْي الُمذَامِّ إِثْبَاتٌ للمَدَائِحِ، كَقَوْلِنا: لا شَرِيكَ له ولا شَبِيهَ لَهُ، إِثْبَاتٌ أَنَّهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ، وَكَقَوْلِنا: لَا يُعْجِزُه شَيْءٌ، إِثْبَاتٌ أَنَّهُ قَادِرٌ قَوِيٌّ، وَكَقَوْلِنَا: إِنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا، إِثْبَاتٌ أَنَّهُ عَدْلٌ في حُكْمِهِ.
وإثْبَاتُ الَمدَائِحِ له نَفْيٌ للمَذَامِّ عَنْهُ كَقَوْلِنا: إِنَّهُ عَالِمٌ، نَفْيٌ للجَهْلِ عَنْهُ، وَكَقَوْلِنا: إِنَّه قَادِرٌ، نَفْيٌ للعَجْزِ عَنْهُ، إلا أَنَّ قَوْلَنا: هُوَ كَذَا ظَاهِرُهُ التَّقْدِيسُ، وَقَوْلُنا: لَيْسَ بِكَذَا ظَاهِرُهُ التَّسْبَيحُ؛ لأَنَّ التَسْبِيحَ مَوْجُودٌ في ضِمْنِ التَّقْدِيسِ، والتَّقْدِيسُ مَوْجُودٌ في ضِمْنِ التَّسْبِيحِ.
وَقَدْ جَمَعَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بينهما في سورةِ «الإِخْلَاصِ» فَقَالَ عَزَّ اسْمُهُ: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ [الإخلاص: 2] فَهَذَا تَقْدِيسٌ ثُمَّ قَالَ: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 3]، فَهَذَا تَسْبِيحٌ، وَالأَمْرَانِ رَاجِعَانِ إلى إفْرَادِهِ وتَوْحِيدِه وَنَفْي الشَّرِيكِ والتَّشْبِيهِ عنه»[15].
2- وَكَمَا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ في صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ الحُسْنَى، فَهُوَ أَيْضًا مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
فَقَوْلُهُ الصِّدْقُ وخَبَرُهُ الحَقُّ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، وَفِعْلُهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الخَطَأ والنِّسْيَانِ، ﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم: 64].
خامسًا: التَّقْدِيسُ الحَقُّ للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَكُونُ بِشَرْعِهِ
كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ المَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهم: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، فالتَّقْدِيسُ لله وَتَقْديِسُ الله بمَعْنَى وَاحِدٍ.
وَأَفْضَلُ مَا يُمْكِنُ تَقْدِيسُ الله بِهِ هُوَ عِبَادَتُهُ بِمَا جَاءَ فيِ شَرْعِهِ مِنْ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ بِالعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالأَقْوَالِ الطَيِّبَةِ والأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وهذا ما ارْتَضَاهُ اللهُ لِنَفْسِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَمِنْ ذَلِكَ:
1- تَقْدِيسُ الله بالتَّوْحِيدِ والإيِمَانِ الصَّحِيحِ:
فَأَعْظَمُ مَا يُقَدِّسُ العِبَادُ بِهِ رَبَّهم هو الإِيمانُ والتَّوْحِيدُ ونَفْيُ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ وَالأَنْدَادِ وَتَنْزِيهُهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ نَسَبَهُ إِلَيْهِ الكَافِرُونَ وَالُمشْرِكُونَ، لِذَلِكَ حَيْنَ سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لله نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» [16].
وَلأَنَّ الشِّرْكَ هُوَ أَعْظَمُ السَّبِّ لله جل جلاله وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الحَدِيثِ القُدْسِي: «كَذَّبَنِي ابنُ آدمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُه: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا، وأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ ولَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ»[17].
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ أَعْظَمُ الأَعْمَالِ وأَفْضَلُها هو الإيمانُ بالله.
عَنْ أَبِي هُريرةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: «إيمانٌ بالله ورَسُولِهِ...» [18].
2- تَقْدِيسُ الله بالقُلُوبِ:
فَإِنَّ اللهَ يَنْظُرُ إِلَى القُلُوبِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَطْهِيرِها لِتَلِيقَ بِنَظَرِ الله إليها، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى أَجْسَامِكم ولا إلى صُوَرِكم، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكم» [19].
وفي روايةٍ لمسلمٍ أيضًا زَادَ فيها: «... وَأَعْمَالِكم».
فَمِنْ ذلك حُسْنُ الظَّنِّ بالله تَعَالَى وَحُبُّه وخَشْيَتُه والتَّوَكَّلُ عليه وحُبُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَحُبُّ المؤمِنينَ في الله تبَاَرَكَ وَتَعَالَى وتَطْهِيرُ القُلُوبِ مِنَ النِّفَاقِ والرِّيَاءِ والشَّهَوَاتِ الُمحَرَّمَةِ ليَسْلَمَ القَلْبُ لِتَقْدِيسِ الله ﻷ، فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].
3- تَقْدِيسُ الله بالأَعْمَالِ:
كالطَّهَارَةِ: وهي تَقْدِيسُ البَدَنِ لِيَلِيقَ بِعِبَادِةِ الله وتِلَاوَةِ كَلَامِهِ المقَدَّسِ والوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ في الصَّلَاةِ.
والصَّلَاةُ: فَإنَّ العَبْدَ يُقَدِّسُ اللهَ فِيها بالتَّسْبِيحِ والتَّكْبِيرِ والتَّعْظِيمِ، وَكَذَلِكَ بالرُّكُوعِ والسُّجُودِ، ولذلك فَإِنَّ الصَّلَاةَ تُطَهِّرُ العَبْدَ مِنْ دَنَسِ الَمعَاصِي والذُّنُوبِ مِنْ جِهَتَينِ:
الأُولَى: أَنَّها سَبَبٌ لِطَهَارَتِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ السَّابِقَةِ، عَنْ أَبي هُريرةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَرَأَيْتُم لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ»، قالوا: لا يبقى من درنه، قال: «فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الخَطَايَا» [20].
الثَّانِيَةُ: النَّهْيُ عَنِ الخَبَائِثِ فَيمَا يَعْرِضُ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
والزَّكَاةُ: بِأَنْ يُطَيِّبَ مَا يُنْفِقُ في سَبِيلِ الله، فَقَدْ قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيّبًا» [21]، وَهِيَ كَذَلِكَ تَطْهِيٌر للنَّفْسِ مِنَ الخَبَائِثِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103].
وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ ل تُطَيِّبُ الصَّدَقَةَ وَتُعَطِّرُهُا قَبْلَ أَنْ تُعْطِيهَا السَّائِلَ وَتَقُولُ: «إِنَّهَا لَتَقَعُ فِي يَدِ الله قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ».
4- تَقْدِيسُ الله بِالدُّعَاءِ:
دُعَاءِ الله باسْمِهِ القُدُّوسِ:
فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرَ اللهَ بهذا الاسْمِ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَهُوَ دُعَاءُ ثَنَاءٍ وَحَمْدٍ.
فَعَنْ عَائِشَةَ ل أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي رَكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الملَائِكَةِ والرُّوحِ» [22].
ذَكْرُ الله وَتَسْبِيحُهُ بِهِ بَعْدَ الوِتْرِ:
فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ يُسَبِّحُ اللهَ بِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاةِ الوِتْرِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أُبي بنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الوِتْرِ بِ- بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: «سُبْحَانَ الملِكِ القُدُّوسِ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ [23].
سادسًا: الَمعَانِي الإِيمَانِيَّةُ [24]
1- القُدْسِيَّةُ التَّامَّةُ للهِ مِنْ جَمِيعِ الوُجُوهِ:
فَهُوَ القُدُّوسُ في أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَأَسْمَاؤُهُ كُلُّها حُسْنَى لَا شَرَّ فِيها وصِفَاتُهُ كُلُّها عُلْيَا لَا نَقْضَ فِيها وِأَفْعَالُه كُلُّها حِكْمَةٌ وَعِزَّةٌ لَا خَلَلَ فيها، فإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ القُدُّوسُ مِنْ كُلِّ النَّقَائِصِ وَالعُيُوبِ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ الآفَاتِ، فَمِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِمثَالِ:
تَقَدَّسَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ:
قَالَ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4].
تَقَدَّسَ أَنْ يَكُونَ لَهُ زَوْجَةٌ أَوْ وَلَدٌ:
أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الجِنِّ أَنَّهُم قَالُوا: ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴾ [الجن: 3].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ [البقرة: 116].
تَقَدَّسَ عَنِ المَوْتِ، والنَّوْمِ:
قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255].
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ»[25].
تَقَدَّسَ عَنِ الظُّلْمِ:
قَالَ تَعَالَى فِي الحِدِيثِ القُدْسِي: «يَا عِبَادِي، إِنَّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا»[26].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]، وَذَلِكَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ فَهُوَ خَالِقُهم ومَالِكُهم، ولذلك فَقَدْ وَرَدَ اسْمُ (القُدُّوسِ) مَرَّتَينِ فِي القُرْآنِ اقْتَرَنَ فِيهما باسْمِهِ الملكِ عز وجل.
تَقَدَّسَ عَنِ الكَذِبِ:
فَقَوْلُهُ الصِّدْقُ وَخَبَرُهُ الحَقُّ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87].
وَقَالَ: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122].
تَقَدَّسَ عَنِ الضَّلَالِ والنِّسْيَانِ:
أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ: ﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾ [طه: 52].
• تقدس عن الفقر والبخل جل جلاله وتقدست أسماؤه، قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15].
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَدُ الله مَلْأَى لا تُغِيضُها نَفَقَةٌ سَحَّاءَ الليلِ والنَّهارِ».
وقَالَ: «أَرَأَيْتُم مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ فإنَّهُ لَمْ يَغِضْ ما في يَدِهِ» [27].
تَقَدَّسَ عَنِ الفَنَاءِ:
قَالَ تَعَالَى: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27].
تَقَدَّسَ عَنِ الشَّبِيهِ وَالمَثيلِ:
قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، فَلَمْ يُقَدِّسِ اللهَ مِنْ شَبَّهَهُ بِخَلْقِهِ، أَوْ نَفَى عَنْهُ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، فَكِلَاهُمَا عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ.
وَلَوِ اسْتَقْصَيْنَا أَوْجُهَ التَّقْدِيسِ لله ﻷ مَا اسْتَطَعْنَا أَبَدًا وَلَا أَحْصَيْنَاهَا؛ لأَنَّها لَا نِهَايَةَ لها، وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك» [28].
2- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي قُدْسِيَّتِهِ:
فَسُبْحَانَ الله الملكِ القدوسِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ، وَمِنْ قُدْسِيَّتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فيها، وذَلِكَ لِأَسْبَابٍ كَثيرَةٍ؛ مِنْهَا:
• قُدْسِيَّةُ الله تَامَّةٌ وَكَامِلَةٌ، وَقُدْسِيَّةُ الخَلْقِ نَاقِصَةٌ:
فَإِنَّ قُدْسِيَّةَ الخَلْقِ وَطَهَارَتَهم إِنَّما تَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وفي جِهَةٍ دُونَ أُخْرَى، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ وَمَهَما بَلَغَتْ دَرَجَةُ كَمَالِ المخلُوقِ فَهِي قُدْسِيَّةٌ تُنَاسِبُ المَخْلُوقَ الضَّعِيفَ النَّاقِصَ؛ فَقَدْ يَتَطَهَّرُ العَبْدُ وَقْتَ العِبَادَةِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِها ولَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُ هَذَا فِي جِمَاعِهِ لِزَوْجَتِهِ أَوْ حَالَ قَضَائِهِ لحاجَتِهِ.
وَقَدْ يُطَهِّرُ نَفْسَهُ بالطَّاعَةِ وَالعِبَادَةِ وَلكِنَّهُ يَتَدَنَّسُ مَرَّةً أُخْرَى بِالمعْصِيَةِ والذَّنُوبِ، ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ ابنِ آدَمَ خَطَّائِينَ وخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَابُونَ»[29].
وَقَدْ يُقَدِّسُ العَبْدُ نَفْسَهُ بِأَلَّا يُذِلَّها للنَّاسِ وَيَتَعَفَّفُ عَمَّا فِي أيديِهم، ولَكِنَّه سَيَظَلُّ دَائِمًا أَبَدًا مُحْتَاجًا إِلَى الله فَقِيرًا لِغِنَاهُ ذَلِيلًا لِعِزَّتِهِ.
أَمَّا اللهُ أ فَهُوَ القُدُّوسُ مِنْ جَمِيعِ الوُجُوهِ، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ مِنْ جَمِيعِ الجِهَاتِ، مُبَرَّأٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ.
قُدْسِيَّةُ الله دَائِمَةٌ، وقُدْسِيَّةُ الخَلْقِ مُؤَقَّتَةٌ:
فَقُدْسِيَّةُ الخَلْقِ لها بِدَايَةٌ وَلَها نِهَايَةٌ فَوُجُودُهم سَبَقَهُ العَدَمُ، وَيَلْحَقُهُ الفَنَاءُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1].
وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ زَكَرِيَّا: ﴿ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 9].
فَقَدْ سَبَقَ قُدْسِيَّةَ الخَلْقِ عَدَمُهم، وقَدْ كَانَ قَبْلَ كَمَالِهم نَقْصُهم، وَيَلْحَقُ بِكُلِّ ذلك فَنَاؤُهم، فَقْدْسِيَّةُ الخَلْقِ مَحْدُودَةٌ بِالوَقْتِ والحالِ.
فَعَنْ بُسْرِ بْنِ جَحَّاشٍ القُرَشِي أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بَزَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: يا ابنَ آدمَ، أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إِذَا سُوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُك مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَينِ وَللأَرْضِ مِنْكُ وئيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ»[30]
عَنَاصِرُ الموْضُوعِ:
أولًا: المَعْنَى اللُّغَوِيُّ.
ثانيًا: القُدُّوسُ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ.
ثالثًا: مَعْنَى الاسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى.
رابعًا: آثَارُ الإِيمَانِ بِهَذَا الاسْمِ.
خامسًا: التَّقْدِيسُ الحَقُّ لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَكُونُ بِشرْعِهِ.
1- تَقْدِيسُ الله بالتَّوْحِيدِ والإيمَانِ الصَّحِيحِ.
2- تَقْدِيسُ الله بِالقُلُوبِ.
3- تَقْدِيسُ الله بالأَعْمَالِ.
4- تَقْدِيسُ الله بالدُّعَاءِ.
سادسًا: المَعَانِي الإِيمَانِيَّةُ.
1- القُدْسِيَّةُ التَّامَّةُ لله مِنْ جَمِيعِ الوُجُوهِ.
2- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ في قُدْسِيَّتِهِ.
النِّيَّاتُ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الُمحَاضِرُ:
قَبْلَ إِلْقَاءِ هَذِهِ الُمحَاضَرَةِ:
أولًا: النِّيَّاتُ العَامَّةُ:
1- يَنْوي القيامَ بتبليغِ الناسِ شَيْئًا مِنْ دِينِ الله امْتِثَالًا لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «بلِّغُوا عَني ولَوْ آيةً»؛ رواه البخاري.
2- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ مَجْلِسِ العِلْمِ[1].
3- رَجَاءَ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ مَجْلِسِه ذلك مَغْفُورًا لَهُ[2].
4- يَنْوِي تَكْثِيرَ سَوَادِ المسْلِمِينَ والالتقاءَ بِعِبادِ الله المؤْمِنينَ.
5- يَنْوِي الاعْتِكَافَ فِي المسْجِدِ مُدةَ المحاضرة - عِنْدَ مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ مِنَ الفُقَهَاءِ - لَأَنَّ الاعْتِكَافَ هو الانْقِطَاعُ مُدَّةً للهِ في بيتِ الله.
6- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى أَجْرِ الخُطُوَاتِ إلى المسْجِدِ الذي سَيُلْقِي فيه المحَاضَرَةَ [3].
7- رَجَاءَ الحُصُولِ عَلَى ثَوَابِ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، إذا كانَ سَيُلْقِي مُحَاضَرَتَه مثلًا مِنَ المغْرِبِ إلى العِشَاءِ، أَوْ مِنَ العَصْرِ إِلَى الَمغْرِبِ [4].
8- رَجَاءَ أَنْ يَهْدِي اللهُ بسببِ مُحَاضَرَتِه رَجُلًا، فَيَأْخُذَ مِثْلَ أَجْرِهِ [5].
9- يَنْوِي إرْشَادَ السَّائِليِنَ، وتَعْلِيمَ المحْتَاجِينَ، مِنْ خِلَالِ الرَّدِّ عَلَى أَسْئِلَةِ المسْتَفْتِينَ [6].
10- يَنْوِي القِيَامَ بِوَاجِبِ الأمرِ بالمعروفِ، وَالنهيِ عَنِ الُمنْكَرِ - بالحِكْمَةِ والموعظةِ الحسنةِ - إِنْ وُجِدَ مَا يَقْتَضِي ذلك.
11- يَنْوِي طَلَبَ النَّضْرَةِ الَمذْكُورَةِ فِي قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ اللهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا، ثُمَّ أَدَّاهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْها»، رواه أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ الألبانيُّ في صحيحِ الجامعِ (6766).
ثُمَّ قَدْ يَفْتَحُ اللهُ عَلَى الُمحَاضِرِ بِنِيَّات صَالِحَةٍ أُخْرَى فَيَتَضَاعَفُ أَجْرُه لقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنما لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، مُتَّفَقٌ عَلَيه.
ثانيًا: النِّيَّاتُ الخَاصَّةُ:
1- تَنْوِي تَعْرِيفَ المسْلِمينَ بِبَعْضِ مَعَانِي اسْمِ الله (القُدُّوسِ).
2- تَنْوِي تَعْلِيمَ المسْلِمينَ كَيْفَ يُقَدِّسُونَ رَبَّهم بِالقُلُوبِ.
3- تَنْوِي تَعْلِيمَ المسْلِمينَ كَيْفَ يُقَدِّسُونَ رَبَّهم بِالدُّعَاءِ.
4- تَنْوِي التَّنْبِيهَ إلى أَنَّ القُلُوبَ التي تُقَدِّسُ رَبَّها تَسْمُو وتُطَهَّرُ.
5- حَثُّ المسْلِمينَ عَلَى التَّعَلُّقِ بِرَبِّ العَالَمِينَ.
أولًا: المَعْنَى اللُّغَوِي
لَهُ مَعْنَيَانِ في اللُّغَةِ:
الأَوَّلُ: أَنَّ (القُدَّوسَ) فَعُولٌ مِنَ القُدْسِ وهو الطَّهَارَةُ، والقَدَسُ بالتَّحْرِيكِ السَطْل بِلُغَةِ أَهْلِ الحِجَازِ لأَنَّهُ يُتَقَدَّسُ مِنْهُ أَيْ: يُتَطَهَّرُ منه، وَجَاءَ فِي التَّنْزِيلِ ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].
قَالَ الزَّجَّاجُ: «مَعْنَى نُقَدِّسُ لَكَ أَيْ: نُطَهِّرُ أَنْفُسَنَا لَكَ، ولِهَذَا بَيْتُ الَمقْدِسِ أَيْ: البَيْتُ الُمطَهَّرُ أَوِ الَمكَانُ الذِي يُتَطَهَّرُ بِهِ مِنَ الذُّنُوبِ».
وَقَالَ الفَرَّاءُ: «الأَرْضُ الُمقَدَّسَةُ الطَّاهِرَةُ وَهِيَ دِمَشْقُ وَفِلَسْطِينَ وبَعْضُ الأُرْدُنِ، ورُوحُ القُدُسِ وهو جِبْرِيلُ ؛ مَعْنَاهُ رَوحُ الطَّهَارَةِ أَيْ: خُلِقَ مِنَ الطَّهَارَةِ».
والَمعْنَى الثَّانِي: أَنَّ القُدْسَ البَرَكَةُ، والأَرْضُ الُمقَدَّسَةُ أَيْ: الَمبَارَكَةُ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وإليه ذَهَبَ ابنُ الأَعْرَابِي.
ويُقَوِّيه أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الأَرْضَ الُمقَدَّسَةَ مُبَارَكَةٌ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1].
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 71]، وَهِيَ الأَرْضُ الُمقَدَّسَةُ.
ثانيًا: وُرُودُ الاسْمِ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ
وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الاسْمُ في القُرْآنِ مَرَّتَينِ:
مَرَّةً فِي سُورَةِ الحَشْرِ وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الحشر: 23].
وَمَرَّةً فِي مَطْلَعِ سُورَةِ الجُمُعَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [الجمعة: 1].
ثالثًا: مَعْنَى الاِسْمِ فِي حَقِّ الله تَعَالَى
قَالَ قَتَادَةُ: «القُدُّوسُ أَيْ: الُمبَارَكُ» [7].
وَعَنِ ابنِ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيِر قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بَحَمْدِكَ: نُنَزِّهُكَ وَنُبَرِّئُكَ مِ-مَّا يُضِيفُهُ إِلَيْكَ أَهْلُ الشِّرْكِ بِكَ وَنُصَلِّي لَكَ، وُنُقَدِّسُ لَكَ: نَنْسِبُكَ إِلَى مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِكِ مِنَ الطَّهَارَةِ مِنَ الأَدْنَاسِ ومَا أَضَافَ إِلَيْكَ أَهْلُ الكُفْرِ بك» اه- [8].
وَقَالَ البَيْهَقِيُّ: «(القُدُّوسُ) هو الطَّاهِرُ مِنَ العُيوبِ، الُمنَزَّهُ عَنَ الأَوْلَادِ والأَنْدَادِ، وهَذِهِ صِفَةٌ يَسْتَحِقُّها بِذَاتِهِ» [9].
وقَالَ الغَزَّالِيُّ: «هو الُمنَزَّهُ عَنْ كُلِّ وَصْفٍ يُدْرِكُهُ حِسٌّ، أَوْ يَتَصَوَّرَهُ خَيَالٌ، أو يَسْبِقُ إليه وَهْمٌ، أَوْ يَخْتَلِجُ به ضَمِيرٌ، أَوْ يَقْضِي بِهِ تَفْكِيرٌ»[10].
وَقَالَ ابنُ كَثِيرٍ في مَعْنَى القُدُّوسِ: «أَيْ الُمنَزَّهُ عَنِ النَّقَائِصِ الَموْصُوفُ بِصِفَاتِ الكَمَالِ»[11].
وبنحوه قَالَ الشَّوْكَانِي[12].
وَقَالَ الأَلُوسِي: «(القُدُّوسُ) البَلِيغُ فِي النَّزَاهَةِ عَمَّا يُوجِبُ نُقْصَانًا، أو الذي له الكَمَالُ في كُلِّ وَصْفٍ اخْتَصَّ به، أو الذي لا يُحَدُّ ولا يُتَصَوَّرُ»[13].
وَقَالَ ابنُ القَيِّمِ في (النُّونِيَّةِ):
هَذَا ومِنْ أَوْصَافِهِ القُدُّوسُ ذو ال
تَّنْزِيهِ بالتَّعْظِيمِ للرَّحَمَنِ[14]
رابعًا: آثَارُ الإِيمَانِ بِهَذَا الاسْمِ
1- تَقْدِيسُ الله سُبْحَانَهُ وَتَنْزِيهُهُ عَنِ النَّقَائِصِ وأَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِكُلِّ كَمَالٍ، وَصِفَاتُ الكَمَالِ هي مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ سَبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ مَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم.
وَلَيْسَ مَعْنَى التَّنْزِيهِ هو تَعْطِيلُ صِفَاتِ الله ونَفْي مَعَانِي أَسْمَائِهِ الحُسْنَى كَمَا ظَنَّهُ الجَهْمِيَّةُ والُمعْتَزِلَةُ وَمَنْ شَابَهَهُم مِنَ الفِرَقِ الضَّالَّةِ، وإِنَّمَا هُوَ تَنْزِيهُهُ عَنْ مُشَابَهَةِ الخَلْقِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11].
فَتَنْزِيهُ أَهْلِ السُّنَّةِ لَيْسَ فيه تَعْطِيلٌ، وَإثْبَاتهُم ليس فيه تَشْبِيهٌ، والآيَةُ السَّابِقَةُ فيها تَنْزِيهٌ وإِثْبَاتٌ، وكُلُّ تَنْزِيهٍ ونَفْيٍ في الكِتَابِ فَإِنَّما هو لِثُبُوتِ كَمَالِ ضِدِّهِ، فَمَثَلًا نَفْيُ الله عن نَفْسِهِ الظُّلْمَ بِقَوْلِهِ: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، وَذَلِكَ لِثُبُوتِ كَمَالِ العَدْلِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَهَكَذَا، وَأَمَّا النَّفْيُ الَمحْضُ فَلا كَمَالَ فيه، وهو مَذْمُومٌ.
وَقَالَ الحُلَيْمِيُّ: «(القُدُّوسُ) وَمَعْنَاهُ الَممْدُوحُ بالفَضَائِلِ والَمحَاسِنِ، والتَّقْدِيسِ مُضَمَّنٌ في صَرِيحِ التَسْبِيحِ، والتَسْبيحُ مُضَمَّنٌ فِي صَرِيحِ التَّقْدِيس ؛ لأَنَّ نَفْي الُمذَامِّ إِثْبَاتٌ للمَدَائِحِ، كَقَوْلِنا: لا شَرِيكَ له ولا شَبِيهَ لَهُ، إِثْبَاتٌ أَنَّهُ وَاحِدٌ أَحَدٌ، وَكَقَوْلِنا: لَا يُعْجِزُه شَيْءٌ، إِثْبَاتٌ أَنَّهُ قَادِرٌ قَوِيٌّ، وَكَقَوْلِنَا: إِنَّهُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا، إِثْبَاتٌ أَنَّهُ عَدْلٌ في حُكْمِهِ.
وإثْبَاتُ الَمدَائِحِ له نَفْيٌ للمَذَامِّ عَنْهُ كَقَوْلِنا: إِنَّهُ عَالِمٌ، نَفْيٌ للجَهْلِ عَنْهُ، وَكَقَوْلِنا: إِنَّه قَادِرٌ، نَفْيٌ للعَجْزِ عَنْهُ، إلا أَنَّ قَوْلَنا: هُوَ كَذَا ظَاهِرُهُ التَّقْدِيسُ، وَقَوْلُنا: لَيْسَ بِكَذَا ظَاهِرُهُ التَّسْبَيحُ؛ لأَنَّ التَسْبِيحَ مَوْجُودٌ في ضِمْنِ التَّقْدِيسِ، والتَّقْدِيسُ مَوْجُودٌ في ضِمْنِ التَّسْبِيحِ.
وَقَدْ جَمَعَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بينهما في سورةِ «الإِخْلَاصِ» فَقَالَ عَزَّ اسْمُهُ: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾ [الإخلاص: 2] فَهَذَا تَقْدِيسٌ ثُمَّ قَالَ: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 3]، فَهَذَا تَسْبِيحٌ، وَالأَمْرَانِ رَاجِعَانِ إلى إفْرَادِهِ وتَوْحِيدِه وَنَفْي الشَّرِيكِ والتَّشْبِيهِ عنه»[15].
2- وَكَمَا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ في صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ الحُسْنَى، فَهُوَ أَيْضًا مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.
فَقَوْلُهُ الصِّدْقُ وخَبَرُهُ الحَقُّ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، وَفِعْلُهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الخَطَأ والنِّسْيَانِ، ﴿ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم: 64].
خامسًا: التَّقْدِيسُ الحَقُّ للهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَكُونُ بِشَرْعِهِ
كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ المَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهم: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]، فالتَّقْدِيسُ لله وَتَقْديِسُ الله بمَعْنَى وَاحِدٍ.
وَأَفْضَلُ مَا يُمْكِنُ تَقْدِيسُ الله بِهِ هُوَ عِبَادَتُهُ بِمَا جَاءَ فيِ شَرْعِهِ مِنْ كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ بِالعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالأَقْوَالِ الطَيِّبَةِ والأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وهذا ما ارْتَضَاهُ اللهُ لِنَفْسِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَمِنْ ذَلِكَ:
1- تَقْدِيسُ الله بالتَّوْحِيدِ والإيِمَانِ الصَّحِيحِ:
فَأَعْظَمُ مَا يُقَدِّسُ العِبَادُ بِهِ رَبَّهم هو الإِيمانُ والتَّوْحِيدُ ونَفْيُ الشُّرَكَاءِ عَنْهُ وَالأَنْدَادِ وَتَنْزِيهُهُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ نَسَبَهُ إِلَيْهِ الكَافِرُونَ وَالُمشْرِكُونَ، لِذَلِكَ حَيْنَ سُئِلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لله نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ» [16].
وَلأَنَّ الشِّرْكَ هُوَ أَعْظَمُ السَّبِّ لله جل جلاله وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الحَدِيثِ القُدْسِي: «كَذَّبَنِي ابنُ آدمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُه: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا، وأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ ولَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ»[17].
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ أَعْظَمُ الأَعْمَالِ وأَفْضَلُها هو الإيمانُ بالله.
عَنْ أَبِي هُريرةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: «إيمانٌ بالله ورَسُولِهِ...» [18].
2- تَقْدِيسُ الله بالقُلُوبِ:
فَإِنَّ اللهَ يَنْظُرُ إِلَى القُلُوبِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَطْهِيرِها لِتَلِيقَ بِنَظَرِ الله إليها، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى أَجْسَامِكم ولا إلى صُوَرِكم، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكم» [19].
وفي روايةٍ لمسلمٍ أيضًا زَادَ فيها: «... وَأَعْمَالِكم».
فَمِنْ ذلك حُسْنُ الظَّنِّ بالله تَعَالَى وَحُبُّه وخَشْيَتُه والتَّوَكَّلُ عليه وحُبُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وَحُبُّ المؤمِنينَ في الله تبَاَرَكَ وَتَعَالَى وتَطْهِيرُ القُلُوبِ مِنَ النِّفَاقِ والرِّيَاءِ والشَّهَوَاتِ الُمحَرَّمَةِ ليَسْلَمَ القَلْبُ لِتَقْدِيسِ الله ﻷ، فَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89].
3- تَقْدِيسُ الله بالأَعْمَالِ:
كالطَّهَارَةِ: وهي تَقْدِيسُ البَدَنِ لِيَلِيقَ بِعِبَادِةِ الله وتِلَاوَةِ كَلَامِهِ المقَدَّسِ والوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ في الصَّلَاةِ.
والصَّلَاةُ: فَإنَّ العَبْدَ يُقَدِّسُ اللهَ فِيها بالتَّسْبِيحِ والتَّكْبِيرِ والتَّعْظِيمِ، وَكَذَلِكَ بالرُّكُوعِ والسُّجُودِ، ولذلك فَإِنَّ الصَّلَاةَ تُطَهِّرُ العَبْدَ مِنْ دَنَسِ الَمعَاصِي والذُّنُوبِ مِنْ جِهَتَينِ:
الأُولَى: أَنَّها سَبَبٌ لِطَهَارَتِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ السَّابِقَةِ، عَنْ أَبي هُريرةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَرَأَيْتُم لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ»، قالوا: لا يبقى من درنه، قال: «فَذَلِكَ مِثْلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الخَطَايَا» [20].
الثَّانِيَةُ: النَّهْيُ عَنِ الخَبَائِثِ فَيمَا يَعْرِضُ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
والزَّكَاةُ: بِأَنْ يُطَيِّبَ مَا يُنْفِقُ في سَبِيلِ الله، فَقَدْ قَالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيّبًا» [21]، وَهِيَ كَذَلِكَ تَطْهِيٌر للنَّفْسِ مِنَ الخَبَائِثِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 103].
وَقَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ ل تُطَيِّبُ الصَّدَقَةَ وَتُعَطِّرُهُا قَبْلَ أَنْ تُعْطِيهَا السَّائِلَ وَتَقُولُ: «إِنَّهَا لَتَقَعُ فِي يَدِ الله قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ».
4- تَقْدِيسُ الله بِالدُّعَاءِ:
دُعَاءِ الله باسْمِهِ القُدُّوسِ:
فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرَ اللهَ بهذا الاسْمِ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ، وَهُوَ دُعَاءُ ثَنَاءٍ وَحَمْدٍ.
فَعَنْ عَائِشَةَ ل أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي رَكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: «سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الملَائِكَةِ والرُّوحِ» [22].
ذَكْرُ الله وَتَسْبِيحُهُ بِهِ بَعْدَ الوِتْرِ:
فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ يُسَبِّحُ اللهَ بِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاةِ الوِتْرِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أُبي بنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الوِتْرِ بِ- بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: «سُبْحَانَ الملِكِ القُدُّوسِ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ [23].
سادسًا: الَمعَانِي الإِيمَانِيَّةُ [24]
1- القُدْسِيَّةُ التَّامَّةُ للهِ مِنْ جَمِيعِ الوُجُوهِ:
فَهُوَ القُدُّوسُ في أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَأَسْمَاؤُهُ كُلُّها حُسْنَى لَا شَرَّ فِيها وصِفَاتُهُ كُلُّها عُلْيَا لَا نَقْضَ فِيها وِأَفْعَالُه كُلُّها حِكْمَةٌ وَعِزَّةٌ لَا خَلَلَ فيها، فإِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى هُوَ القُدُّوسُ مِنْ كُلِّ النَّقَائِصِ وَالعُيُوبِ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ الآفَاتِ، فَمِنْ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِمثَالِ:
تَقَدَّسَ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ:
قَالَ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4].
تَقَدَّسَ أَنْ يَكُونَ لَهُ زَوْجَةٌ أَوْ وَلَدٌ:
أَخْبَرَ تَعَالَى عَنِ الجِنِّ أَنَّهُم قَالُوا: ﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا ﴾ [الجن: 3].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ [البقرة: 116].
تَقَدَّسَ عَنِ المَوْتِ، والنَّوْمِ:
قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255].
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ»[25].
تَقَدَّسَ عَنِ الظُّلْمِ:
قَالَ تَعَالَى فِي الحِدِيثِ القُدْسِي: «يَا عِبَادِي، إِنَّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا»[26].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]، وَذَلِكَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِهِ فَهُوَ خَالِقُهم ومَالِكُهم، ولذلك فَقَدْ وَرَدَ اسْمُ (القُدُّوسِ) مَرَّتَينِ فِي القُرْآنِ اقْتَرَنَ فِيهما باسْمِهِ الملكِ عز وجل.
تَقَدَّسَ عَنِ الكَذِبِ:
فَقَوْلُهُ الصِّدْقُ وَخَبَرُهُ الحَقُّ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87].
وَقَالَ: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ﴾ [النساء: 122].
تَقَدَّسَ عَنِ الضَّلَالِ والنِّسْيَانِ:
أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى أَنَّهُ قَالَ: ﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾ [طه: 52].
• تقدس عن الفقر والبخل جل جلاله وتقدست أسماؤه، قال تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [المائدة: 64].
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15].
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَدُ الله مَلْأَى لا تُغِيضُها نَفَقَةٌ سَحَّاءَ الليلِ والنَّهارِ».
وقَالَ: «أَرَأَيْتُم مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ فإنَّهُ لَمْ يَغِضْ ما في يَدِهِ» [27].
تَقَدَّسَ عَنِ الفَنَاءِ:
قَالَ تَعَالَى: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26، 27].
تَقَدَّسَ عَنِ الشَّبِيهِ وَالمَثيلِ:
قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، فَلَمْ يُقَدِّسِ اللهَ مِنْ شَبَّهَهُ بِخَلْقِهِ، أَوْ نَفَى عَنْهُ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، فَكِلَاهُمَا عَلَى ضَلَالٍ مُبِينٍ.
وَلَوِ اسْتَقْصَيْنَا أَوْجُهَ التَّقْدِيسِ لله ﻷ مَا اسْتَطَعْنَا أَبَدًا وَلَا أَحْصَيْنَاهَا؛ لأَنَّها لَا نِهَايَةَ لها، وقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك» [28].
2- لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فِي قُدْسِيَّتِهِ:
فَسُبْحَانَ الله الملكِ القدوسِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ، وَمِنْ قُدْسِيَّتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فيها، وذَلِكَ لِأَسْبَابٍ كَثيرَةٍ؛ مِنْهَا:
• قُدْسِيَّةُ الله تَامَّةٌ وَكَامِلَةٌ، وَقُدْسِيَّةُ الخَلْقِ نَاقِصَةٌ:
فَإِنَّ قُدْسِيَّةَ الخَلْقِ وَطَهَارَتَهم إِنَّما تَكُونُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، وفي جِهَةٍ دُونَ أُخْرَى، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ وَمَهَما بَلَغَتْ دَرَجَةُ كَمَالِ المخلُوقِ فَهِي قُدْسِيَّةٌ تُنَاسِبُ المَخْلُوقَ الضَّعِيفَ النَّاقِصَ؛ فَقَدْ يَتَطَهَّرُ العَبْدُ وَقْتَ العِبَادَةِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غَيْرِها ولَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُ هَذَا فِي جِمَاعِهِ لِزَوْجَتِهِ أَوْ حَالَ قَضَائِهِ لحاجَتِهِ.
وَقَدْ يُطَهِّرُ نَفْسَهُ بالطَّاعَةِ وَالعِبَادَةِ وَلكِنَّهُ يَتَدَنَّسُ مَرَّةً أُخْرَى بِالمعْصِيَةِ والذَّنُوبِ، ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ ابنِ آدَمَ خَطَّائِينَ وخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَابُونَ»[29].
وَقَدْ يُقَدِّسُ العَبْدُ نَفْسَهُ بِأَلَّا يُذِلَّها للنَّاسِ وَيَتَعَفَّفُ عَمَّا فِي أيديِهم، ولَكِنَّه سَيَظَلُّ دَائِمًا أَبَدًا مُحْتَاجًا إِلَى الله فَقِيرًا لِغِنَاهُ ذَلِيلًا لِعِزَّتِهِ.
أَمَّا اللهُ أ فَهُوَ القُدُّوسُ مِنْ جَمِيعِ الوُجُوهِ، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ مِنْ جَمِيعِ الجِهَاتِ، مُبَرَّأٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ.
قُدْسِيَّةُ الله دَائِمَةٌ، وقُدْسِيَّةُ الخَلْقِ مُؤَقَّتَةٌ:
فَقُدْسِيَّةُ الخَلْقِ لها بِدَايَةٌ وَلَها نِهَايَةٌ فَوُجُودُهم سَبَقَهُ العَدَمُ، وَيَلْحَقُهُ الفَنَاءُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1].
وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ زَكَرِيَّا: ﴿ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 9].
فَقَدْ سَبَقَ قُدْسِيَّةَ الخَلْقِ عَدَمُهم، وقَدْ كَانَ قَبْلَ كَمَالِهم نَقْصُهم، وَيَلْحَقُ بِكُلِّ ذلك فَنَاؤُهم، فَقْدْسِيَّةُ الخَلْقِ مَحْدُودَةٌ بِالوَقْتِ والحالِ.
فَعَنْ بُسْرِ بْنِ جَحَّاشٍ القُرَشِي أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بَزَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا إِصْبَعَهُ ثُمَّ قَالَ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: يا ابنَ آدمَ، أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إِذَا سُوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُك مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَينِ وَللأَرْضِ مِنْكُ وئيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِي قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ»[30]