Şøķåŕą
03-18-2024, 04:08 PM
جَلَّ جَلَالُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ
الدِّلَالَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (المُقِيتِ):
المُقِيتُ اسْمُ فَاعِل للمَوْصُوفِ بالإِقَاتَةِ، فِعْلُهُ أَقَاتَ، وَأَصْلُهُ قَات يَقُوتُ قُوتًا.
والقُوتُ لُغَةً هُوَ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ مِنَ الرِّزقِ، تَقُولُ: قَاتَ الرَّجُلَ وَأَقَاتَهُ؛ أَيْ: أَعْطَاهُ قُوتَهُ، وَالمَصْدَرُ القُوتُ، وَهُوَ المُدَّخَرُ المَحْفُوظُ الَّذِي يُقْتَاتُ مِنْهُ حِينَ الحَاجَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرُو رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَفَى بِالمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»[1].
وَالمُقِيتُ سُبْحَانَهُ هُوَ المُقْتَدِرُ الَّذِي خَلَقَ الأَقْوَاتَ، وَتَكَفَّلَ بِإِيصَالِهَا إِلَى الخَلْقِ، وَهُوَ حَفِيظٌ عَلَيْهَا، فَيُعْطِي كُلَّ مَخْلُوقٍ قُوتَهُ وَرِزْقَهُ عَلَى مَا حَدَّدَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، أَوْ كَمٍّ أَوْ كَيْفٍ، وَبِمُقْتَضَى المَشِيئَةِ وَالحِكْمَةِ، فَرُبَّمَا يُعْطِي المَخْلُوقَ قُوتًا يَكْفِيهِ لِأَمَدٍ طَوْيلٍ أَوْ قَصِيرٍ كَيَومٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ، وَرُبَّمَا يَبْتَلِيهِ فَلَا يَحْصُلُ عَلَيْهِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَكُلْفَةٍ.
وَاللهُ عز وجل خَلَقَ الأَقْوَاتَ عَلَى مُخْتَلَفِ الأَنْوَاعِ وَالأَلْوَانِ، وَيَسَّرَ أَسْبَابَ نَفْعِهَا لِلإِنْسَانِ وَالحَيَوَانِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141].
وَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ المُقِيتُ الَّذِي يُوَفِّي كَامِلَ الرِّزْقِ لِلإِنْسَانِ وَالحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ أَيْضًا مُقِيتُ القُلُوبِ بِالمَعْرِفَةِ وَالإِيمَانِ، وَهُوَ الحَافِظُ لِأَعْمَالِ العِبَادِ بِلَا نُقْصَانٍ وَلَا نِسْيَانٍ[2].
قَالَ البَيْهَقِيُّ فِي تَفْسِيرِ الاسْمِ: «الُمقِيتُ هُوَ المُقْتَدِرُ؛ فَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى صِفَةِ القُدْرَةِ، وَقِيلَ: المُقِيتُ الحَفِيظُ، وَقِيلَ: هُوَ مُعْطِي القُوتِ فَيَكُونَ مِنْ صِفَاتِ الفِعْلِ»[3].
وُرُودُهُ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ:
وَرَدَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾ [النساء: 85].
المَعْنَى فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى:
قَالَ ابنُ جَرِيرٍ رحمه الله: «اخْتَلَفَ أَهْلُ التَأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾ [النساء: 85].
فَقَالَ بَعْضُهُم تأَوْيِلُهُ: وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظًا وَشَهِيدًا.
وَقَالَ آخَرُوُنَ مَعْنَى ذَلِكَ: القَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ بِالتَّدْبِيرِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ القَدِيرُ».
ثُمَّ قَالَ: «والصَّوَابُ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ، قَولُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى المُقِيتِ، القَدِيرُ، وَذَلِكَ فِيمَا يُذْكَرُ كَذَلِكَ بِلُغَةِ قُرَيشٍ، وَيُنْشَدُ لِلزُّبَيرِ بنِ عَبدِ المُطَّلَبِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
وَذِي ضغنٍ كَففْتُ النَّفْسَ عَنْهُ
وَكُنْتُ عَلَى مَسَاءَتِهِ مُقِيتًا
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنْهُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «كَفَي باِلمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يُقِيتُ»[4]. وَفِي رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهَا «يُقِيتُ» يَعْنِي: مَنْ هُوَ تَحْتَ يَدَيْهِ وَفِي سُلْطَانِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، فَيَقْدُرُ لَهُ قُوتَهُ، يُقَالُ مِنْهُ أَقَاتَ فُلَانُ الشَّيْءَ يُقِيتُهُ إِقَاتَةً، وَقَاتَهُ يَقُوتُهُ قِيَاتَةً، وَالقُوتُ الاسْمُ.
وَاخْتَارَ أَنَّ مَعْنَى (المُقِيتِ): القَدِيرُ، الفَرَّاءُ[5]، وَالخَطَّابِيُّ[6]، وَابنُ قُتَيْبَةَ[7].
قَالَ ابنُ العَرَبِيِّ: «وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ: إِنَّهُ بِمَعْنَى (القَادِرِ)، وَلَيْسَ فِيهِ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ مِنَ السَّمَاعِ، فَلَوْ رَجَعْنَا إِلَى الاسْتِقْرَاءِ، وَتَتَبُّعِ مَسَالِكِ النَّظَرِ، لَجَعَلْنَاهُ فِي مَوَارِدِهِ كُلِّهَا بِمَعْنَى القُوتِ، َولَكِنَّ السَّمَاعَ يَقْضِي عَلَى النَّظَرِ.
وَعَلَى القَوْلِ بَأَنَّهُ (القَادِرُ) يَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ.
وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ اسْمٌ للَّذِي يُعْطِي القُوتَ فَهُوَ اسْمٌ لِلْوَهَّابِ وَالرَّزَّاق، وَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الأَفْعَالِ» اهـ[8].
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: «بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ المَعْنَى اللُّغَوِيَّ: فَالمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعْطِي كُلَّ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ قُوتَهُ عَلَى مَرِّ الأَوْقَاتِ، شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَهُوَ يَمُدُّها فِي كُلِّ وَقْت بِمَا جَعَلَهُ قِوَامًا لَهَا، إِلَى أَنْ يُرِيدُ إِبْطَالَ شَيْءٍ مِنْهَا فَيَحْبِسُ عَنْهُ مَا جَعَلَهُ مَادَّةً لِبَقَائِهِ فَيَهْلَكُ». اهـ[9].
وَقَالَ فِي التَّفْسِيرِ: «وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: «المُقِيتُ: الحَافِظُ»، وَقَالَ الكِسَائِيُّ: «الُمِقيتُ: المقتدرُ».
وَقَالَ النَّحَّاسُ: «وَقَولُ أِبِي عُبَيْدَةَ أَوْلَى؛ لَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ القُوتِ، والقُوتُ مَعْنَاهُ مِقْدَارُ مَا يَحْفَظُ الإِنْسَانَ»[10].
وَفِي المَقْصِدِ: «المُقِيتُ مَعْناهُ خَالِقُ الأَقْوَاتِ، وَمَوَصِّلُهَا إِلَى الأَبْدَانِ وَهِي الأَطْعِمَةُ، وَإِلَى القُلُوبِ وَهِي المَعْرِفَةُ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى (الرَّزَّاقِ) إِلَّا أَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ؛ إِذِ الرِّزْقُ يَتَنَاوَلُ القُوتَ وَغَيرَ القُوتِ، والقُوتُ مَا يُكْتَفَى بِهِ فِي قَوَامِ البَدَنِ.
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى المُسْتَوْلِي عَلَى الشَيْءِ، القَادِرِ عَلَيهِ، والاسْتِيلَاءُ يَتِمُّ بِالقُدْرَةِ وَالعِلْمِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾ [النساء: 85]؛ أَيْ: مُطَّلِعًا قَادِرًا، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ رَاجِعًا إِلَى القُدْرَةِ وَالعِلْمِ.
أَمَّا العِلْمُ فَقَدْ سَبَقَ، وَأَمَّا القُدْرَةُ فَسَتَأْتِي، وَيَكُونُ بِهَذَا المَعْنَى وَصْفُهُ بِـ: (المُقِيتِ) أَتَمَّ مِنْ وَصْفِهِ بِالقَادِرِ وَحْدَهُ وِبِالعَالِمِ وَحْدَهُ، لَأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى اجْتِمَاعِ المُعْنَيَيْنِ، وَبِذَلِكَ يَخْرُجُ هَذَا الاسْمُ عَنِ التَّرَادُفِ» اهـ[11].
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِي رحمه الله: «المُقِيتُ الَّذِي أَوْصَلَ إِلَى كُلِّ مَوْجُودٍ مَا بِهِ يَقْتَاتُ، وَأَوْصَلَ إِلَيْهَا أَرْزَاقَهَا، وَصَرَّفَهَا كَيفَ يَشَاءُ بِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ»[12].
ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذَا الاسْمِ:
1- إِنَّ اللهَ هُوَ (المُقِيتُ)؛ أَيِ: القَدِيرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي (القَدِيرِ) إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
2- إِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى هُوَ المُعْطِي لأَقْوَاتِ الخَلْقِ، صِغِيرِهُمْ وَكَبِيرِهُمْ، قَوِيِّهُمْ وَضَعِيفِهِمْ، غَنِيِّهِمْ وَفقِيرِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6].
وَقَدْ قَدَّرَ اللهُ ذَلِكَ كُلَّهُ عِنْدَ خَلْقِهِ للأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ [فصلت: 10].
قَالَ ابِنُ كَثِيرٍ: «﴿ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ﴾، وَهُوَ مَا يَحْتَاجُ أَهْلُهَا إِلَيْهِ مِنَ الأَرْزَاقِ وَالأَمَاكِنِ الَّتِي تُزْرَعُ وَتُغْرَسُ»[13].
وَقَالَ القُرْطُبِي: «مَعْنَى ﴿ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ﴾؛ أَيْ: أَرْزَاقُ أَهْلِهَا، وَمَا يَصْلُحُ لِمَعَايِشِهِم مِنَ التِّجَارَاتِ والأَشْجَارِ والمَنَافِعِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي الأُخْرَى؛ لِيَعِيشَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالتِّجَارَةِ وَالأَسْفَارِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ»[14].
3- قَالَ القُرْطُبِي فِي الأَسْنَى: «وَقَدْ يَقُوتُ الأَرْوَاحَ إِدَامَةُ المُشَاهَدَةِ، وَلَذِيذُ الُمؤَانَسَةِ، قَالَ اللهُ عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ [يونس: 9][15].
هَذَا أَحدُ أَوْجُهِ قَوْلِهِ؛ «إِنِّي لَسْتُ كَهَيئَتِكُمْ؛ إِنِّي أَبِيتُ يُطعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي»[16].
وَأَنْشَدُوا:
فَقَوَتُ الرُّوحِ أَرْوَاحُ الَمعَانِي
وَلَيْسَ بِأَنْ طَعِمْتَ وَأَنْ شَرِبْتَ
فَلِكُلِّ مَخْلُوقٍ قُوتٌ؛ فَالأَبْدَانُ قُوتُهَا الَمأْكُولُ والَمشْرُوبُ، وَالأَرْوَاحُ قُوتُهَا العُلومُ، وَقُوتُ الَملَائِكَةِ التَّسْبِيحُ، وَبِالجُمْلَةِ فَاللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ المُقِيتُ لِعِبَادِهِ، الحَافِظُ لَهُمْ، وَالشَّاهِدُ لِأَحْوَالِهمْ، وَالمُطَّلِعُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الاسْمُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ.
فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لَا قَائِمَ بِمَصَالِحِ العِبَادِ إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ الَّذِي يَقُوتُهُم وَيَرْزُقُهُم.
وَأَفْضَلُ رزْقٍ يَرْزُقُهُ اللهُ العَقْلَ، فَمَنْ رَزَقَهُ العَقْلَ أَكْرَمَهُ، وَمَنْ حَرَمَهُ ذَلِكَ فَقَدْ أَهَانَهُ»؛ اهـ[17].
الدِّلَالَاتُ اللُّغَوِيَّةُ لاسْمِ (المُقِيتِ):
المُقِيتُ اسْمُ فَاعِل للمَوْصُوفِ بالإِقَاتَةِ، فِعْلُهُ أَقَاتَ، وَأَصْلُهُ قَات يَقُوتُ قُوتًا.
والقُوتُ لُغَةً هُوَ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ مِنَ الرِّزقِ، تَقُولُ: قَاتَ الرَّجُلَ وَأَقَاتَهُ؛ أَيْ: أَعْطَاهُ قُوتَهُ، وَالمَصْدَرُ القُوتُ، وَهُوَ المُدَّخَرُ المَحْفُوظُ الَّذِي يُقْتَاتُ مِنْهُ حِينَ الحَاجَةِ.
وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرُو رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كَفَى بِالمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ»[1].
وَالمُقِيتُ سُبْحَانَهُ هُوَ المُقْتَدِرُ الَّذِي خَلَقَ الأَقْوَاتَ، وَتَكَفَّلَ بِإِيصَالِهَا إِلَى الخَلْقِ، وَهُوَ حَفِيظٌ عَلَيْهَا، فَيُعْطِي كُلَّ مَخْلُوقٍ قُوتَهُ وَرِزْقَهُ عَلَى مَا حَدَّدَهُ سُبْحَانَهُ مِنْ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، أَوْ كَمٍّ أَوْ كَيْفٍ، وَبِمُقْتَضَى المَشِيئَةِ وَالحِكْمَةِ، فَرُبَّمَا يُعْطِي المَخْلُوقَ قُوتًا يَكْفِيهِ لِأَمَدٍ طَوْيلٍ أَوْ قَصِيرٍ كَيَومٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ، وَرُبَّمَا يَبْتَلِيهِ فَلَا يَحْصُلُ عَلَيْهِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ وَكُلْفَةٍ.
وَاللهُ عز وجل خَلَقَ الأَقْوَاتَ عَلَى مُخْتَلَفِ الأَنْوَاعِ وَالأَلْوَانِ، وَيَسَّرَ أَسْبَابَ نَفْعِهَا لِلإِنْسَانِ وَالحَيَوَانِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأنعام: 141].
وَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ المُقِيتُ الَّذِي يُوَفِّي كَامِلَ الرِّزْقِ لِلإِنْسَانِ وَالحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ أَيْضًا مُقِيتُ القُلُوبِ بِالمَعْرِفَةِ وَالإِيمَانِ، وَهُوَ الحَافِظُ لِأَعْمَالِ العِبَادِ بِلَا نُقْصَانٍ وَلَا نِسْيَانٍ[2].
قَالَ البَيْهَقِيُّ فِي تَفْسِيرِ الاسْمِ: «الُمقِيتُ هُوَ المُقْتَدِرُ؛ فَيَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى صِفَةِ القُدْرَةِ، وَقِيلَ: المُقِيتُ الحَفِيظُ، وَقِيلَ: هُوَ مُعْطِي القُوتِ فَيَكُونَ مِنْ صِفَاتِ الفِعْلِ»[3].
وُرُودُهُ فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ:
وَرَدَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾ [النساء: 85].
المَعْنَى فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى:
قَالَ ابنُ جَرِيرٍ رحمه الله: «اخْتَلَفَ أَهْلُ التَأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾ [النساء: 85].
فَقَالَ بَعْضُهُم تأَوْيِلُهُ: وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظًا وَشَهِيدًا.
وَقَالَ آخَرُوُنَ مَعْنَى ذَلِكَ: القَائِمُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ بِالتَّدْبِيرِ، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ القَدِيرُ».
ثُمَّ قَالَ: «والصَّوَابُ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ، قَولُ مَنْ قَالَ: مَعْنَى المُقِيتِ، القَدِيرُ، وَذَلِكَ فِيمَا يُذْكَرُ كَذَلِكَ بِلُغَةِ قُرَيشٍ، وَيُنْشَدُ لِلزُّبَيرِ بنِ عَبدِ المُطَّلَبِ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
وَذِي ضغنٍ كَففْتُ النَّفْسَ عَنْهُ
وَكُنْتُ عَلَى مَسَاءَتِهِ مُقِيتًا
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنْهُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «كَفَي باِلمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يُقِيتُ»[4]. وَفِي رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهَا «يُقِيتُ» يَعْنِي: مَنْ هُوَ تَحْتَ يَدَيْهِ وَفِي سُلْطَانِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، فَيَقْدُرُ لَهُ قُوتَهُ، يُقَالُ مِنْهُ أَقَاتَ فُلَانُ الشَّيْءَ يُقِيتُهُ إِقَاتَةً، وَقَاتَهُ يَقُوتُهُ قِيَاتَةً، وَالقُوتُ الاسْمُ.
وَاخْتَارَ أَنَّ مَعْنَى (المُقِيتِ): القَدِيرُ، الفَرَّاءُ[5]، وَالخَطَّابِيُّ[6]، وَابنُ قُتَيْبَةَ[7].
قَالَ ابنُ العَرَبِيِّ: «وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ: إِنَّهُ بِمَعْنَى (القَادِرِ)، وَلَيْسَ فِيهِ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ مِنَ السَّمَاعِ، فَلَوْ رَجَعْنَا إِلَى الاسْتِقْرَاءِ، وَتَتَبُّعِ مَسَالِكِ النَّظَرِ، لَجَعَلْنَاهُ فِي مَوَارِدِهِ كُلِّهَا بِمَعْنَى القُوتِ، َولَكِنَّ السَّمَاعَ يَقْضِي عَلَى النَّظَرِ.
وَعَلَى القَوْلِ بَأَنَّهُ (القَادِرُ) يَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ.
وَإِنْ قُلْنَا إِنَّهُ اسْمٌ للَّذِي يُعْطِي القُوتَ فَهُوَ اسْمٌ لِلْوَهَّابِ وَالرَّزَّاق، وَيَكُونُ مِنْ صِفَاتِ الأَفْعَالِ» اهـ[8].
وَقَالَ القُرْطُبِيُّ: «بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ المَعْنَى اللُّغَوِيَّ: فَالمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعْطِي كُلَّ إِنْسَانٍ وَحَيَوَانٍ قُوتَهُ عَلَى مَرِّ الأَوْقَاتِ، شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَهُوَ يَمُدُّها فِي كُلِّ وَقْت بِمَا جَعَلَهُ قِوَامًا لَهَا، إِلَى أَنْ يُرِيدُ إِبْطَالَ شَيْءٍ مِنْهَا فَيَحْبِسُ عَنْهُ مَا جَعَلَهُ مَادَّةً لِبَقَائِهِ فَيَهْلَكُ». اهـ[9].
وَقَالَ فِي التَّفْسِيرِ: «وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: «المُقِيتُ: الحَافِظُ»، وَقَالَ الكِسَائِيُّ: «الُمِقيتُ: المقتدرُ».
وَقَالَ النَّحَّاسُ: «وَقَولُ أِبِي عُبَيْدَةَ أَوْلَى؛ لَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ القُوتِ، والقُوتُ مَعْنَاهُ مِقْدَارُ مَا يَحْفَظُ الإِنْسَانَ»[10].
وَفِي المَقْصِدِ: «المُقِيتُ مَعْناهُ خَالِقُ الأَقْوَاتِ، وَمَوَصِّلُهَا إِلَى الأَبْدَانِ وَهِي الأَطْعِمَةُ، وَإِلَى القُلُوبِ وَهِي المَعْرِفَةُ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى (الرَّزَّاقِ) إِلَّا أَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ؛ إِذِ الرِّزْقُ يَتَنَاوَلُ القُوتَ وَغَيرَ القُوتِ، والقُوتُ مَا يُكْتَفَى بِهِ فِي قَوَامِ البَدَنِ.
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى المُسْتَوْلِي عَلَى الشَيْءِ، القَادِرِ عَلَيهِ، والاسْتِيلَاءُ يَتِمُّ بِالقُدْرَةِ وَالعِلْمِ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ﴾ [النساء: 85]؛ أَيْ: مُطَّلِعًا قَادِرًا، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ رَاجِعًا إِلَى القُدْرَةِ وَالعِلْمِ.
أَمَّا العِلْمُ فَقَدْ سَبَقَ، وَأَمَّا القُدْرَةُ فَسَتَأْتِي، وَيَكُونُ بِهَذَا المَعْنَى وَصْفُهُ بِـ: (المُقِيتِ) أَتَمَّ مِنْ وَصْفِهِ بِالقَادِرِ وَحْدَهُ وِبِالعَالِمِ وَحْدَهُ، لَأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى اجْتِمَاعِ المُعْنَيَيْنِ، وَبِذَلِكَ يَخْرُجُ هَذَا الاسْمُ عَنِ التَّرَادُفِ» اهـ[11].
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السَّعْدِي رحمه الله: «المُقِيتُ الَّذِي أَوْصَلَ إِلَى كُلِّ مَوْجُودٍ مَا بِهِ يَقْتَاتُ، وَأَوْصَلَ إِلَيْهَا أَرْزَاقَهَا، وَصَرَّفَهَا كَيفَ يَشَاءُ بِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ»[12].
ثَمَرَاتُ الإِيمَانِ بِهَذَا الاسْمِ:
1- إِنَّ اللهَ هُوَ (المُقِيتُ)؛ أَيِ: القَدِيرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَسَيَأْتِي بَسْطُ الكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي (القَدِيرِ) إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
2- إِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى هُوَ المُعْطِي لأَقْوَاتِ الخَلْقِ، صِغِيرِهُمْ وَكَبِيرِهُمْ، قَوِيِّهُمْ وَضَعِيفِهِمْ، غَنِيِّهِمْ وَفقِيرِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [هود: 6].
وَقَدْ قَدَّرَ اللهُ ذَلِكَ كُلَّهُ عِنْدَ خَلْقِهِ للأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ [فصلت: 10].
قَالَ ابِنُ كَثِيرٍ: «﴿ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ﴾، وَهُوَ مَا يَحْتَاجُ أَهْلُهَا إِلَيْهِ مِنَ الأَرْزَاقِ وَالأَمَاكِنِ الَّتِي تُزْرَعُ وَتُغْرَسُ»[13].
وَقَالَ القُرْطُبِي: «مَعْنَى ﴿ وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ﴾؛ أَيْ: أَرْزَاقُ أَهْلِهَا، وَمَا يَصْلُحُ لِمَعَايِشِهِم مِنَ التِّجَارَاتِ والأَشْجَارِ والمَنَافِعِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي الأُخْرَى؛ لِيَعِيشَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالتِّجَارَةِ وَالأَسْفَارِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ»[14].
3- قَالَ القُرْطُبِي فِي الأَسْنَى: «وَقَدْ يَقُوتُ الأَرْوَاحَ إِدَامَةُ المُشَاهَدَةِ، وَلَذِيذُ الُمؤَانَسَةِ، قَالَ اللهُ عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ [يونس: 9][15].
هَذَا أَحدُ أَوْجُهِ قَوْلِهِ؛ «إِنِّي لَسْتُ كَهَيئَتِكُمْ؛ إِنِّي أَبِيتُ يُطعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي»[16].
وَأَنْشَدُوا:
فَقَوَتُ الرُّوحِ أَرْوَاحُ الَمعَانِي
وَلَيْسَ بِأَنْ طَعِمْتَ وَأَنْ شَرِبْتَ
فَلِكُلِّ مَخْلُوقٍ قُوتٌ؛ فَالأَبْدَانُ قُوتُهَا الَمأْكُولُ والَمشْرُوبُ، وَالأَرْوَاحُ قُوتُهَا العُلومُ، وَقُوتُ الَملَائِكَةِ التَّسْبِيحُ، وَبِالجُمْلَةِ فَاللهُ سُبْحَانَهُ هُوَ المُقِيتُ لِعِبَادِهِ، الحَافِظُ لَهُمْ، وَالشَّاهِدُ لِأَحْوَالِهمْ، وَالمُطَّلِعُ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الاسْمُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ.
فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لَا قَائِمَ بِمَصَالِحِ العِبَادِ إِلَّا اللهُ سُبْحَانَهُ، وَأَنَّهُ الَّذِي يَقُوتُهُم وَيَرْزُقُهُم.
وَأَفْضَلُ رزْقٍ يَرْزُقُهُ اللهُ العَقْلَ، فَمَنْ رَزَقَهُ العَقْلَ أَكْرَمَهُ، وَمَنْ حَرَمَهُ ذَلِكَ فَقَدْ أَهَانَهُ»؛ اهـ[17].