Şøķåŕą
02-18-2024, 02:16 PM
يقول الشيخ حافظ حكمي - رحمه الله - في تَتمة بيان أهوال يوم القيامة، ومآل الناس إلى الجَنَّة أو النار:
196- وَنُشِرَتْ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ
تُؤْخَذُ بِالْيَمِينِ وَالشِّمَالِ
197- طُوبَى لِمَنْ يَأْخُذُ بِالْيَمِينِ
كِتَابَه بُشْرَى بِحُورٍ عِينِ
198- وَالْوَيْلُ لِلآخِذِ بِالشِّمَالِ
وَرَاءَ ظَهْرٍ لِلْجَحِيمِ صَالِي
199- وَالْوَزْنُ بِالقِسْطِ فَلاَ ظُلْمَ وَلاَ
يُؤْخَذُ عَبْدٌ بِسِوَى مَا عَمِلاَ
200- فبَيْنَ نَاجٍ رَاجِحٍ مِيزَانُهُ
وَمُقْرِفٍ أَوْبَقَهُ عُدْوَانُهُ
201- وَيُنْصَبُ الْجِسْرُ بِلاَ امْتِرَاءِ
كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الأَنْبَاءِ
202- يَجُوزُهُ النَّاسُ عَلَى أَحْوَالِ
بِقَدْر كَسْبِهِمْ مِنَ الأَعْمَالِ
203- فَبَيْنَ مُجْتَازٍ إِلَى الْجِنَانِ
وَمُسْرِفٍ يُكَبُّ فِي النِّيرَانِ
في هذا اليوم الرهيب ذي الأهوال، يتضح كلُّ شيء على حقيقته المجرَّدة، ويعلم المكذب أنَّه خاسر، ويعلم الصالِح أنه أحسن حينما جاهَد نفسه وتمسَّك بصلاحه؛ بل ويندم على أنه لم يغتنمْ كلَّ لحظة من حياته في الازدياد من الطاعات والقُربات.
ويتناول الناس كتبَهم وصحائف أعمالهم؛ ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ﴾ [الحاقة: 19- 32]، ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا ﴾ [الانشقاق: 7-12]، وعندئذٍ يوزن الناسُ وأعمالهم على ميزان حقيقي ذي كِفَّتين؛ ﴿ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ [القارعة: 7 -11].
وعمَل العَبْد يُوزن، والعبْد كذلك يُوزَن، كما وردتْ بذلك الآثار.
والناس يومئذٍ فريقان: فريق في الجَنَّة ناجٍ مسرور، يحمد الله على نِعْمته، وفريقٌ في السَّعير يعلم أنَّه ما أهلكه إلا عملُه، واتِّباعه للهوى والشيطان، ويقرُّ في سويداء قلبه بحمد الله على عدله وحِكمته.
ويُضرب الجسر، وهو الصِّراط على متن جهنم، ويَعْبُره كل الخلق، وهو (دحْض مزلَّة) كما جاء في الحديث، حين يشفع النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فيقوم فيُؤذَن له، وتُرسل الأمانة والرَّحِم، فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشِمالاً، فيمر أوَّلُكم كالبرق، فقيل: بأبي أنت وأمي، أيُّ شيءٍ كمر البرق؟ قال: ألَم ترَوْا إلى البرق كيف يمرُّ ويرجع في طرْفة عين؟ ثم كمرِّ الريح، ثم كمرِّ الطير، وشد الرجال تجرِي بهم أعمالُهم، ونبيُّكم قائمٌ على الصراط يقول: ربِّ سلِّم سلِّم، حتى تعجز أعمالُ العباد، حتى يجيءَ الرجل فلا يستطيع السيرَ إلا زحفًا، قال: وفي حافتي الصراط كلاليبُ معلَّقة، مأمورة بأخْذ مَن أُمِرت به؛ فمخدوش ناجٍ، ومكدوس في النار))؛ رواه مسلم.
وهنالك يَمتطي الصالحون نجائبَ أعمالهم فيَعْبُرون، ويتخلَّف المتخلِّفون المقصِّرون، والمذنبون الظالمون.
يقول الشيخ - رحمه الله -:
204- وَالنَّارُ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَهُمَا
مَوْجُودَتَانِ لاَ فَنَاءَ لَهُمَا
وهذا تقرير منه - رحمه الله - لعقيدة أهل السنَّة: أنَّ الجنة والنار مخلوقتان، موجودتان، ولا تفنيان.
قال الشيخ - رحمه الله -:
205- وَحَوْضُ خَيْرِ الْخَلْقِ حَقٌّ وَبِِهِ
يَشْرَبُ فِي الأُخْرَى جَمِيعُ حِزْبِهِ
206- كَذَا لَهُ لِوَاءُ حَمْدٍ يُنْشَرُ
وَتَحْتَهُ الرُّسْلُ جَمِيعًا تُحْشَرُ
207- كَذَا لَهُ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى كَمَا
قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا تَكَرُّمَا
208- مِنْ بَعْدِ إِذْنِ اللَّهِ لاَ كَمَا يَرَى
كُلُّ قُبُورِيٍّ عَلَى اللَّهِ افْتَرَى
209- يَشْفَعُ أَوَّلاً إِلَى الرَّحْمَنِ فِي
فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ
210- مِنْ بَعْدِ أَنْ يَطلُبَهَا النَّاسُ إِلَى
كُلِّ أُولِي الْعَزْمِ الْهُدَاةِ الْفُضَلاَ
211- وَثَانيًا يَشْفَعُ فِي اسْتِفْتَاحِ
دَارِ النَّعْيمِ لِأُولِي الْفَلاَحِ
212- هَذَا وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ
قَدْ خُصَّتَا بِهِ بِلاَ نُكُرَانِ
213- وَثَالثًا يَشْفَعُ فِي أَقْوامِ
مَاتُوا عَلَى دِينِ الْهُدَى الإِسْلاَمِ
214- وَأَوْبَقَتْهُمْ كَثْرَةُ الآثَامِ
فَأُدْخِلُوا النَّارَ بِذَا الإِجْرَامِ
215- أَنْ يُخْرَجُوا مِنْهَا إِلَى الْجِنَانِ
بِفَضْلِ رَبِّ الْعَرْشِ ذِي الإِحْسَانِ
216- وَبَعْدَهُ يَشْفَعُ كُلُّ مُرْسَلِ
وَكُلُّ عَبْدٍ ذِي صَلاَحٍ وَوَلِي
217- وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النِّيرَانِ
جَمِيعَ مَنْ مَاتَ عَلَى الإِيمَانِ
218- فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ يُطْرَحُونَا
فَحْمًا فَيَحْيَوْنَ وَيَنْبُتُونَا
219- كَأَنَّمَا يَنبُتُ فِي هَيْئَاتِهِ
حَبُّ حَمِيلِ السَّيْلِ فِي حَافَاتِهِ
كذلك نؤمِن بالحَوْض، وأنه حقٌّ، ومنه يَسقي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المؤمنين، فلا يظمؤون بعدَها، وأما من يُذادون عن الحوض، فهُم الذين أحْدثوا في الدين ما ليس منه، فيُذادون كما يذاد البعير الضال، فيناديهم النبي: ((أَلاَ هَلُمَّ، فيُقالُ: إنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فيقول: سُحْقًا سُحْقًا))؛ رواه مسلم.
ويُنشَر للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لواءُ الحمد، كما قال: ((أنا سيِّد وَلَدِ آدم يوم القيامة ولا فَخْر، وبيدي لواءُ الحمد ولا فخر، وما مِن نبي يومئذٍ - آدم فمَن سواه - إلا تحتَ لوائي، وأنا أول مَن تنشقُّ عنه الأرض ولا فخر...))؛ "صحيح الترغيب".
أمَّا الشفاعة التي يحتاجها كلُّ أحد يومَ القيامة، فهي على ستَّة أقسام، اختص النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - باثنتين منها:
الأولى: الشفاعةُ الكُبرى في أهل الموقِف جميعًا يوم القيامة؛ حيث يذهب الناس للرُّسل يطلبون منهم الشفاعةَ عند ربهم - سبحانه وتعالى - حتى يقضيَ بينهم، ويخفِّف عنهم هولَ الموقف، فيتراجع عنها كلُّ الأنبياء، كما في حديث الشفاعة في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: حدَّثَنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا كان يومُ القيامة، ماجَ الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون آدمَ فيقولون له: اشفعْ لذريتك، فيقول: لستُ لها، ولكن عليكم بإبراهيم - عليه السلام - فإنَّه خليل الله، فيأتون إبراهيم، فيقول: لستُ لها، ولكن عليكم بموسى - عليه السلام - فإنَّه كليمُ الله، فيُؤتَى موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى - عليه السلام - فإنَّه رُوحُ الله وكلمته، فيُؤتَى عيسى، فيقول: لستُ لها، ولكن عليكم بمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأُوتَى فأقول: أنا لها، فأنطَلِق فأستأذن على ربي فيُؤذن لي، فأقوم بيْن يديه فأحمده بمحامدَ لا أقدِرُ عليهِ الآن، يُلهِمُنِيهِ الله، ثم أخِرُّ له ساجدًا، فيُقال لي: يا محمد، ارفع رأسَك، وقلْ يُسمع لك، وسلْ تُعطَه، واشفع تُشفَّع، فأقول: ربِّ أمَّتي أمَّتي، فيقال: انطلق، فمَن كان في قلْبه مثقالُ حبة من بُرَّة أو شَعيرة من إيمان، فأخرِجْه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربِّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخِرُّ له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد، ارفْع رأسك، وقل يُسمعْ لك، وسلْ تُعطَه، واشفع تشفَّع، فأقول: أمَّتي أمَّتي، فيقال لي: انطلق، فمَن كان في قلبه مثقالُ حبَّة من خرْدل من إيمان فأخرِجْه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربِّي، فأحمده بتلك المحامِد، ثم أخِرُّ له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد، ارْفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسلْ تعطَه، واشفع تُشفَّع، فأقول: يا ربِّ أمَّتي أمَّتي، فيقال لي: انطلق، فمَن كان في قلْبه أدْنى أدْنى أدْنى من مثقال حبَّة مِن خردل من إيمان، فأخرِجْه من النار، فأنطلق فأفعل، ثم أرْجِع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخِرُّ له ساجدًا، فيُقال لي: يا محمد، ارْفع رأسك، وقلْ يُسمعْ لك، وسلْ تُعطَ، واشفع تُشفَّع، فأقول: يا ربِّ، ائذن لي فيمَن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذاك لك - أو قال: ليس ذاك إليك - ولكن وعِزَّتِي وكِبريائي، وعظمتي وجِبريائي، لأُخرِجنَّ من قال: لا إله إلا الله)).
وهاتان الشفاعتان لا يَشرَك النبيَّ فيهما أحدٌ.
ثم هناك شفاعاتٌ أخرى؛ إذ يشفع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في إخْراج أقوام من أهل الإسلام دَخلوا النار؛ لأنَّ أعمالهم قصرتْ عن دخول الجنة، فيشفع فيهم - كما سبق في حديث الشفاعة.
ويكون للرُّسل كذلك نصيبٌ من الشفاعة في مِثْل هؤلاء.
وكذلك الصالِحون، والملائكة.
ثم يقول الله - عزَّ وجلَّ -: ((شفَعتِ الملائكة، وشفَع النبيُّون، وشفع المؤمنون، ولم يبقَ إلا أرحمُ الراحمين، فيقبض قبضةً من النار، فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قطُّ، قد عادوا حُممًا فيُلْقِيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبَّة في حميل السَّيْل، ألا ترونها تكون إلى الحَجَر أو الشجر ما يكون إلى الشَّمْس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظلِّ يكون أبيض، فيخرجون كاللؤلؤ في رِقابهم الخواتيم، يعرفهم أهلُ الجنة: هؤلاء عُتقاءُ الله من النار، الذين أدخلهم الجنة بغيْر عملٍ عملوه، ولا خيرٍ قدَّموه))؛ "صحيح الجامع".
قال الشيخ - رحمه الله -:
220- وَالسَّادِسُ الإِيمَانُ بِالأَقْدَارِ
فَأَيْقِنَنْ بِِهَا وَلاَ تُمَارِ
221- فَكُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرْ
وَالْكُلُّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ مُسْتَطَرْ
222- لاَ نَوْءَ لاَ عَدْوَى وَلاَ طَيْرَ وَلاَ
عَمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى حِوَلاَ
223- لاَ غُولَ لاَ هَامَةَ لاَ وَلاَ صَفَرْ
كَمَا بِذَا أَخْبَرَ سَيِّدُ الْبَشَرْ
الإيمان بالقدر هو الرُّكن السادس مِن أركان الإيمان، قال ابن عمر - ردًّا على مَن زعم أنْ لا قَدَر -: "والذي يَحلِف به عبدُالله بن عمر، لو أنَّ لأحدِهم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا فأنْفَقه، ما قَبِل الله منه حتى يؤمِنَ بالقدر"، ومعظم الناس على جهْل بعدَد أركان الإيمان، فضلاً عن معرِفة أسمائها، بلَهْ إدراك تفاصيلها.
وأذكُر أنِّي كنت راكبًا يومًا في سيَّارة، رُكَّابها سبعة، وانطلق الحديثُ بيننا، ورأيتهم يتكلَّمون ويسألون متندِّرين أسئلةً لا فائدةَ منها، فسألتهم: ما أرْكان الإيمان؟ فلم يُجِب منهم واحدٌ الإجابةَ الصحيحة، فمِنهم مَن أتى باثنين، وخلط في الباقي، ومِنْهم مَن ذَكَر أركان الإسلام، ولم يُصِبْ واحدٌ منهم! فانظر كيف جهِلوا هذا العلم الضروري، وانظر أين ذهبتِ الأمَّة الإسلامية في عصر تشدَّق فيه التقدميُّون (كما زعموا) بالحضارة والمدنية، ظانِّين أنَّ الدِّين هو سببُ تخلُّفهم، وما تخلَّفوا إلا لَمَّا خلَّفوا الدِّين وراءَهم.
مراتب الإيمان بالقدر:
1- الإيمان بعِلْم الله السابق:
قال - تعالى -: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40]، واللهُ - عزَّ وجلَّ - علِم كلَّ شيء كان، وما سيكون، وما لم يكنْ لو كان كيف يكون، قال - تعالى -: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28]، وعَلِم ما في النفوس والضمائر، وعَلِم شقاوةَ العباد وسعادتهم قبلَ أن يفْعلوا ما يستحقُّون عليه العذابَ أو الثواب.
2- الإيمان بكتابة المقادير:
قال - تعالى -: ﴿ وعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِين ﴾ [الأنعام: 59]، وقد ورد في الحديث: ((إِنَّ أوَّلَ ما خَلَق الله القَلَم، فقال له: اكتب، قال: ربِّ، وماذا أكتُب؟ قال: اكتُب مقاديرَ كلِّ شيء حتى تقوم الساعة))؛ "صحيح أبي داود".
والكتاب كتابان: اللَّوْح المحفوظ، وهو ثابت لا يتغيَّر، وكُتُب أخرى مُسْتَنسخه منه؛ قال - تعالى -: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39]، وهناك كتاباتٌ أخرى: والعَبْد نُطْفة، وعند النَّفْخ في الرُّوح، وكتابةٌ سَنويَّة في ليلة القدر.
وقد كفَّر الصحابةُ منكري هاتين المرتبتَيْن من غُلاة القدرية.
3- الإيمان بمشيئة الله الشاملة:
فكلُّ شيء في هذا الكون بمشيئة الله - عزَّ وجلَّ - النافِذة الشاملة ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ﴾ [الأنعام: 125].
وإرادة الله نوعان:
- إرادة كونية: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، وتشمل كلَّ ما يحبُّه الله وما لا يحبُّه، فمثلاً أراد الله كونًا أن يُسلِّط الكافرين على المؤمنين، ويكون ذلك ابتلاءً للمؤمنين فيرفع الله دَرجاتِهم بصبرِهم.
- وإرادة شرعية، وتشمل ما يحبُّه الله ويرضاه للعباد: كصلاتهم، وصيامهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكَر.
4- الإيمان بخَلْق الله لأفعال العباد ومشيئتهم:
وهذا بابٌ ضلَّ فيه كثيرٌ من الناس، قال - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، وقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّها بَيْن إِصْبَعَيْنِ مِن أَصابِعِ الرَّحْمن كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشاء))، ثُمَّ قال رسولُ اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنا على طاعَتِك))؛ رواه مسلم.
ولا يَنفي ذلك أنَّ للعباد قدرةً ومشيئة تقَع بها أفعالُهم؛ قال - تعالى -: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 28 - 29].
والله - عزَّ وجلَّ - ييسِّر الأعمال لطالبيها، وقد أخْبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الصحابة أنَّ كلَّ شيء مكتوبٌ في قدر سابِق نافذ، قالوا: يا رسولَ اللَّه، فَلِمَ نَعْمَلُ، أَفَلاَ نَتَّكِلُ؟ قال: ((لا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ))، ثُمَّ قَرأ ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ إِلَى قَوْله: ﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 - 10].
فإذا أراد العبدُ الهدايةَ يسَّرها الله له، وإذا اختار الغَوايةَ، يسَّرها الله له.
قال الشيخ - رحمه الله -:
224- وَثَالِثٌ مَرْتَبَةُ الإِحْسَانِ
وَتِلْكَ أَعْلاَهَا لَدَى الرَّحْمَنِ
225- وَهْوَ رُسُوخُ الْقَلْبِ فِي الْعِرْفَانِ
حَتَّى يَكُونَ الْغَيْبُ كَالعِيَانِ
هذه هي المرْتبة العالية، والدرجة السامية، وتكون بعدَ استكمال الإسلام والإيمان، ولا تكون إلا لعبدٍ عبدَ اللهَ - عزَّ وجلَّ - وراقَبه، واستشعر أُنْسه ومعيته، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، حتى يصيرَ إذا صلَّى كأنه يرَى ربه ويَشْهَده، كما جاء في حديث جبريل - الذي ما زِلْنا معه - لَمَّا سأل النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الإحسان، قال: ((أنْ تَعبدَ الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنَّه يراك))، وهذا ما كمَّله السلف الصالح - رضوان الله عليهم - حتى إنَّ قارئ سِيَرهم يجد مِن فضْل عبادتهم وزُهدهم، ومراقبتهم وتوكُّلهم، وإخباتهم، العجبَ العجاب، وحتى صار الواحدُ منهم كالجبل الأشمِّ في رُسوخ الإيمان، قلوبهم بيضاء مِثْل الصَّفا لا تضرُّها فِتنة ما دامتِ السموات والأرض.
فاللهمَّ ارزقْنا صحبتهم، ومرافقتهم مع نبيِّك - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الجَنَّة.
وفَّقنا الله وإيَّاكم لما يحبُّ ويرْضى، وللحديث بقية - إنْ شاء الله.
196- وَنُشِرَتْ صَحَائِفُ الأَعْمَالِ
تُؤْخَذُ بِالْيَمِينِ وَالشِّمَالِ
197- طُوبَى لِمَنْ يَأْخُذُ بِالْيَمِينِ
كِتَابَه بُشْرَى بِحُورٍ عِينِ
198- وَالْوَيْلُ لِلآخِذِ بِالشِّمَالِ
وَرَاءَ ظَهْرٍ لِلْجَحِيمِ صَالِي
199- وَالْوَزْنُ بِالقِسْطِ فَلاَ ظُلْمَ وَلاَ
يُؤْخَذُ عَبْدٌ بِسِوَى مَا عَمِلاَ
200- فبَيْنَ نَاجٍ رَاجِحٍ مِيزَانُهُ
وَمُقْرِفٍ أَوْبَقَهُ عُدْوَانُهُ
201- وَيُنْصَبُ الْجِسْرُ بِلاَ امْتِرَاءِ
كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الأَنْبَاءِ
202- يَجُوزُهُ النَّاسُ عَلَى أَحْوَالِ
بِقَدْر كَسْبِهِمْ مِنَ الأَعْمَالِ
203- فَبَيْنَ مُجْتَازٍ إِلَى الْجِنَانِ
وَمُسْرِفٍ يُكَبُّ فِي النِّيرَانِ
في هذا اليوم الرهيب ذي الأهوال، يتضح كلُّ شيء على حقيقته المجرَّدة، ويعلم المكذب أنَّه خاسر، ويعلم الصالِح أنه أحسن حينما جاهَد نفسه وتمسَّك بصلاحه؛ بل ويندم على أنه لم يغتنمْ كلَّ لحظة من حياته في الازدياد من الطاعات والقُربات.
ويتناول الناس كتبَهم وصحائف أعمالهم؛ ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ﴾ [الحاقة: 19- 32]، ﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا ﴾ [الانشقاق: 7-12]، وعندئذٍ يوزن الناسُ وأعمالهم على ميزان حقيقي ذي كِفَّتين؛ ﴿ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ [القارعة: 7 -11].
وعمَل العَبْد يُوزن، والعبْد كذلك يُوزَن، كما وردتْ بذلك الآثار.
والناس يومئذٍ فريقان: فريق في الجَنَّة ناجٍ مسرور، يحمد الله على نِعْمته، وفريقٌ في السَّعير يعلم أنَّه ما أهلكه إلا عملُه، واتِّباعه للهوى والشيطان، ويقرُّ في سويداء قلبه بحمد الله على عدله وحِكمته.
ويُضرب الجسر، وهو الصِّراط على متن جهنم، ويَعْبُره كل الخلق، وهو (دحْض مزلَّة) كما جاء في الحديث، حين يشفع النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فيقوم فيُؤذَن له، وتُرسل الأمانة والرَّحِم، فتقومان جنبتي الصراط يمينًا وشِمالاً، فيمر أوَّلُكم كالبرق، فقيل: بأبي أنت وأمي، أيُّ شيءٍ كمر البرق؟ قال: ألَم ترَوْا إلى البرق كيف يمرُّ ويرجع في طرْفة عين؟ ثم كمرِّ الريح، ثم كمرِّ الطير، وشد الرجال تجرِي بهم أعمالُهم، ونبيُّكم قائمٌ على الصراط يقول: ربِّ سلِّم سلِّم، حتى تعجز أعمالُ العباد، حتى يجيءَ الرجل فلا يستطيع السيرَ إلا زحفًا، قال: وفي حافتي الصراط كلاليبُ معلَّقة، مأمورة بأخْذ مَن أُمِرت به؛ فمخدوش ناجٍ، ومكدوس في النار))؛ رواه مسلم.
وهنالك يَمتطي الصالحون نجائبَ أعمالهم فيَعْبُرون، ويتخلَّف المتخلِّفون المقصِّرون، والمذنبون الظالمون.
يقول الشيخ - رحمه الله -:
204- وَالنَّارُ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَهُمَا
مَوْجُودَتَانِ لاَ فَنَاءَ لَهُمَا
وهذا تقرير منه - رحمه الله - لعقيدة أهل السنَّة: أنَّ الجنة والنار مخلوقتان، موجودتان، ولا تفنيان.
قال الشيخ - رحمه الله -:
205- وَحَوْضُ خَيْرِ الْخَلْقِ حَقٌّ وَبِِهِ
يَشْرَبُ فِي الأُخْرَى جَمِيعُ حِزْبِهِ
206- كَذَا لَهُ لِوَاءُ حَمْدٍ يُنْشَرُ
وَتَحْتَهُ الرُّسْلُ جَمِيعًا تُحْشَرُ
207- كَذَا لَهُ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى كَمَا
قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا تَكَرُّمَا
208- مِنْ بَعْدِ إِذْنِ اللَّهِ لاَ كَمَا يَرَى
كُلُّ قُبُورِيٍّ عَلَى اللَّهِ افْتَرَى
209- يَشْفَعُ أَوَّلاً إِلَى الرَّحْمَنِ فِي
فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ
210- مِنْ بَعْدِ أَنْ يَطلُبَهَا النَّاسُ إِلَى
كُلِّ أُولِي الْعَزْمِ الْهُدَاةِ الْفُضَلاَ
211- وَثَانيًا يَشْفَعُ فِي اسْتِفْتَاحِ
دَارِ النَّعْيمِ لِأُولِي الْفَلاَحِ
212- هَذَا وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ
قَدْ خُصَّتَا بِهِ بِلاَ نُكُرَانِ
213- وَثَالثًا يَشْفَعُ فِي أَقْوامِ
مَاتُوا عَلَى دِينِ الْهُدَى الإِسْلاَمِ
214- وَأَوْبَقَتْهُمْ كَثْرَةُ الآثَامِ
فَأُدْخِلُوا النَّارَ بِذَا الإِجْرَامِ
215- أَنْ يُخْرَجُوا مِنْهَا إِلَى الْجِنَانِ
بِفَضْلِ رَبِّ الْعَرْشِ ذِي الإِحْسَانِ
216- وَبَعْدَهُ يَشْفَعُ كُلُّ مُرْسَلِ
وَكُلُّ عَبْدٍ ذِي صَلاَحٍ وَوَلِي
217- وَيُخْرِجُ اللهُ مِنَ النِّيرَانِ
جَمِيعَ مَنْ مَاتَ عَلَى الإِيمَانِ
218- فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ يُطْرَحُونَا
فَحْمًا فَيَحْيَوْنَ وَيَنْبُتُونَا
219- كَأَنَّمَا يَنبُتُ فِي هَيْئَاتِهِ
حَبُّ حَمِيلِ السَّيْلِ فِي حَافَاتِهِ
كذلك نؤمِن بالحَوْض، وأنه حقٌّ، ومنه يَسقي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المؤمنين، فلا يظمؤون بعدَها، وأما من يُذادون عن الحوض، فهُم الذين أحْدثوا في الدين ما ليس منه، فيُذادون كما يذاد البعير الضال، فيناديهم النبي: ((أَلاَ هَلُمَّ، فيُقالُ: إنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فيقول: سُحْقًا سُحْقًا))؛ رواه مسلم.
ويُنشَر للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لواءُ الحمد، كما قال: ((أنا سيِّد وَلَدِ آدم يوم القيامة ولا فَخْر، وبيدي لواءُ الحمد ولا فخر، وما مِن نبي يومئذٍ - آدم فمَن سواه - إلا تحتَ لوائي، وأنا أول مَن تنشقُّ عنه الأرض ولا فخر...))؛ "صحيح الترغيب".
أمَّا الشفاعة التي يحتاجها كلُّ أحد يومَ القيامة، فهي على ستَّة أقسام، اختص النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - باثنتين منها:
الأولى: الشفاعةُ الكُبرى في أهل الموقِف جميعًا يوم القيامة؛ حيث يذهب الناس للرُّسل يطلبون منهم الشفاعةَ عند ربهم - سبحانه وتعالى - حتى يقضيَ بينهم، ويخفِّف عنهم هولَ الموقف، فيتراجع عنها كلُّ الأنبياء، كما في حديث الشفاعة في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: حدَّثَنا محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا كان يومُ القيامة، ماجَ الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون آدمَ فيقولون له: اشفعْ لذريتك، فيقول: لستُ لها، ولكن عليكم بإبراهيم - عليه السلام - فإنَّه خليل الله، فيأتون إبراهيم، فيقول: لستُ لها، ولكن عليكم بموسى - عليه السلام - فإنَّه كليمُ الله، فيُؤتَى موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى - عليه السلام - فإنَّه رُوحُ الله وكلمته، فيُؤتَى عيسى، فيقول: لستُ لها، ولكن عليكم بمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأُوتَى فأقول: أنا لها، فأنطَلِق فأستأذن على ربي فيُؤذن لي، فأقوم بيْن يديه فأحمده بمحامدَ لا أقدِرُ عليهِ الآن، يُلهِمُنِيهِ الله، ثم أخِرُّ له ساجدًا، فيُقال لي: يا محمد، ارفع رأسَك، وقلْ يُسمع لك، وسلْ تُعطَه، واشفع تُشفَّع، فأقول: ربِّ أمَّتي أمَّتي، فيقال: انطلق، فمَن كان في قلْبه مثقالُ حبة من بُرَّة أو شَعيرة من إيمان، فأخرِجْه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربِّي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخِرُّ له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد، ارفْع رأسك، وقل يُسمعْ لك، وسلْ تُعطَه، واشفع تشفَّع، فأقول: أمَّتي أمَّتي، فيقال لي: انطلق، فمَن كان في قلبه مثقالُ حبَّة من خرْدل من إيمان فأخرِجْه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربِّي، فأحمده بتلك المحامِد، ثم أخِرُّ له ساجدًا، فيقال لي: يا محمد، ارْفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسلْ تعطَه، واشفع تُشفَّع، فأقول: يا ربِّ أمَّتي أمَّتي، فيقال لي: انطلق، فمَن كان في قلْبه أدْنى أدْنى أدْنى من مثقال حبَّة مِن خردل من إيمان، فأخرِجْه من النار، فأنطلق فأفعل، ثم أرْجِع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخِرُّ له ساجدًا، فيُقال لي: يا محمد، ارْفع رأسك، وقلْ يُسمعْ لك، وسلْ تُعطَ، واشفع تُشفَّع، فأقول: يا ربِّ، ائذن لي فيمَن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذاك لك - أو قال: ليس ذاك إليك - ولكن وعِزَّتِي وكِبريائي، وعظمتي وجِبريائي، لأُخرِجنَّ من قال: لا إله إلا الله)).
وهاتان الشفاعتان لا يَشرَك النبيَّ فيهما أحدٌ.
ثم هناك شفاعاتٌ أخرى؛ إذ يشفع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في إخْراج أقوام من أهل الإسلام دَخلوا النار؛ لأنَّ أعمالهم قصرتْ عن دخول الجنة، فيشفع فيهم - كما سبق في حديث الشفاعة.
ويكون للرُّسل كذلك نصيبٌ من الشفاعة في مِثْل هؤلاء.
وكذلك الصالِحون، والملائكة.
ثم يقول الله - عزَّ وجلَّ -: ((شفَعتِ الملائكة، وشفَع النبيُّون، وشفع المؤمنون، ولم يبقَ إلا أرحمُ الراحمين، فيقبض قبضةً من النار، فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قطُّ، قد عادوا حُممًا فيُلْقِيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبَّة في حميل السَّيْل، ألا ترونها تكون إلى الحَجَر أو الشجر ما يكون إلى الشَّمْس أصيفر وأخيضر، وما يكون منها إلى الظلِّ يكون أبيض، فيخرجون كاللؤلؤ في رِقابهم الخواتيم، يعرفهم أهلُ الجنة: هؤلاء عُتقاءُ الله من النار، الذين أدخلهم الجنة بغيْر عملٍ عملوه، ولا خيرٍ قدَّموه))؛ "صحيح الجامع".
قال الشيخ - رحمه الله -:
220- وَالسَّادِسُ الإِيمَانُ بِالأَقْدَارِ
فَأَيْقِنَنْ بِِهَا وَلاَ تُمَارِ
221- فَكُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرْ
وَالْكُلُّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ مُسْتَطَرْ
222- لاَ نَوْءَ لاَ عَدْوَى وَلاَ طَيْرَ وَلاَ
عَمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى حِوَلاَ
223- لاَ غُولَ لاَ هَامَةَ لاَ وَلاَ صَفَرْ
كَمَا بِذَا أَخْبَرَ سَيِّدُ الْبَشَرْ
الإيمان بالقدر هو الرُّكن السادس مِن أركان الإيمان، قال ابن عمر - ردًّا على مَن زعم أنْ لا قَدَر -: "والذي يَحلِف به عبدُالله بن عمر، لو أنَّ لأحدِهم مثلَ أُحُدٍ ذهبًا فأنْفَقه، ما قَبِل الله منه حتى يؤمِنَ بالقدر"، ومعظم الناس على جهْل بعدَد أركان الإيمان، فضلاً عن معرِفة أسمائها، بلَهْ إدراك تفاصيلها.
وأذكُر أنِّي كنت راكبًا يومًا في سيَّارة، رُكَّابها سبعة، وانطلق الحديثُ بيننا، ورأيتهم يتكلَّمون ويسألون متندِّرين أسئلةً لا فائدةَ منها، فسألتهم: ما أرْكان الإيمان؟ فلم يُجِب منهم واحدٌ الإجابةَ الصحيحة، فمِنهم مَن أتى باثنين، وخلط في الباقي، ومِنْهم مَن ذَكَر أركان الإسلام، ولم يُصِبْ واحدٌ منهم! فانظر كيف جهِلوا هذا العلم الضروري، وانظر أين ذهبتِ الأمَّة الإسلامية في عصر تشدَّق فيه التقدميُّون (كما زعموا) بالحضارة والمدنية، ظانِّين أنَّ الدِّين هو سببُ تخلُّفهم، وما تخلَّفوا إلا لَمَّا خلَّفوا الدِّين وراءَهم.
مراتب الإيمان بالقدر:
1- الإيمان بعِلْم الله السابق:
قال - تعالى -: ﴿ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40]، واللهُ - عزَّ وجلَّ - علِم كلَّ شيء كان، وما سيكون، وما لم يكنْ لو كان كيف يكون، قال - تعالى -: ﴿ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ﴾ [الأنعام: 28]، وعَلِم ما في النفوس والضمائر، وعَلِم شقاوةَ العباد وسعادتهم قبلَ أن يفْعلوا ما يستحقُّون عليه العذابَ أو الثواب.
2- الإيمان بكتابة المقادير:
قال - تعالى -: ﴿ وعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِين ﴾ [الأنعام: 59]، وقد ورد في الحديث: ((إِنَّ أوَّلَ ما خَلَق الله القَلَم، فقال له: اكتب، قال: ربِّ، وماذا أكتُب؟ قال: اكتُب مقاديرَ كلِّ شيء حتى تقوم الساعة))؛ "صحيح أبي داود".
والكتاب كتابان: اللَّوْح المحفوظ، وهو ثابت لا يتغيَّر، وكُتُب أخرى مُسْتَنسخه منه؛ قال - تعالى -: ﴿ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 39]، وهناك كتاباتٌ أخرى: والعَبْد نُطْفة، وعند النَّفْخ في الرُّوح، وكتابةٌ سَنويَّة في ليلة القدر.
وقد كفَّر الصحابةُ منكري هاتين المرتبتَيْن من غُلاة القدرية.
3- الإيمان بمشيئة الله الشاملة:
فكلُّ شيء في هذا الكون بمشيئة الله - عزَّ وجلَّ - النافِذة الشاملة ﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا ﴾ [الأنعام: 125].
وإرادة الله نوعان:
- إرادة كونية: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، وتشمل كلَّ ما يحبُّه الله وما لا يحبُّه، فمثلاً أراد الله كونًا أن يُسلِّط الكافرين على المؤمنين، ويكون ذلك ابتلاءً للمؤمنين فيرفع الله دَرجاتِهم بصبرِهم.
- وإرادة شرعية، وتشمل ما يحبُّه الله ويرضاه للعباد: كصلاتهم، وصيامهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكَر.
4- الإيمان بخَلْق الله لأفعال العباد ومشيئتهم:
وهذا بابٌ ضلَّ فيه كثيرٌ من الناس، قال - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الصافات: 96]، وقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّها بَيْن إِصْبَعَيْنِ مِن أَصابِعِ الرَّحْمن كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشاء))، ثُمَّ قال رسولُ اللَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبَنا على طاعَتِك))؛ رواه مسلم.
ولا يَنفي ذلك أنَّ للعباد قدرةً ومشيئة تقَع بها أفعالُهم؛ قال - تعالى -: ﴿ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [التكوير: 28 - 29].
والله - عزَّ وجلَّ - ييسِّر الأعمال لطالبيها، وقد أخْبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الصحابة أنَّ كلَّ شيء مكتوبٌ في قدر سابِق نافذ، قالوا: يا رسولَ اللَّه، فَلِمَ نَعْمَلُ، أَفَلاَ نَتَّكِلُ؟ قال: ((لا، اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ))، ثُمَّ قَرأ ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ إِلَى قَوْله: ﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 - 10].
فإذا أراد العبدُ الهدايةَ يسَّرها الله له، وإذا اختار الغَوايةَ، يسَّرها الله له.
قال الشيخ - رحمه الله -:
224- وَثَالِثٌ مَرْتَبَةُ الإِحْسَانِ
وَتِلْكَ أَعْلاَهَا لَدَى الرَّحْمَنِ
225- وَهْوَ رُسُوخُ الْقَلْبِ فِي الْعِرْفَانِ
حَتَّى يَكُونَ الْغَيْبُ كَالعِيَانِ
هذه هي المرْتبة العالية، والدرجة السامية، وتكون بعدَ استكمال الإسلام والإيمان، ولا تكون إلا لعبدٍ عبدَ اللهَ - عزَّ وجلَّ - وراقَبه، واستشعر أُنْسه ومعيته، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]، حتى يصيرَ إذا صلَّى كأنه يرَى ربه ويَشْهَده، كما جاء في حديث جبريل - الذي ما زِلْنا معه - لَمَّا سأل النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الإحسان، قال: ((أنْ تَعبدَ الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنَّه يراك))، وهذا ما كمَّله السلف الصالح - رضوان الله عليهم - حتى إنَّ قارئ سِيَرهم يجد مِن فضْل عبادتهم وزُهدهم، ومراقبتهم وتوكُّلهم، وإخباتهم، العجبَ العجاب، وحتى صار الواحدُ منهم كالجبل الأشمِّ في رُسوخ الإيمان، قلوبهم بيضاء مِثْل الصَّفا لا تضرُّها فِتنة ما دامتِ السموات والأرض.
فاللهمَّ ارزقْنا صحبتهم، ومرافقتهم مع نبيِّك - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الجَنَّة.
وفَّقنا الله وإيَّاكم لما يحبُّ ويرْضى، وللحديث بقية - إنْ شاء الله.