Şøķåŕą
11-03-2023, 08:07 PM
الجنة كأنك تراها (2)
الحمد لله وكفى، وسلام على عِباده الذين اصطفى، لا سيَّما عبده المصطفى، وآله المُستكمِلين الشَّرَفا.
وبعد:
فما زال حديثنا عن دار السلام موصولاً؛ فالحديث عنها يُبهج النفوس، ويُحرِّك القلوب، ويَرقى بالهِمَم العاليَة إلى العيش الهنيِّ، ويَستثير الرجاء بطول الفِكر في النعيم المقيم الموعود لأهل الجنان، "دارٌ غرَسها الله بيده، وجعلها مقرًّا لأحبابه، وملأها مِن رحمته وكرامته ورضوانه، ووصَف نعيمها بالفوز العظيم، ومُلكَها بالمُلكِ الكبير، وأودَعها جميع الخير بحذافيره وطهَّرها مِن كل عيب وآفة ونقص"[1]، أودَعها ما لا عَين رأتْ، ولا أذُن سمعَت، ولا خطَر على قلب بشر، فما أجمَل نداءَ المُنادي: "يا أهل الجنة، إن لكم أن تَنعموا فلا تَبأسوا، وتَحيوا فلا تَموتوا، وتُقيموا فلا تظعنوا[2] وتَشبُّوا فلا تَهرموا".
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُنادي مُنادٍ: إن لكم أن تصحُّوا فلا تسقَموا أبدًا، وإن لكم أن تَحيوا فلا تَموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبُّوا فلا تَهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعَموا فلا تَبتئسوا أبدًا))، فذلك قوله - عز وجل -: ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 43][3].
و هنا يتطرَّق بنا الحديث عن صفة دخول أهل الجنَّة الجنةَ وصفة أبوابها، فإن لدار النعيم ثمانية أبواب، يدخل منها المؤمنون كما يدخل منها الملائكة؛ قال - عز وجل -: ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾ [ص: 50]، وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 23- 24]، فما بين مِصراع الباب مسيرة أربعين سنة، تكتظُّ بأفواج الداخِلين بفضل الله ورحمته، قال عتبة بن غَزوان - رضي الله عنه -: "لقد ذُكر لنا أن ما بين مِصراعَين مِن مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنةً، وليأتينَّ عليهايوم وهو كظيظ مِن الزحام"[4].
عن أبي هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن أنفَق زوجَين في سبيل الله نودي مِن أبواب الجنة: يا عبدَ الله، هذا خير، فمَن كان مِن أهل الصلاة دُعي مِن باب الصلاة، ومَن كان مِن أهل الجهاد دُعي مِن باب الجهاد، ومَن كان مِن أهل الصيام دُعي مِن باب الريان، ومَن كان مِن أهل الصدقة دعي مِن باب الصدقة)) فقال أبو بكر - رضى الله عنه - بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على مَن دُعي مِن تلك الأبواب مِن ضرورة، فهل يُدعى أحد مِن تلك الأبواب كلِّها؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم))[5].
تُفتح هذه الأبواب عندما يَصِل المؤمنون إليها، وتَستقبلهم الملائكة مُحيِّيَةً بسلامة الوصول؛ قال - تعالى -: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [الزمر: 73- 74]، قال الإمام ابن كثير - قدَّس الله روحه -: "هذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يُساقون على النجائب وفدًا إلى الجنَّة ﴿ زُمَرًا ﴾؛ أي: جماعة بعد جماعة؛ المُقرَّبون، ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع مَن يُناسِبهم؛ الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أَشكالِهم، والشهداء مع أضرابِهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، كل زمرة تُناسِب بعضها بعضًا، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا ﴾ أي: وصَلوا إلى أبواب الجنة بعد مُجاوَزة الصراط حُبِسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتُصَّ لهم في مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم في دخول الجنة، وقد ورَد في حديث الصُّور أن المؤمنين إذا انتهَوا إلى أبواب الجنة، تشاوَروا فيمَن يَستأذِن لهم بالدخول، فيَقصدون، آدم، ثم نوحًا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمدًا - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - كما فعلوا في العرَصات عند استِشفاعهم إلى الله - عز وجل - أن يأتي لفصل القضاء؛ ليَظهر شرَف محمد - صلى الله عليه وسلم - على سائر البشر في المواطن كلها"[6].
وقد ثبَت في صحيح مسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أول شفيع في الجنة))[7]، وفي لفظ: ((وأنا أول مَن يقرَع باب الجنة))[8].
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((آتي باب الجنة يوم القيامة فأَستفتِح فيقول الخازن: مَن أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أُمرتُ لا أفتح لأحد قبلك))[9].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أول زمرة تَلِج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يَبصُقون فيها ولا يَمتخِطون، ولا يَتغوَّطون، آنيتُهم فيها الذهب، أمشاطهم مِن الذهب والفضة، ومَجامرهم الأَلُوَّة[10]، ورَشحُهم المِسك[11]، ولكل واحد منهم زوجتان، يُرى مخُّ سوقهما مِن وراء اللحم مِن الحسْن، لا اختلاف بينهم ولا تباغُض، قلوبُهم قلب واحد، يُسبِّحون الله بكرةً وعشيًّا))[12]، وفي لفظ: ((أخلاقُهم على خلُق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستُّون ذِراعًا في السماء)).
وقَف الهوى بيَ حيثُ أنت فليس لي
متأخَّر عنه ولا مُتقدَّم
أَجِد الملامة في هواك لذيذةً
حبًّا لذِكرِكَ فليَلُمني اللوَّمُ
ولكن هناك أقوام عَلِموا هذا الخير العظيم، وأيقَنوا أنه وعد الله الذي لا يُخلِف الميعاد، ولكنهم آثَروا الحياة الفانيَة على الحياة الباقيَة، وباعوا أُخراهم لدُنياهم، فخدَعهم طول الأمل، وغرَّهم بالله الغرور، ولولا شَهوةٌ آثَروها على ثواب الله، ولذَّة فانيَة رضوا بها واطمأنُّوا إليها، لأخرَجهم الله مِن ظلمات الشهوات إلى نور ربِّ البريات، ولكنهم باعوا ميراثهم مِن جنَّة عرضُها السموات والأرض بشبْه ميراث مِن متاعٍ على قَدرِ السرور به يكون الحزن، لو بلَغ المرء فيه غاية ما يُحب فليتوقَّع غايَة ما يكرَه.
لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان
فلا يُغرَّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتُها دُوَل
مَن سرَّه زمن ساءته أزمان
يقول شيخ الإسلام ابن القيم - رحمه الله - في هؤلاء وأضرابهم: "إنما يَظهر الغَبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبيَّن سفَهُ بائعِه يوم الحسرة والندامة، إذا حُشر المتَّقون إلى الرحمن وفدًا، وسيق المُجرِمون إلى جهنم وردًا، ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد ليَعلمنَّ أهل المَوقِف مَن أولى بالكرم مِن بين العباد، فلو توهَّم المُتخلِّف عن هذه الرفقة ما أعدَّ الله لهم مِن الإكرام وادَّخَر لهم مِن الفضل والإنعام، وما أَخفى لهم مِن قرَّة أعيُن لم يقع على مثلِها بصَر، ولا سمعتْه أذُن، ولا خطَر على قلب بشَر - لعَلِمَ أي بضاعة أضاعَ، وأنه لا خير له في حياته وهو معدود مِن سقَط المتاع، وعَلِم أن القوم قد توسَّطوا ملكًا كبيرًا لا تَعتريه الآفات، ولا يَلحقه الزوال، وفازُوا بالنعيم المقيم في جوار الكبير المُتعال، فهم في روضات الجنَّة يتقلَّبون، وعلى أَسرَّتِها تحت الحجال يَجلسون، وعلى الفرُش التي بطائنها مِن إستبرق يتَّكئون، وبالحُور العين يتمتَّعون، وبأنواع الثمار يتفكَّهون، ﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الواقعة: 17 - 24]، و﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [الزخرف: 71]، تالله لقد نُودي عليها في سوق الكساد فما قلَّب ولا استامَ إلا أفراد مِن العباد، فوا عجبًا لها كيف نام طالبها؟! وكيف لم يَسمَح بمَهرِها خاطِبُها؟! وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سَماع أخبارها؟! وكيف قرَّ للمُشتاق القرارُ دون مُعانَقة أبكارِها؟! وكيف قرَّت دونها أعين المشتاقين؟! وكيف صبرت عنها أنفس الموقِنين؟! وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالَمين؟! وبأيِّ شيء تعوَّضتْ عنها نفوس المُعرِضين؟!"[13].
فيا بائعًا هذا ببَخْس مُعجَّل
كأنَّك لا تَدري بلى سوف تَعلمُ
فإن كنتَ لا تَدري فتلك مصيبة
وإن كنتَ تَدري فالمصيبة أعظم[14]
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومَن استجار مِن النار ثلاث مرات قالت النار: اللهم أَجِره مِن النار))[15].
عن عمران قال: قال نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَدخُل الجنة مِن أمتي سَبعون ألفًا بغير حساب))، قالوا: ومَن هم يا رسول الله؟ قال: ((هم الذين لا يَكتوون، ولا يَسترقون، وعلى ربهم يتوكَّلون))، فقام عُكَّاشة فقال: ادعُ الله أن يَجعلني منهم! قال: ((أنتَ منهم))، قال: فقام رجل فقال: يا نبيَّ الله، ادعُ الله أن يَجعلني منهم، قال: ((سبقَك بها عكَّاشة))[16].
أسأل الله - جل وعلا - بأسمائه الحُسنى وصفاته العلا أن يجعلنا ممَّن يَدخلون الجنة مِن غير حساب، ولا سابِقة عذاب؛ إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الحمد لله وكفى، وسلام على عِباده الذين اصطفى، لا سيَّما عبده المصطفى، وآله المُستكمِلين الشَّرَفا.
وبعد:
فما زال حديثنا عن دار السلام موصولاً؛ فالحديث عنها يُبهج النفوس، ويُحرِّك القلوب، ويَرقى بالهِمَم العاليَة إلى العيش الهنيِّ، ويَستثير الرجاء بطول الفِكر في النعيم المقيم الموعود لأهل الجنان، "دارٌ غرَسها الله بيده، وجعلها مقرًّا لأحبابه، وملأها مِن رحمته وكرامته ورضوانه، ووصَف نعيمها بالفوز العظيم، ومُلكَها بالمُلكِ الكبير، وأودَعها جميع الخير بحذافيره وطهَّرها مِن كل عيب وآفة ونقص"[1]، أودَعها ما لا عَين رأتْ، ولا أذُن سمعَت، ولا خطَر على قلب بشر، فما أجمَل نداءَ المُنادي: "يا أهل الجنة، إن لكم أن تَنعموا فلا تَبأسوا، وتَحيوا فلا تَموتوا، وتُقيموا فلا تظعنوا[2] وتَشبُّوا فلا تَهرموا".
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يُنادي مُنادٍ: إن لكم أن تصحُّوا فلا تسقَموا أبدًا، وإن لكم أن تَحيوا فلا تَموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبُّوا فلا تَهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعَموا فلا تَبتئسوا أبدًا))، فذلك قوله - عز وجل -: ﴿ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 43][3].
و هنا يتطرَّق بنا الحديث عن صفة دخول أهل الجنَّة الجنةَ وصفة أبوابها، فإن لدار النعيم ثمانية أبواب، يدخل منها المؤمنون كما يدخل منها الملائكة؛ قال - عز وجل -: ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ ﴾ [ص: 50]، وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 23- 24]، فما بين مِصراع الباب مسيرة أربعين سنة، تكتظُّ بأفواج الداخِلين بفضل الله ورحمته، قال عتبة بن غَزوان - رضي الله عنه -: "لقد ذُكر لنا أن ما بين مِصراعَين مِن مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنةً، وليأتينَّ عليهايوم وهو كظيظ مِن الزحام"[4].
عن أبي هريرة - رضى الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن أنفَق زوجَين في سبيل الله نودي مِن أبواب الجنة: يا عبدَ الله، هذا خير، فمَن كان مِن أهل الصلاة دُعي مِن باب الصلاة، ومَن كان مِن أهل الجهاد دُعي مِن باب الجهاد، ومَن كان مِن أهل الصيام دُعي مِن باب الريان، ومَن كان مِن أهل الصدقة دعي مِن باب الصدقة)) فقال أبو بكر - رضى الله عنه - بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على مَن دُعي مِن تلك الأبواب مِن ضرورة، فهل يُدعى أحد مِن تلك الأبواب كلِّها؟ قال: ((نعم، وأرجو أن تكون منهم))[5].
تُفتح هذه الأبواب عندما يَصِل المؤمنون إليها، وتَستقبلهم الملائكة مُحيِّيَةً بسلامة الوصول؛ قال - تعالى -: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [الزمر: 73- 74]، قال الإمام ابن كثير - قدَّس الله روحه -: "هذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يُساقون على النجائب وفدًا إلى الجنَّة ﴿ زُمَرًا ﴾؛ أي: جماعة بعد جماعة؛ المُقرَّبون، ثم الأبرار، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، كل طائفة مع مَن يُناسِبهم؛ الأنبياء مع الأنبياء، والصديقون مع أَشكالِهم، والشهداء مع أضرابِهم، والعلماء مع أقرانهم، وكل صنف مع صنف، كل زمرة تُناسِب بعضها بعضًا، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا ﴾ أي: وصَلوا إلى أبواب الجنة بعد مُجاوَزة الصراط حُبِسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتُصَّ لهم في مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِن لهم في دخول الجنة، وقد ورَد في حديث الصُّور أن المؤمنين إذا انتهَوا إلى أبواب الجنة، تشاوَروا فيمَن يَستأذِن لهم بالدخول، فيَقصدون، آدم، ثم نوحًا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمدًا - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - كما فعلوا في العرَصات عند استِشفاعهم إلى الله - عز وجل - أن يأتي لفصل القضاء؛ ليَظهر شرَف محمد - صلى الله عليه وسلم - على سائر البشر في المواطن كلها"[6].
وقد ثبَت في صحيح مسلم عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنا أول شفيع في الجنة))[7]، وفي لفظ: ((وأنا أول مَن يقرَع باب الجنة))[8].
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((آتي باب الجنة يوم القيامة فأَستفتِح فيقول الخازن: مَن أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أُمرتُ لا أفتح لأحد قبلك))[9].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أول زمرة تَلِج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يَبصُقون فيها ولا يَمتخِطون، ولا يَتغوَّطون، آنيتُهم فيها الذهب، أمشاطهم مِن الذهب والفضة، ومَجامرهم الأَلُوَّة[10]، ورَشحُهم المِسك[11]، ولكل واحد منهم زوجتان، يُرى مخُّ سوقهما مِن وراء اللحم مِن الحسْن، لا اختلاف بينهم ولا تباغُض، قلوبُهم قلب واحد، يُسبِّحون الله بكرةً وعشيًّا))[12]، وفي لفظ: ((أخلاقُهم على خلُق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستُّون ذِراعًا في السماء)).
وقَف الهوى بيَ حيثُ أنت فليس لي
متأخَّر عنه ولا مُتقدَّم
أَجِد الملامة في هواك لذيذةً
حبًّا لذِكرِكَ فليَلُمني اللوَّمُ
ولكن هناك أقوام عَلِموا هذا الخير العظيم، وأيقَنوا أنه وعد الله الذي لا يُخلِف الميعاد، ولكنهم آثَروا الحياة الفانيَة على الحياة الباقيَة، وباعوا أُخراهم لدُنياهم، فخدَعهم طول الأمل، وغرَّهم بالله الغرور، ولولا شَهوةٌ آثَروها على ثواب الله، ولذَّة فانيَة رضوا بها واطمأنُّوا إليها، لأخرَجهم الله مِن ظلمات الشهوات إلى نور ربِّ البريات، ولكنهم باعوا ميراثهم مِن جنَّة عرضُها السموات والأرض بشبْه ميراث مِن متاعٍ على قَدرِ السرور به يكون الحزن، لو بلَغ المرء فيه غاية ما يُحب فليتوقَّع غايَة ما يكرَه.
لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان
فلا يُغرَّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتُها دُوَل
مَن سرَّه زمن ساءته أزمان
يقول شيخ الإسلام ابن القيم - رحمه الله - في هؤلاء وأضرابهم: "إنما يَظهر الغَبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبيَّن سفَهُ بائعِه يوم الحسرة والندامة، إذا حُشر المتَّقون إلى الرحمن وفدًا، وسيق المُجرِمون إلى جهنم وردًا، ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد ليَعلمنَّ أهل المَوقِف مَن أولى بالكرم مِن بين العباد، فلو توهَّم المُتخلِّف عن هذه الرفقة ما أعدَّ الله لهم مِن الإكرام وادَّخَر لهم مِن الفضل والإنعام، وما أَخفى لهم مِن قرَّة أعيُن لم يقع على مثلِها بصَر، ولا سمعتْه أذُن، ولا خطَر على قلب بشَر - لعَلِمَ أي بضاعة أضاعَ، وأنه لا خير له في حياته وهو معدود مِن سقَط المتاع، وعَلِم أن القوم قد توسَّطوا ملكًا كبيرًا لا تَعتريه الآفات، ولا يَلحقه الزوال، وفازُوا بالنعيم المقيم في جوار الكبير المُتعال، فهم في روضات الجنَّة يتقلَّبون، وعلى أَسرَّتِها تحت الحجال يَجلسون، وعلى الفرُش التي بطائنها مِن إستبرق يتَّكئون، وبالحُور العين يتمتَّعون، وبأنواع الثمار يتفكَّهون، ﴿ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الواقعة: 17 - 24]، و﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [الزخرف: 71]، تالله لقد نُودي عليها في سوق الكساد فما قلَّب ولا استامَ إلا أفراد مِن العباد، فوا عجبًا لها كيف نام طالبها؟! وكيف لم يَسمَح بمَهرِها خاطِبُها؟! وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سَماع أخبارها؟! وكيف قرَّ للمُشتاق القرارُ دون مُعانَقة أبكارِها؟! وكيف قرَّت دونها أعين المشتاقين؟! وكيف صبرت عنها أنفس الموقِنين؟! وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالَمين؟! وبأيِّ شيء تعوَّضتْ عنها نفوس المُعرِضين؟!"[13].
فيا بائعًا هذا ببَخْس مُعجَّل
كأنَّك لا تَدري بلى سوف تَعلمُ
فإن كنتَ لا تَدري فتلك مصيبة
وإن كنتَ تَدري فالمصيبة أعظم[14]
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومَن استجار مِن النار ثلاث مرات قالت النار: اللهم أَجِره مِن النار))[15].
عن عمران قال: قال نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَدخُل الجنة مِن أمتي سَبعون ألفًا بغير حساب))، قالوا: ومَن هم يا رسول الله؟ قال: ((هم الذين لا يَكتوون، ولا يَسترقون، وعلى ربهم يتوكَّلون))، فقام عُكَّاشة فقال: ادعُ الله أن يَجعلني منهم! قال: ((أنتَ منهم))، قال: فقام رجل فقال: يا نبيَّ الله، ادعُ الله أن يَجعلني منهم، قال: ((سبقَك بها عكَّاشة))[16].
أسأل الله - جل وعلا - بأسمائه الحُسنى وصفاته العلا أن يجعلنا ممَّن يَدخلون الجنة مِن غير حساب، ولا سابِقة عذاب؛ إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.