Şøķåŕą
10-25-2023, 09:31 PM
قبل أن أتكلَّم عن المقصود في هذه الصورة فلا بُدَّ من الإشارة إلى جملة من المقدمات.
المقدمة الأولى: في تحرير محلِّ النزاع:
1- اتَّفق الفقهاء على جواز السَّلم إذا كان المسلَم فيه مؤجَّلًا إلى أجلٍ معلومٍ[2].
2- اتَّفق الفقهاء على أنَّ ما زاد على شهرين فهو أجَلٌ مقبولٌ[3].
واختلفوا في السَّلم الذي يكون المسلَمُ فيه حالًّا وفي حكم ما كان دون أقلِّ مدة الأجل، وسيأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.
المقدمة الثانية: في حكم بيع الغائب:
اتَّفق فقهاء المذاهب الأربعة والظاهريَّة على جواز بيع المعيَّن الغائب عن مجلس العقد إذا كان قد سبق من المتبايعين رؤيته قريبًا والغالب على الظنِّ أنَّه لم يتغيَّر[4].
أمَّا ما لم يسبق رؤيته فالأئمة الثَّلاثة والظاهريَّة على جواز بيعه خلافًا للشافعيَّة في الصحيح من المذهب عندهم[5]، لدخوله في حكم بيع الغرر لعدم العلم بعاقبته فقد يتمكَّن البائع من تسليمه للمشتري وقد لا يتمكن، (والغرر ما خَفِيَ على الإنسان أمرُهُ وانطوَتْ عليه عاقبته)[6]، ومن وجهٍ آخر: أنَّهم رأوا أن السَّلم بيعٌ لِما ليس عند الإنسان وقد أجازه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ورأوا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى حكيم بن حزامٍ عن بيع ما ليس عنده، فرأوا أنَّ بين هذين الدليلين تعارضًا في الظاهر، فجمعوا بينهما بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى حكيمًا عن بيع المبيع المعيَّن الغائب، وأنَّه صلى الله عليه وسلم أجاز بيع السَّلم؛ لكونه في الذِّمَّة لا معيَّنًا[7].
أمَّا الغائب غير المعيَّن: وهو الذي يسمَّى الموصوف في الذِّمَّة: فلا يصح بيعه عند الحنفيَّة والمالكيَّة[8]، بل يجعلونه من قبيل المنهيِّ عنه في قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزامٍ: «لا تبع ما ليس عندك»[9]، خلافًا للشافعيَّة والحنابلة فإنهم يجيزونه[10].
المقدمة الثالثة: في أَثَرِ العلم بصفة المبيع الغائب:
إذا كان المبيع معيَّنًا غائبًا فهل من شرط صحَّته العلم بصفته؟ وهل للعلم بصفته أثَرٌ؟
تقدَّم أنَّ الشافعيَّة لا يجوِّزون بيع الغائب المعيَّن، ولا أَثَر عندهم للعلم بالمعين الغائب ولو وُصِفَ بصفة السَّلم[11].
أما الحنفيَّة فلا يجعلون من شرط صحَّة بيع الغائب العلمَ بصفته، ولكنَّهم يجعلونه شرطًا لِلُزوم البيع[12]، وعلَّلوا ذلك: بأنَّ له خيار الرؤية.
ويشترط المالكيَّة والحنابلة والظاهريَّة لصحة بيع المعيَّن الغائب العلم بالصِّفة[13].
المقدمة الرابعة: في أقلِّ مدة الأجل المشترط في السَّلم:
تقدَّم أنَّ الجمهور -خلافًا للشافعيَّة- يشترطون لصحَّة السَّلم أن يكون مؤجَّلًا، ومحلُّ البحث ها هنا في أقلِّ مدَّةٍ مشترَطَةٍ في قدر الأجل، وقد اختلف الفقهاء فيها على أقوالٍ، سأذكرها بإجمالٍ:
أمَّا الحنفيَّة: فيشترطون ألَّا يكون الأجل أقلَّ من ثلاثة أيامٍ[14].
ويشترط المالكيَّة ألَّا يكون الأجل أقلَّ من نصف شهرٍ[15].
ويشترط متأخِّرو الحنابلة أن يكون في مدَّة تؤثِّر في الثَّمن، ومثَّلوا لذلك بالشَّهر، وقال المرداوي[16]: (قال في الفروع: وليس هذا في كلام أحمد، وظاهر كلامه: اشتراط الأجل ولو كان أجلًا قريبًا، ومال إليه، وقال: هو أظهر)[17].
ولم يحدَّه الظاهريَّة بحدٍّ، بل يطلق عندهم حتى على الساعة ونحوها[18].
ولم يشترط الشافعيَّة الأجل فيه، لِما يأتي أنَّهم يجوِّزون السَّلم الحالَّ.
وهذا يُعِيْنُ على فَهْمِ صورة المسألة؛ إذ إنَّ المانعين من السَّلم الحالِّ يجعلون في حكمه ما كان أقلَّ من الأجل الذي يصحُّ السَّلم فيه[19].
وقد قدَّمت بهذه المقدمات توطِئَةً بين يدي صورة المسألة، وسأختم هذه المسألة ببيان الفرق بين بيع الموصوف في الذِّمَّة وبين السَّلَم الحالِّ بإذن الله تعالى، وهذا أوان الشُّروع في المسألة.
صورة المسألة: أن يُسلِمَ سالمٌ لعليٍّ مبلغًا قدره 100.000 مئة ألف ريالٍ على أن يسلِّمَه حالًا ألفَ صاعٍ من التَّمر نوعه (سكري) ثماره كبار من إنتاج العام.
ومن صوره كذلك: أن يُطْلِقَا فلا يذكرا أجلًا[20].
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ:
القول الأول: أنَّ السَّلم الحالَّ بهذه الصورة صحيحٌ، بشرطين:
الأوَّل: أن يكون المسلَم فيه موجودًا لا معدومًا، الثاني: أنْ يقدر المسلَم إليه على التَّسليم حال العقد، وهو مذهب الشافعيَّة[21]، وبه قال عطاء بن أبي رباح، والأوزاعي، وأبو ثورٍ، واختاره ابن المنذر[22]، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد[23].
القول الثاني: أنَّ السَّلم الحالَّ لا يصحُّ، وبهذا قال الحنفيَّة[24]، والمالكيَّة[25]، والحنابلة[26]، وابن حزمٍ[27].
القول الثالث: التَّفصيل: فيجوز السَّلم الحالُّ في المملوك للمسلَم إليه، أمَّا إن لم يكن في ملكه فلا يصحُّ، وبهذا قال ابن تيمية[28].
وقبل الكلام على الأدلة يَحْسُنُ بيان مسألةٍ مهمَّةٍ:
وهي أن لقائل أن يقول: إن صورة السَّلم الحال تُمَاثِلُ صورة البيع الموصوف في الذِّمَّة -غير المعيَّن- فلمَ فرَّق الحنابلة بينهما؟ وهل بينهما فرقٌ عند الشافعية؟
والجواب أن يقال: أما من حيث الصُّورة فلا فرق بينهما عند الشافعيَّة، وكذا لا يشترطون لواحدٍ منهما لفظًا معيَّنًا بل يصح السَّلم الحالُّ بلفظ البيع وبلفظ السَّلم ويصحُّ البيع للموصوف في الذِّمَّة بلفظ البيع وبلفظ السَّلم كذلك، إلا أنَّهم يشترطون لجواز السَّلم الحالِّ أن يُسلَّم رأس مال السَّلم في مجلس العقد، أمَّا إذا تبايعا في الذمة فلا يشترط ذلك[29].
أما الحنابلة: فيظهر الفرق عندهم بين الصورتين في أمرين:
الأول: أنَّ المبيع الموصوف في الذِّمَّة حالٌّ، ولا يجوز السَّلم عندهم إلا مؤجَّلًا.
الثاني: أنَّ من شرط جواز بيع الموصوف في الذِّمَّة: أن يكون بلفظ البيع، فإن تعاقدا بلفظ السَّلَمِ لم يصحَّ[30].
أدلة أصحاب القول الأول القائلين بصحة السَّلم الحالِّ:
الدليل الأول: قول الله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ﴾ [البقرة: 275].
وجه الدلالة: أنَّ السَّلم الحالَّ داخلٌ في حكم البيع، وقد أحلَّ الله تبارك وتعالى البيع، فعلى مدَّعي الحرمة الدليل.
الدليل الثاني: قالوا: إنَّ الأصل في السَّلم التأجيل، وفي التأجيل غَرَرٌ؛ لأنَّه ربما يقدِرُ على الوفاء حين الأجل وربما لا يقدِر، ومع ذلك فقد اتَّفق أهل العلم على جوازه، فإذا جاز مع وجود الغرر في التَّأجيل فهو مع الحلول أولى؛ لأنَّه أبعد عن الغرر[31].
الدليل الثالث: أنَّ عقد السَّلم نوع من أنواع المعاوضات المحضة، فصحَّ مع تعجيله كما صحَّ مع تأجيله[32].
ونوقش هذان الدليلان: بأنَّ هذا قياس في مقابلة النصِّ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إلى أجلٍ معلومٍ» كما قال: «في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ..» فوجب أن يُساوَى بين هذه الجمل، فكَما اشتُرِطَ العلم بالمسلَم فيه استدلالًا بالحديث فليكن من شرط السَّلم التَّأجيل استدلالًا بالحديث كذلك[33].
وأجيب عنه: بأنَّ هذا محمولٌ على سبب الحديث، والمعنى: إذا كان مؤجَّلًا فليكن الأجل معلومًا، فلا يؤخذ من مفهوم قوله اشتراط الأجل، وسيأتي عند الجواب عن أدلة القائلين بالمنع.
أدلة أصحاب القول الثاني:
الدليل الأول: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «من أسْلَفَ فليُسْلِف في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ»[34].
وجه الدلالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بالأجل كما أمر بالكيل والوزن، والأمر للوجوب، ومخالفة الأمر تفضي بالعقد إلى البطلان[35].
وبه يجيبون عن الدليل الأول للقائلين بالجواز.
ونوقش: بعدم التسليم بأنَّ من شرط السَّلم التَّأجيل، ويُحْمَل الحديث على سببه؛ إذ سبب الحديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يُسلفون في الثِّمار السنة والسنتين فقال صلى الله عليه وسلم: «من أَسْلَفَ في شيءٍ فليُسْلِف في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ» والمعنى: أنَّ من أسلف في مكيلٍ فليكن الكيل معلومًا، ومن أسلف في موزونٍ فليكن الوزن معلومًا، ومن أسلف في مؤجلٍ فليكن الأجل معلومًا، فيُحمَل الحديث على السَّلم المؤجل، ولا دليل فيه على اشتراطه في جميع صور عقد السَّلم[36].
الدليل الثاني: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزامٍ: «لا تبع ما ليس عندك»[37].
وجه الدلالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان، وقد جوَّزتم السَّلَمَ الحالَّ، واشترطتم أن يوجد المسلَم فيه حال العقد، فمن باع وشُرِطَ عليه تسليم المبيع الموجود حين العقد وهو غير داخلٍ في ملكه فقد باع ما لم يملك[38].
ونوقش: بأنَّ النَّهي الوارد في الحديث يحمل على معنيين: الأول: ما ليس عند المسلَم إليه، فيحمل ذلك على المعدوم، الثاني: المعيَّن غير المملوك، وقد أجمع أهل العلم على أن السَّلم لا يكون في معيَّن[39]، وقد اشترطنا في جواز السَّلم الحال: أن يكون المسلَم فيه موجودًا فانتفى المعنيان[40].
الدليل الثالث: أنَّ إجازة الشارع للسَّلم لأجل الإرفاق، ولا يحصل الإرفاق إلا بالأجَلِ المؤثِّر في الثَّمن، فالمُسْلِمُ يستفيد من العقد رُخْصَ السِّعر، وإذا انتفى الأجَلُ انتفى الإرفاق[41].
ونوقش: بعدم التَّسليم بأنَّ إجازة عقد السَّلم للإرفاق، بل هو من عقود المعاوضة المحضة التي يطلب فيها كلُّ واحد من الطَّرفين ما هو أصلح له.
دليل أصحاب القول الثالث:
أخذ أصحاب القول الثالث بأدلَّة الطَّرفين، فرأوا أنَّ الجمع بينها متعيِّن، فجوَّزوا السَّلم الحال إن كان في ملكِ البائع، لئلَّا يكون المسلَم فيه أو المبيع الموصوف في الذِّمَّة ممَّا لا مِلكَ للبائع عليه، وبهذا تجتمع النُّصوص[42].
الترجيح:
يظهر لي والله أعلم أنَّ للمسألة صورتين محتمَلَتين:
الأولى: أن يكون المسلَم فيه في ملك المسلَم إليه، ولا إشكال في هذه الصُّورة، وغايَتُها أن يكون المسلَم إليه قد باع ما يملك بالصِّفة، وقد تقدَّم أنَّ المذاهب الثلاثة يقولون بجواز هذه الصورة خلافًا للشافعيَّة.
الثانية: أن يكون المسلَم فيه مع اشتراط الحلول معدومًا أو غير مملوكٍ للمسلَم إليه، وهذه الصورة ممنوعةٌ، لأنَّها ممَّا لا يقدر على تسليمه، فتدخل في نهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لا يملك الإنسان، وتدخل كذلك في النَّهي عن بيع الغرر، لا سيَّما مع اشتراط الحلول؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ قدرة المسلَم إليه على تسليم المسلَم فيه حالًّا مع كونه معدومًا أو غير مملوكٍ.
وعليه فالذي يظهر لي أن الرَّاجح القول بالمنع من هذه الصورة؛ إذ لا بدَّ من الأجَلِ ليخرج من النهي، ونَخْرُجَ من الحرج بقولنا: إنَّه لا حدَّ لأقلِّ الأجل.
وعليه فلو تعاقدا صباحًا واشترطا أجلًا قريبًا كالليل خرجنا من الإشكال، لا سيَّما أنَّ الجميع يشترطون أن يكون المسلَم فيه مقدورًا على تسليمه عند حلول الأجل، وبهذا يزول الإشكال وتجتمع الأدلة والله أعلم.
هذا ما تيسَّر جمعه وإيراده، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
المقدمة الأولى: في تحرير محلِّ النزاع:
1- اتَّفق الفقهاء على جواز السَّلم إذا كان المسلَم فيه مؤجَّلًا إلى أجلٍ معلومٍ[2].
2- اتَّفق الفقهاء على أنَّ ما زاد على شهرين فهو أجَلٌ مقبولٌ[3].
واختلفوا في السَّلم الذي يكون المسلَمُ فيه حالًّا وفي حكم ما كان دون أقلِّ مدة الأجل، وسيأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.
المقدمة الثانية: في حكم بيع الغائب:
اتَّفق فقهاء المذاهب الأربعة والظاهريَّة على جواز بيع المعيَّن الغائب عن مجلس العقد إذا كان قد سبق من المتبايعين رؤيته قريبًا والغالب على الظنِّ أنَّه لم يتغيَّر[4].
أمَّا ما لم يسبق رؤيته فالأئمة الثَّلاثة والظاهريَّة على جواز بيعه خلافًا للشافعيَّة في الصحيح من المذهب عندهم[5]، لدخوله في حكم بيع الغرر لعدم العلم بعاقبته فقد يتمكَّن البائع من تسليمه للمشتري وقد لا يتمكن، (والغرر ما خَفِيَ على الإنسان أمرُهُ وانطوَتْ عليه عاقبته)[6]، ومن وجهٍ آخر: أنَّهم رأوا أن السَّلم بيعٌ لِما ليس عند الإنسان وقد أجازه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ورأوا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى حكيم بن حزامٍ عن بيع ما ليس عنده، فرأوا أنَّ بين هذين الدليلين تعارضًا في الظاهر، فجمعوا بينهما بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى حكيمًا عن بيع المبيع المعيَّن الغائب، وأنَّه صلى الله عليه وسلم أجاز بيع السَّلم؛ لكونه في الذِّمَّة لا معيَّنًا[7].
أمَّا الغائب غير المعيَّن: وهو الذي يسمَّى الموصوف في الذِّمَّة: فلا يصح بيعه عند الحنفيَّة والمالكيَّة[8]، بل يجعلونه من قبيل المنهيِّ عنه في قوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزامٍ: «لا تبع ما ليس عندك»[9]، خلافًا للشافعيَّة والحنابلة فإنهم يجيزونه[10].
المقدمة الثالثة: في أَثَرِ العلم بصفة المبيع الغائب:
إذا كان المبيع معيَّنًا غائبًا فهل من شرط صحَّته العلم بصفته؟ وهل للعلم بصفته أثَرٌ؟
تقدَّم أنَّ الشافعيَّة لا يجوِّزون بيع الغائب المعيَّن، ولا أَثَر عندهم للعلم بالمعين الغائب ولو وُصِفَ بصفة السَّلم[11].
أما الحنفيَّة فلا يجعلون من شرط صحَّة بيع الغائب العلمَ بصفته، ولكنَّهم يجعلونه شرطًا لِلُزوم البيع[12]، وعلَّلوا ذلك: بأنَّ له خيار الرؤية.
ويشترط المالكيَّة والحنابلة والظاهريَّة لصحة بيع المعيَّن الغائب العلم بالصِّفة[13].
المقدمة الرابعة: في أقلِّ مدة الأجل المشترط في السَّلم:
تقدَّم أنَّ الجمهور -خلافًا للشافعيَّة- يشترطون لصحَّة السَّلم أن يكون مؤجَّلًا، ومحلُّ البحث ها هنا في أقلِّ مدَّةٍ مشترَطَةٍ في قدر الأجل، وقد اختلف الفقهاء فيها على أقوالٍ، سأذكرها بإجمالٍ:
أمَّا الحنفيَّة: فيشترطون ألَّا يكون الأجل أقلَّ من ثلاثة أيامٍ[14].
ويشترط المالكيَّة ألَّا يكون الأجل أقلَّ من نصف شهرٍ[15].
ويشترط متأخِّرو الحنابلة أن يكون في مدَّة تؤثِّر في الثَّمن، ومثَّلوا لذلك بالشَّهر، وقال المرداوي[16]: (قال في الفروع: وليس هذا في كلام أحمد، وظاهر كلامه: اشتراط الأجل ولو كان أجلًا قريبًا، ومال إليه، وقال: هو أظهر)[17].
ولم يحدَّه الظاهريَّة بحدٍّ، بل يطلق عندهم حتى على الساعة ونحوها[18].
ولم يشترط الشافعيَّة الأجل فيه، لِما يأتي أنَّهم يجوِّزون السَّلم الحالَّ.
وهذا يُعِيْنُ على فَهْمِ صورة المسألة؛ إذ إنَّ المانعين من السَّلم الحالِّ يجعلون في حكمه ما كان أقلَّ من الأجل الذي يصحُّ السَّلم فيه[19].
وقد قدَّمت بهذه المقدمات توطِئَةً بين يدي صورة المسألة، وسأختم هذه المسألة ببيان الفرق بين بيع الموصوف في الذِّمَّة وبين السَّلَم الحالِّ بإذن الله تعالى، وهذا أوان الشُّروع في المسألة.
صورة المسألة: أن يُسلِمَ سالمٌ لعليٍّ مبلغًا قدره 100.000 مئة ألف ريالٍ على أن يسلِّمَه حالًا ألفَ صاعٍ من التَّمر نوعه (سكري) ثماره كبار من إنتاج العام.
ومن صوره كذلك: أن يُطْلِقَا فلا يذكرا أجلًا[20].
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوالٍ:
القول الأول: أنَّ السَّلم الحالَّ بهذه الصورة صحيحٌ، بشرطين:
الأوَّل: أن يكون المسلَم فيه موجودًا لا معدومًا، الثاني: أنْ يقدر المسلَم إليه على التَّسليم حال العقد، وهو مذهب الشافعيَّة[21]، وبه قال عطاء بن أبي رباح، والأوزاعي، وأبو ثورٍ، واختاره ابن المنذر[22]، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد[23].
القول الثاني: أنَّ السَّلم الحالَّ لا يصحُّ، وبهذا قال الحنفيَّة[24]، والمالكيَّة[25]، والحنابلة[26]، وابن حزمٍ[27].
القول الثالث: التَّفصيل: فيجوز السَّلم الحالُّ في المملوك للمسلَم إليه، أمَّا إن لم يكن في ملكه فلا يصحُّ، وبهذا قال ابن تيمية[28].
وقبل الكلام على الأدلة يَحْسُنُ بيان مسألةٍ مهمَّةٍ:
وهي أن لقائل أن يقول: إن صورة السَّلم الحال تُمَاثِلُ صورة البيع الموصوف في الذِّمَّة -غير المعيَّن- فلمَ فرَّق الحنابلة بينهما؟ وهل بينهما فرقٌ عند الشافعية؟
والجواب أن يقال: أما من حيث الصُّورة فلا فرق بينهما عند الشافعيَّة، وكذا لا يشترطون لواحدٍ منهما لفظًا معيَّنًا بل يصح السَّلم الحالُّ بلفظ البيع وبلفظ السَّلم ويصحُّ البيع للموصوف في الذِّمَّة بلفظ البيع وبلفظ السَّلم كذلك، إلا أنَّهم يشترطون لجواز السَّلم الحالِّ أن يُسلَّم رأس مال السَّلم في مجلس العقد، أمَّا إذا تبايعا في الذمة فلا يشترط ذلك[29].
أما الحنابلة: فيظهر الفرق عندهم بين الصورتين في أمرين:
الأول: أنَّ المبيع الموصوف في الذِّمَّة حالٌّ، ولا يجوز السَّلم عندهم إلا مؤجَّلًا.
الثاني: أنَّ من شرط جواز بيع الموصوف في الذِّمَّة: أن يكون بلفظ البيع، فإن تعاقدا بلفظ السَّلَمِ لم يصحَّ[30].
أدلة أصحاب القول الأول القائلين بصحة السَّلم الحالِّ:
الدليل الأول: قول الله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ ﴾ [البقرة: 275].
وجه الدلالة: أنَّ السَّلم الحالَّ داخلٌ في حكم البيع، وقد أحلَّ الله تبارك وتعالى البيع، فعلى مدَّعي الحرمة الدليل.
الدليل الثاني: قالوا: إنَّ الأصل في السَّلم التأجيل، وفي التأجيل غَرَرٌ؛ لأنَّه ربما يقدِرُ على الوفاء حين الأجل وربما لا يقدِر، ومع ذلك فقد اتَّفق أهل العلم على جوازه، فإذا جاز مع وجود الغرر في التَّأجيل فهو مع الحلول أولى؛ لأنَّه أبعد عن الغرر[31].
الدليل الثالث: أنَّ عقد السَّلم نوع من أنواع المعاوضات المحضة، فصحَّ مع تعجيله كما صحَّ مع تأجيله[32].
ونوقش هذان الدليلان: بأنَّ هذا قياس في مقابلة النصِّ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إلى أجلٍ معلومٍ» كما قال: «في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ..» فوجب أن يُساوَى بين هذه الجمل، فكَما اشتُرِطَ العلم بالمسلَم فيه استدلالًا بالحديث فليكن من شرط السَّلم التَّأجيل استدلالًا بالحديث كذلك[33].
وأجيب عنه: بأنَّ هذا محمولٌ على سبب الحديث، والمعنى: إذا كان مؤجَّلًا فليكن الأجل معلومًا، فلا يؤخذ من مفهوم قوله اشتراط الأجل، وسيأتي عند الجواب عن أدلة القائلين بالمنع.
أدلة أصحاب القول الثاني:
الدليل الأول: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «من أسْلَفَ فليُسْلِف في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ»[34].
وجه الدلالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بالأجل كما أمر بالكيل والوزن، والأمر للوجوب، ومخالفة الأمر تفضي بالعقد إلى البطلان[35].
وبه يجيبون عن الدليل الأول للقائلين بالجواز.
ونوقش: بعدم التسليم بأنَّ من شرط السَّلم التَّأجيل، ويُحْمَل الحديث على سببه؛ إذ سبب الحديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يُسلفون في الثِّمار السنة والسنتين فقال صلى الله عليه وسلم: «من أَسْلَفَ في شيءٍ فليُسْلِف في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ» والمعنى: أنَّ من أسلف في مكيلٍ فليكن الكيل معلومًا، ومن أسلف في موزونٍ فليكن الوزن معلومًا، ومن أسلف في مؤجلٍ فليكن الأجل معلومًا، فيُحمَل الحديث على السَّلم المؤجل، ولا دليل فيه على اشتراطه في جميع صور عقد السَّلم[36].
الدليل الثاني: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لحكيم بن حزامٍ: «لا تبع ما ليس عندك»[37].
وجه الدلالة: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان، وقد جوَّزتم السَّلَمَ الحالَّ، واشترطتم أن يوجد المسلَم فيه حال العقد، فمن باع وشُرِطَ عليه تسليم المبيع الموجود حين العقد وهو غير داخلٍ في ملكه فقد باع ما لم يملك[38].
ونوقش: بأنَّ النَّهي الوارد في الحديث يحمل على معنيين: الأول: ما ليس عند المسلَم إليه، فيحمل ذلك على المعدوم، الثاني: المعيَّن غير المملوك، وقد أجمع أهل العلم على أن السَّلم لا يكون في معيَّن[39]، وقد اشترطنا في جواز السَّلم الحال: أن يكون المسلَم فيه موجودًا فانتفى المعنيان[40].
الدليل الثالث: أنَّ إجازة الشارع للسَّلم لأجل الإرفاق، ولا يحصل الإرفاق إلا بالأجَلِ المؤثِّر في الثَّمن، فالمُسْلِمُ يستفيد من العقد رُخْصَ السِّعر، وإذا انتفى الأجَلُ انتفى الإرفاق[41].
ونوقش: بعدم التَّسليم بأنَّ إجازة عقد السَّلم للإرفاق، بل هو من عقود المعاوضة المحضة التي يطلب فيها كلُّ واحد من الطَّرفين ما هو أصلح له.
دليل أصحاب القول الثالث:
أخذ أصحاب القول الثالث بأدلَّة الطَّرفين، فرأوا أنَّ الجمع بينها متعيِّن، فجوَّزوا السَّلم الحال إن كان في ملكِ البائع، لئلَّا يكون المسلَم فيه أو المبيع الموصوف في الذِّمَّة ممَّا لا مِلكَ للبائع عليه، وبهذا تجتمع النُّصوص[42].
الترجيح:
يظهر لي والله أعلم أنَّ للمسألة صورتين محتمَلَتين:
الأولى: أن يكون المسلَم فيه في ملك المسلَم إليه، ولا إشكال في هذه الصُّورة، وغايَتُها أن يكون المسلَم إليه قد باع ما يملك بالصِّفة، وقد تقدَّم أنَّ المذاهب الثلاثة يقولون بجواز هذه الصورة خلافًا للشافعيَّة.
الثانية: أن يكون المسلَم فيه مع اشتراط الحلول معدومًا أو غير مملوكٍ للمسلَم إليه، وهذه الصورة ممنوعةٌ، لأنَّها ممَّا لا يقدر على تسليمه، فتدخل في نهي النبيِّ صلى الله عليه وسلم عن بيع ما لا يملك الإنسان، وتدخل كذلك في النَّهي عن بيع الغرر، لا سيَّما مع اشتراط الحلول؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ قدرة المسلَم إليه على تسليم المسلَم فيه حالًّا مع كونه معدومًا أو غير مملوكٍ.
وعليه فالذي يظهر لي أن الرَّاجح القول بالمنع من هذه الصورة؛ إذ لا بدَّ من الأجَلِ ليخرج من النهي، ونَخْرُجَ من الحرج بقولنا: إنَّه لا حدَّ لأقلِّ الأجل.
وعليه فلو تعاقدا صباحًا واشترطا أجلًا قريبًا كالليل خرجنا من الإشكال، لا سيَّما أنَّ الجميع يشترطون أن يكون المسلَم فيه مقدورًا على تسليمه عند حلول الأجل، وبهذا يزول الإشكال وتجتمع الأدلة والله أعلم.
هذا ما تيسَّر جمعه وإيراده، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين