رحيل
10-23-2023, 09:37 PM
https://www.khlgy.com/do.php?img=126397 (https://www.khlgy.com/)r:;"]
عوامل النصر والهزيمة في ضوء القرآن الكريم
د. أنور صالح أبو زيد
الحمدلله، خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وأحاط كلَّ شيء علماً؛ فله الحمد في الآخرة والأولى، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، واتبع طريقه واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فأقولُ مستعيناً بالله:
لقد سنَّ الله - تعالى - النظر في سِيَر الأوَّلين والآخرين؛ لمعرفة أسباب الظفر والتمكين، وأسباب الفشل والتراجع، فهل كُتب على المسلمين عدم الاعتبار بحدث ماضٍ، وعدم التفكير فيما وقع لإخوانٍ لهم في زمن قريب؟! هل دُرست كل الحركات التي قامت سابقاً ولاحقاً؟ تلك الحركات التي أكبر أسباب فشلها ناتجٌ عن العجلة، وقلة الاستعداد المطلوب شرعاً وعقلاً؛ بل إن البعض الآن لا يتعجَّل قطف الثمار؛ لأنهم يعلمون - كما يصرِّحون - أن لا ثمار ولا نتيجة من وراء هذا العمل، ولكنهم يعملون لمجرد أنه لا يوجد طريق آخر بنظرهم!
- ففي القرآن:
التأكيد على هذه السنَّة العامة التي لا تختلف ولا تتبدَّل: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، ولذلك: فإنه حين تساءل المسلمون بعد هزيمة (أحد): أَنَّى هَذَا؟ جاءهم الجواب من الله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
وعن المشكلة ذاتها كان تعقيب القرآن على غزوة (حنين): {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
كما تؤكد آيات القرآن وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ سبب الهزائم ينشأ من داخل الأمة بـ(الوهن الحضاري)، الذي لا يُنْتج إلا الاستسلام للأعداء، والكفّ عن منازلتهم.. كذلك تشهد لهذه القاعدة آيات الآفاق والأنفس.
ونظرةٌ واحدة في تاريخ المسلمين تؤكِّد أن ما لحق بالأمة - ولا يزال يلحق بها - إنما هو في الحقيقة عقوبات مستحقَّة .. وأن كلَّ أمة تستسلم للنوم؛ فإن الله يبعث عليها سوطاً يوقظها، سواء كان هذا (السوط) عدوّاً من الخارج، أو اضطراباً في الداخل.
"فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية ...كما أنه لا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي، ما لم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني في الانتصار على النفس، والغَلَبَة على الهوى، والفوز على الشهوة، وتقرير الحق الذي أراده الله في حياة الناس؛ ليكون كلُّ نصر نصراً لله ولمنهج الله، وليكون كل جهد في سبيل الله ومنهج الله؛ وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية"[1].
فالجماعة المسلمة التي تريد أن تنتصر على عدوِّها لابد وأن تتزوَّد بمادة الإعداد، وهذه المادة لا تقتصر على آلة الحرب؛ بل يتحتم عليها التعبئة الكاملة، تلك التي أشارت إليها آيات غزوة (أحد) في سورة (آل عمران)؛ حيث لم تقتصر على معالجة الجماعة المسلمة في ميدان المعركة فقط؛ بل في ميدان النفس البشرية والحياة الواقعية، "ومن ثمَّ عرَّج السياق القرآني على الربا فنهى عنه، وعرج على الإنفاق في السرَّاء والضرَّاء فحضَّ عليه، وعرَّج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة، وعرَّج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان، والتطهُّر من الخطيئة بالاستغفار والتوبة وعدم الإصرار، فجعلها كلها مناط الرضوان، كما عرَّج على مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات، وعلى الأمانة التي تمنع الغُلُول، وعلى البذل والتحذير من البخل، في نهاية ما نزل في التعقيب على الغزوة من آيات، عرَّج على هذا كله؛ لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة في نطاقها الواسع"[2].
كما أننا لو تأملنا في هذه الغزوة: هل هي نصرٌ أم هزيمة؟ نجد اختلاف معايير النصر والهزيمة عند المؤرِّخين والعسكريين؛ فالمؤرِّخون يقوِّمون النصر والهزيمة على ضوء ما لحق الجيشين من الخسائر؛ فمن كانت خسارته أكثر فهو المهزوم، أما العسكريون فيقوِّمون النصر والهزيمة في المعارك على ضوء الأهداف التي تحقَّقت لكلٍّ من المتحاربَيْن؛ فالذي حقَّق أهدافه هو المنتصر، وإن كانت خسارته في القتلى والجرحى أكثر!
لقد أجمع المؤرِّخون على اعتبار أن نتيجة أحد نصرٌ للمشركين؛ لكن الحقائق العسكرية لا تتَّفق مع ما أجمع عليه المؤرِّخون؛ فإن فشل المشركين في القضاء على قوات المسلمين بعد إحاطتهم بقواتهم المتفوِّقة يعدُّ اندحاراً لهم، وإن نجاح المسلمين في الخروج من تطويق المشركين يعدُّ نصراً لهم[3].
وحتى نقف على التفسير الصحيح لهذه الحالة (الوهن)؛ فإنه لابد من أن نتعرَّف على أمور:
أولها: التعرف على الحكمة في قضاء الله وقدره:
فالله عزَّ وجلَّ - بعلمه الشامل، وحكمته البالغة - قدَّر وقضى أن يكون الصراع بين الحق والباطل موجوداً إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها، كما أن علينا أن ندرك طبيعة هذا الصراع، وأنه حربٌ ضروسٌ، لا يخمد لهيبها حتى تقوم الساعة، كما قال تعالى: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا} [البقرة: 217].
وهذا من أبلغ الحجج والبراهين على دحض افتراءات العلمانيين والمنافقين، الذين يزعمون أن الحرب الدينية اليوم قد انتهت، وحريٌّ بالعالم أن يوحِّد رايته، ويلتقي في الطريق، تحت ستار الأسرة الواحدة والشرعية الدولية، وعلى المعتقدات أن تبقى حبيسة دور العبادة والمحاريب، ولا تتعداها!!
لكنَّ أمة التوحيد لا تقبل هذا الهراء؛ فهي تعي - تماماً - الدور المناط بها، وتوقن أن ما قدَّره الله هو الخير، ويحوي في طيَّاته الرحمة والنعمة، وإن كان ظاهره الألم والمشقَّة؛ فهي أمةٌ تتوكَّل على مولاها – سبحانه - آخذةً بالأسباب، وتعي آثار أسماء الله الحسنى؛ فتتعبَّد ربها بموجبها، وتظهر في القلوب ثمراتها؛ فتطمئن لوعد الله، وتثق بنصره، لكن في ظل استمرار الحملات الشرسة على ديار المسلمين وأعراضهم تظهر تساؤلات من هنا وهناك:
أما آن لهذه المهانة أن تنقشع؟ أما آن لهذا الليل أن ينجلي؟ متى يبزغ فجر الإسلام؟
إن هذا ما تجسده الآية الكريمة التي يقول الله فيها: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
وقد ذكر صاحب "الظلال" بعض الأمور التي يتأخَّر النصر بسببها[4]؛ فمن ذلك:
- أن النصر قد يبطئ؛ لأن بنية الأمة لم تنضج بعدُ نضجها، ولم تستكمل قوتها واستعدادها.
- وقد يبطئ حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً إلا وتبذله رخيصاً في سبيل الله.
- وقد يبطئ حتى تجرِّب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها - بدون سند من الله - لا تكفل النصر.
- وقد يبطئ لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضةً من البيئة، لا يستقر معها قرارٌ.
- وقد يبطئ لتُزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، فتعلم يقيناً أنه لا ملجأ ولا منجا منه - سبحانه - إلا إليه.
- وقد يبطئ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرَّد بعدُ في كفاحها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققِّه، أو حميَّة لذاتها، أو شجاعة، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله.
- وقد يبطئ لأنَّ في الشرِّ الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرِّد الشرَّ منها؛ ليتمحض خالصاً.
- وقد يبطئ لأنَّ الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون؛ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشَّف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية.
:861:
https://www.khlgy.com/do.php?img=126398 (https://www.khlgy.com/)
عوامل النصر والهزيمة في ضوء القرآن الكريم
د. أنور صالح أبو زيد
الحمدلله، خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وأحاط كلَّ شيء علماً؛ فله الحمد في الآخرة والأولى، والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، واتبع طريقه واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فأقولُ مستعيناً بالله:
لقد سنَّ الله - تعالى - النظر في سِيَر الأوَّلين والآخرين؛ لمعرفة أسباب الظفر والتمكين، وأسباب الفشل والتراجع، فهل كُتب على المسلمين عدم الاعتبار بحدث ماضٍ، وعدم التفكير فيما وقع لإخوانٍ لهم في زمن قريب؟! هل دُرست كل الحركات التي قامت سابقاً ولاحقاً؟ تلك الحركات التي أكبر أسباب فشلها ناتجٌ عن العجلة، وقلة الاستعداد المطلوب شرعاً وعقلاً؛ بل إن البعض الآن لا يتعجَّل قطف الثمار؛ لأنهم يعلمون - كما يصرِّحون - أن لا ثمار ولا نتيجة من وراء هذا العمل، ولكنهم يعملون لمجرد أنه لا يوجد طريق آخر بنظرهم!
- ففي القرآن:
التأكيد على هذه السنَّة العامة التي لا تختلف ولا تتبدَّل: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، ولذلك: فإنه حين تساءل المسلمون بعد هزيمة (أحد): أَنَّى هَذَا؟ جاءهم الجواب من الله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].
وعن المشكلة ذاتها كان تعقيب القرآن على غزوة (حنين): {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25].
كما تؤكد آيات القرآن وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ سبب الهزائم ينشأ من داخل الأمة بـ(الوهن الحضاري)، الذي لا يُنْتج إلا الاستسلام للأعداء، والكفّ عن منازلتهم.. كذلك تشهد لهذه القاعدة آيات الآفاق والأنفس.
ونظرةٌ واحدة في تاريخ المسلمين تؤكِّد أن ما لحق بالأمة - ولا يزال يلحق بها - إنما هو في الحقيقة عقوبات مستحقَّة .. وأن كلَّ أمة تستسلم للنوم؛ فإن الله يبعث عليها سوطاً يوقظها، سواء كان هذا (السوط) عدوّاً من الخارج، أو اضطراباً في الداخل.
"فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية ...كما أنه لا قيمة ولا وزن في نظر الإسلام للانتصار العسكري أو السياسي أو الاقتصادي، ما لم يقم هذا كله على أساس المنهج الرباني في الانتصار على النفس، والغَلَبَة على الهوى، والفوز على الشهوة، وتقرير الحق الذي أراده الله في حياة الناس؛ ليكون كلُّ نصر نصراً لله ولمنهج الله، وليكون كل جهد في سبيل الله ومنهج الله؛ وإلا فهي جاهلية تنتصر على جاهلية"[1].
فالجماعة المسلمة التي تريد أن تنتصر على عدوِّها لابد وأن تتزوَّد بمادة الإعداد، وهذه المادة لا تقتصر على آلة الحرب؛ بل يتحتم عليها التعبئة الكاملة، تلك التي أشارت إليها آيات غزوة (أحد) في سورة (آل عمران)؛ حيث لم تقتصر على معالجة الجماعة المسلمة في ميدان المعركة فقط؛ بل في ميدان النفس البشرية والحياة الواقعية، "ومن ثمَّ عرَّج السياق القرآني على الربا فنهى عنه، وعرج على الإنفاق في السرَّاء والضرَّاء فحضَّ عليه، وعرَّج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة، وعرَّج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان، والتطهُّر من الخطيئة بالاستغفار والتوبة وعدم الإصرار، فجعلها كلها مناط الرضوان، كما عرَّج على مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات، وعلى الأمانة التي تمنع الغُلُول، وعلى البذل والتحذير من البخل، في نهاية ما نزل في التعقيب على الغزوة من آيات، عرَّج على هذا كله؛ لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة في نطاقها الواسع"[2].
كما أننا لو تأملنا في هذه الغزوة: هل هي نصرٌ أم هزيمة؟ نجد اختلاف معايير النصر والهزيمة عند المؤرِّخين والعسكريين؛ فالمؤرِّخون يقوِّمون النصر والهزيمة على ضوء ما لحق الجيشين من الخسائر؛ فمن كانت خسارته أكثر فهو المهزوم، أما العسكريون فيقوِّمون النصر والهزيمة في المعارك على ضوء الأهداف التي تحقَّقت لكلٍّ من المتحاربَيْن؛ فالذي حقَّق أهدافه هو المنتصر، وإن كانت خسارته في القتلى والجرحى أكثر!
لقد أجمع المؤرِّخون على اعتبار أن نتيجة أحد نصرٌ للمشركين؛ لكن الحقائق العسكرية لا تتَّفق مع ما أجمع عليه المؤرِّخون؛ فإن فشل المشركين في القضاء على قوات المسلمين بعد إحاطتهم بقواتهم المتفوِّقة يعدُّ اندحاراً لهم، وإن نجاح المسلمين في الخروج من تطويق المشركين يعدُّ نصراً لهم[3].
وحتى نقف على التفسير الصحيح لهذه الحالة (الوهن)؛ فإنه لابد من أن نتعرَّف على أمور:
أولها: التعرف على الحكمة في قضاء الله وقدره:
فالله عزَّ وجلَّ - بعلمه الشامل، وحكمته البالغة - قدَّر وقضى أن يكون الصراع بين الحق والباطل موجوداً إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها، كما أن علينا أن ندرك طبيعة هذا الصراع، وأنه حربٌ ضروسٌ، لا يخمد لهيبها حتى تقوم الساعة، كما قال تعالى: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا} [البقرة: 217].
وهذا من أبلغ الحجج والبراهين على دحض افتراءات العلمانيين والمنافقين، الذين يزعمون أن الحرب الدينية اليوم قد انتهت، وحريٌّ بالعالم أن يوحِّد رايته، ويلتقي في الطريق، تحت ستار الأسرة الواحدة والشرعية الدولية، وعلى المعتقدات أن تبقى حبيسة دور العبادة والمحاريب، ولا تتعداها!!
لكنَّ أمة التوحيد لا تقبل هذا الهراء؛ فهي تعي - تماماً - الدور المناط بها، وتوقن أن ما قدَّره الله هو الخير، ويحوي في طيَّاته الرحمة والنعمة، وإن كان ظاهره الألم والمشقَّة؛ فهي أمةٌ تتوكَّل على مولاها – سبحانه - آخذةً بالأسباب، وتعي آثار أسماء الله الحسنى؛ فتتعبَّد ربها بموجبها، وتظهر في القلوب ثمراتها؛ فتطمئن لوعد الله، وتثق بنصره، لكن في ظل استمرار الحملات الشرسة على ديار المسلمين وأعراضهم تظهر تساؤلات من هنا وهناك:
أما آن لهذه المهانة أن تنقشع؟ أما آن لهذا الليل أن ينجلي؟ متى يبزغ فجر الإسلام؟
إن هذا ما تجسده الآية الكريمة التي يقول الله فيها: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
وقد ذكر صاحب "الظلال" بعض الأمور التي يتأخَّر النصر بسببها[4]؛ فمن ذلك:
- أن النصر قد يبطئ؛ لأن بنية الأمة لم تنضج بعدُ نضجها، ولم تستكمل قوتها واستعدادها.
- وقد يبطئ حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً إلا وتبذله رخيصاً في سبيل الله.
- وقد يبطئ حتى تجرِّب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها - بدون سند من الله - لا تكفل النصر.
- وقد يبطئ لأن البيئة لا تصلح بعدُ لاستقبال الحق والخير والعدل، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضةً من البيئة، لا يستقر معها قرارٌ.
- وقد يبطئ لتُزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، فتعلم يقيناً أنه لا ملجأ ولا منجا منه - سبحانه - إلا إليه.
- وقد يبطئ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرَّد بعدُ في كفاحها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققِّه، أو حميَّة لذاتها، أو شجاعة، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله.
- وقد يبطئ لأنَّ في الشرِّ الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرِّد الشرَّ منها؛ ليتمحض خالصاً.
- وقد يبطئ لأنَّ الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون؛ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه، فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشَّف عارياً للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية.
:861:
https://www.khlgy.com/do.php?img=126398 (https://www.khlgy.com/)