الباشق
07-17-2023, 10:45 AM
https://www.aljazeera.net/wp-content/uploads/2017/08/ddbbd394-c44c-40a7-b807-d7e023bf773b.jpeg?resize=686%2C513&quality=80
شهدت الفترة من أواخر القرن السادس عشر وحتى أوائل القرن الثامن عشر في الفن الغربي ظهور ما يُعرف بعصر الباروك،[1] في ذاك العصر شهدت الأعمال الفنيّة -سواء رسوم أو موسيقى أو أدب- حالة من الدراما المكثفة وزخم التفاصيل وملحمية الأحداث.
في تلك الفترة برز نجم رسام هولندي تميّزت أعماله بقوة تعبيرية هائلة، ومحتوى سردي ثري، وإتقان هائل للتفاصيل والأبعاد والمنظور، ولا يزال حتى اليوم واحدا من أهم وأشهر الرسامين في التاريخ، هذا الرسام هو رامبرانت فان راين (1606 – 1669).
تعالج أعمال رامبرانت المواضيع محل الطرح بأسلوب مسرحي سردي انفعالي، مع معالجة هائلة للظل والنور، ويظهر ذلك واضحا بالذات في لوحتي "ورديّة الليل" (The Night Watch)، ولوحة[3] "درس التشريح مع الدكتور تولب" (Anatomy lesson with Dr. Tulp).
https://www.aljazeera.net/wp-content/uploads/2017/09/cd15c892-9ca7-469e-ac92-db4d734a87a4.jpeg?quality=80
لوحة "درس التشريح مع الدكتور تولب" (مواقع التواصل)
ولا تزال حتّى اليوم لوحته "وردية الليل" (1642) أحد أشهر أعماله وإحدى أشهر اللوحات في التاريخ. اللوحة بحجم خمسة أمتار في أربعة أمتار، وقد رسم رامبرانت اللوحة بطلب من فرقة الكابتن فرانس بانينغ كوك، وهي فرقة تضُمّ مجموعة من الحُرّاس المُكلّفين بحراسة أحد أحياء أمستردام، لتعليقها في القاعة الكبرى لمبنى تابع لهم كنوع من التأريخ لبطولاتهم.
وفي عام 1678 قام صمويل فان هوغستراتن (Samuel van Hoogstraten) -وهو أحد تلاميذ رامبرانت- بنشر دراسة عن تلك اللوحة مُقرا بأنّها أحد أهم أعمال رامبرانت على الإطلاق، لما تنطوي عليه من أناقة ودقة في تصوير الأشخاص وتوزيع الظل والضوء دون الافتقار لحسّ الملحميّة الذي ميّز جميع أعمال الباروك.[4]
ويرى هوغستراتن أن اللوحة يُميّزها ثلاث نقاط رئيسة:
– الحجم الهائل
– دراماتيكية الظّل والنور
– الصوت والحركة المُفرطة في مشهد صامت ثابت
المشهد الثابت الذي لا يتوقف عن الحركة
عند التأمل في موضوع اللوحة نرى أنّ ذلك المشهد الصامت الثابت لا يهدأ ولا يتوقف عن الحركة، فالكابتن كوك الذي يتوسط المشهد في منتصف اللوحة وهو يتحدث إلى أحد معاونيه رافعا يده وفاتحا فاه، وكأنه يُعطي الأوامر للتو ليتحرك الحرس، والحرس بدورهم يلبون الأمر منهمكين في شحذ أسلحتهم وتلميعها ورفعها.
وفيما يُغلف اللوحة بأسرها مشهد الليل -زمن حدوث المشهد- فإن رامبرانت استطاع توزيع الظلام والنور بحسّ دراماتيكي، وإذا كان الليل موجودا بحكم أن الحدث يقع ليلا فما مصدر النور؟ في الواقع أن النور الموزع بدقة وإتقان على الحُراس ومتاعهم وأسلحتهم لا مصدر له في اللوحة، وهذا أحد أسباب عبقريتها، إنه نور لا مصدر له، موزع بدقة لا تتناقض ولا تُفسد مشهد الليل العام.
قدرة رامبرانت على تحويل مشهد ليلي لعدد من الحراس إلى مشهد مضيء مليء يفور بالحركة ظل على مر عقود محط إعجاب العديد من نُقّاد الفن. أسلحة، وجنود، وفرس، وقائد يأمر وينهى ويتحرك ناحية المشاهد، وطبل على أقصى يمين اللوحة، كل ذلك يأمر الرائي بأن يتحرك من أمام اللوحة حتى لا يقطع الطريق أمام وردية الليل، لكن هذا الإعجاب أتى بعد سنوات وليس عند صدور العمل.
هجوم النُقّاد وخلق الأسطورة
رغم أنّ "ورديّة الليل" تُعتبر الآن عملا أسطوريا فإنها لم تلق حفاوة من النقاد ولا من فرقة الكابتن كوك الذين تعاقدوا مع رامبرانت على رسمها مُقابل مبلغ ضخم من المال. السبب في ذلك أن اللوحة لا تُظهر أيا من أفراد الحرس في مجموعة الكابتن كوك بالشكل الذي أراده، فقد ظنّ الفريق أن كل واحد منهم سيظهر بوضوح مُتعرف عليه في اللوحة، لكن على العكس، لم يتم التعرف على أي منهم كما في لوحة "درس التشريح" التي تم التعرف على جميع شخوص أطبائها بالاسم والشكل.
https://www.aljazeera.net/wp-content/uploads/2017/09/650f3066-745c-48bb-a541-6b8221c697b9.jpeg?quality=80
الرسام الهولندي رامبرانت فان راين (1606-1669م) (مواقع التواصل)
الغضب الذي لاقاه العمل من مجموعة الكابتن كوك زاده رفض النُقاد للعمل، فمنذ مطلع عام 1640 بدأ الفنّ الهولندي يشهد تحولا في الذوق ناحية الألوان الزاهية وبساطة التفاصيل، بعيدا عن زخم الباروك الذي يغرق فيه المشاهد، بالتالي فإن لوحة رامبرانت لم تكن على هوى رواد الصالونات الفنية ونُقادها في تلك الفترة، وحتّى الآن يُعتبر فشل اللوحة في حصاد إعجاب الأواسط الفنية في هولندا في ذاك الوقت محل تركيز بأن لوحة أسطورية كـ "وردية الليل" فشلت في أول عرضها فشلا ذريعا.
رغم فشلها في البداية فإن "وردية الليل" نجحت في حجز مقعد لها بمرور الوقت حتى عادت لمركز الصدارة في قائمة أشهر اللوحات في التاريخ، لتنافس "الموناليزا" و"العشاء الأخير" و"ليلة النجوم" لفان جوخ. ومرد ذلك أن الأسلوب الذي رُسمت به اللوحة -وإن كان على عكس هوى الأواسط الفنيّة الهولندية في تلك الفترة- في ذاته كان أسلوبا عميقا وذكيا ومثقلا بالموهبة التي أثبتت نجاحها وقدرتها على تجاوز التوجهات المرحلية لتُخلد نفسها على مر التاريخ.
الشاهد أن فشل عمل فني ما ليس بالضرورة عن عيب في العمل أو فقر في الموهبة أو ذكاء الفنّان، على العكس، قد يكون الفشل مرحليا وسببه المُتلقي وليس المُبدع. جدير بالذكر أن الخطوط الجوية الهولندية استخدمت اللوحة لاحقا في الدعاية السياحية من باب ترغيب الناس في زيارة هولندا ومشاهدة "وردية الليل" بوصفها عملا وطنيا مُعبّر عن الهوية الهولندية.
شهدت الفترة من أواخر القرن السادس عشر وحتى أوائل القرن الثامن عشر في الفن الغربي ظهور ما يُعرف بعصر الباروك،[1] في ذاك العصر شهدت الأعمال الفنيّة -سواء رسوم أو موسيقى أو أدب- حالة من الدراما المكثفة وزخم التفاصيل وملحمية الأحداث.
في تلك الفترة برز نجم رسام هولندي تميّزت أعماله بقوة تعبيرية هائلة، ومحتوى سردي ثري، وإتقان هائل للتفاصيل والأبعاد والمنظور، ولا يزال حتى اليوم واحدا من أهم وأشهر الرسامين في التاريخ، هذا الرسام هو رامبرانت فان راين (1606 – 1669).
تعالج أعمال رامبرانت المواضيع محل الطرح بأسلوب مسرحي سردي انفعالي، مع معالجة هائلة للظل والنور، ويظهر ذلك واضحا بالذات في لوحتي "ورديّة الليل" (The Night Watch)، ولوحة[3] "درس التشريح مع الدكتور تولب" (Anatomy lesson with Dr. Tulp).
https://www.aljazeera.net/wp-content/uploads/2017/09/cd15c892-9ca7-469e-ac92-db4d734a87a4.jpeg?quality=80
لوحة "درس التشريح مع الدكتور تولب" (مواقع التواصل)
ولا تزال حتّى اليوم لوحته "وردية الليل" (1642) أحد أشهر أعماله وإحدى أشهر اللوحات في التاريخ. اللوحة بحجم خمسة أمتار في أربعة أمتار، وقد رسم رامبرانت اللوحة بطلب من فرقة الكابتن فرانس بانينغ كوك، وهي فرقة تضُمّ مجموعة من الحُرّاس المُكلّفين بحراسة أحد أحياء أمستردام، لتعليقها في القاعة الكبرى لمبنى تابع لهم كنوع من التأريخ لبطولاتهم.
وفي عام 1678 قام صمويل فان هوغستراتن (Samuel van Hoogstraten) -وهو أحد تلاميذ رامبرانت- بنشر دراسة عن تلك اللوحة مُقرا بأنّها أحد أهم أعمال رامبرانت على الإطلاق، لما تنطوي عليه من أناقة ودقة في تصوير الأشخاص وتوزيع الظل والضوء دون الافتقار لحسّ الملحميّة الذي ميّز جميع أعمال الباروك.[4]
ويرى هوغستراتن أن اللوحة يُميّزها ثلاث نقاط رئيسة:
– الحجم الهائل
– دراماتيكية الظّل والنور
– الصوت والحركة المُفرطة في مشهد صامت ثابت
المشهد الثابت الذي لا يتوقف عن الحركة
عند التأمل في موضوع اللوحة نرى أنّ ذلك المشهد الصامت الثابت لا يهدأ ولا يتوقف عن الحركة، فالكابتن كوك الذي يتوسط المشهد في منتصف اللوحة وهو يتحدث إلى أحد معاونيه رافعا يده وفاتحا فاه، وكأنه يُعطي الأوامر للتو ليتحرك الحرس، والحرس بدورهم يلبون الأمر منهمكين في شحذ أسلحتهم وتلميعها ورفعها.
وفيما يُغلف اللوحة بأسرها مشهد الليل -زمن حدوث المشهد- فإن رامبرانت استطاع توزيع الظلام والنور بحسّ دراماتيكي، وإذا كان الليل موجودا بحكم أن الحدث يقع ليلا فما مصدر النور؟ في الواقع أن النور الموزع بدقة وإتقان على الحُراس ومتاعهم وأسلحتهم لا مصدر له في اللوحة، وهذا أحد أسباب عبقريتها، إنه نور لا مصدر له، موزع بدقة لا تتناقض ولا تُفسد مشهد الليل العام.
قدرة رامبرانت على تحويل مشهد ليلي لعدد من الحراس إلى مشهد مضيء مليء يفور بالحركة ظل على مر عقود محط إعجاب العديد من نُقّاد الفن. أسلحة، وجنود، وفرس، وقائد يأمر وينهى ويتحرك ناحية المشاهد، وطبل على أقصى يمين اللوحة، كل ذلك يأمر الرائي بأن يتحرك من أمام اللوحة حتى لا يقطع الطريق أمام وردية الليل، لكن هذا الإعجاب أتى بعد سنوات وليس عند صدور العمل.
هجوم النُقّاد وخلق الأسطورة
رغم أنّ "ورديّة الليل" تُعتبر الآن عملا أسطوريا فإنها لم تلق حفاوة من النقاد ولا من فرقة الكابتن كوك الذين تعاقدوا مع رامبرانت على رسمها مُقابل مبلغ ضخم من المال. السبب في ذلك أن اللوحة لا تُظهر أيا من أفراد الحرس في مجموعة الكابتن كوك بالشكل الذي أراده، فقد ظنّ الفريق أن كل واحد منهم سيظهر بوضوح مُتعرف عليه في اللوحة، لكن على العكس، لم يتم التعرف على أي منهم كما في لوحة "درس التشريح" التي تم التعرف على جميع شخوص أطبائها بالاسم والشكل.
https://www.aljazeera.net/wp-content/uploads/2017/09/650f3066-745c-48bb-a541-6b8221c697b9.jpeg?quality=80
الرسام الهولندي رامبرانت فان راين (1606-1669م) (مواقع التواصل)
الغضب الذي لاقاه العمل من مجموعة الكابتن كوك زاده رفض النُقاد للعمل، فمنذ مطلع عام 1640 بدأ الفنّ الهولندي يشهد تحولا في الذوق ناحية الألوان الزاهية وبساطة التفاصيل، بعيدا عن زخم الباروك الذي يغرق فيه المشاهد، بالتالي فإن لوحة رامبرانت لم تكن على هوى رواد الصالونات الفنية ونُقادها في تلك الفترة، وحتّى الآن يُعتبر فشل اللوحة في حصاد إعجاب الأواسط الفنية في هولندا في ذاك الوقت محل تركيز بأن لوحة أسطورية كـ "وردية الليل" فشلت في أول عرضها فشلا ذريعا.
رغم فشلها في البداية فإن "وردية الليل" نجحت في حجز مقعد لها بمرور الوقت حتى عادت لمركز الصدارة في قائمة أشهر اللوحات في التاريخ، لتنافس "الموناليزا" و"العشاء الأخير" و"ليلة النجوم" لفان جوخ. ومرد ذلك أن الأسلوب الذي رُسمت به اللوحة -وإن كان على عكس هوى الأواسط الفنيّة الهولندية في تلك الفترة- في ذاته كان أسلوبا عميقا وذكيا ومثقلا بالموهبة التي أثبتت نجاحها وقدرتها على تجاوز التوجهات المرحلية لتُخلد نفسها على مر التاريخ.
الشاهد أن فشل عمل فني ما ليس بالضرورة عن عيب في العمل أو فقر في الموهبة أو ذكاء الفنّان، على العكس، قد يكون الفشل مرحليا وسببه المُتلقي وليس المُبدع. جدير بالذكر أن الخطوط الجوية الهولندية استخدمت اللوحة لاحقا في الدعاية السياحية من باب ترغيب الناس في زيارة هولندا ومشاهدة "وردية الليل" بوصفها عملا وطنيا مُعبّر عن الهوية الهولندية.