رحيل
06-09-2023, 09:52 AM
حُبُّ أبي حَنِيفةَ من الإيمان(1 (https://www.dorar.net/article/2074/%D8%AD%D8%A8-%D8%A3%D8%A8%D9%8A-%D8%AD%D9%86%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86#sdfootn ote1sym))
علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف
المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية
8 صفر 1444هـ
الحَمدُ للهِ القائِلِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10]، والصَّلاةُ والسَّلامُ على خيرِ الأنامِ القائِلِ: (مَنْ أحبَّ للهِ وأبغَضَ للهِ، وأعطى للهِ ومنَعَ للهِ؛ فقَدِ استكمَلَ الإيمانَ)(2).
أمَّا بعدُ:
وُلِد الإمامُ أبو حنيفةَ النُّعمانُ بنُ ثابتٍ -رحمه اللهُ- عام 80 للهِجرةِ النَّبويَّةِ، ويُعدُّ من صغارِ التَّابعينَ؛ فقد أدرك عَصرَ الصَّحابةِ، ورأى أنسَ بنَ مالكٍ رضي اللهُ عنه، وقيل: أدرَكَ غيرَه، ولم يَرْوِ عن أحدٍ منهم شيئًا(3)، وقد كثُر الكلامُ حولَه قديمًا بين مادحٍ مُغالٍ وذامٍّ مُجافٍ، واتُّهِم في عقيدتِه بالإرجاءِ، والقولِ بخلقِ القرآنِ، ومفارقةِ منهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، بل وصل الأمرُ عند البعض إلى تكفيرِه! نسألُ اللهَ السَّلامةَ. فكان -رحمه الله- (يُحسَدُ ويُنسَبُ إليه ما ليس فيه، ويُختَلَقُ عليه ما لا يليقُ به)(4)، قال عبدُ اللهِ بنُ محمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ: (اعلَمْ أنَّ كثيرًا من المصنِّفينَ ينسُبُ إلى أئمَّةِ الإسلامِ ما لم يقولوه، فينسُبونَ إلى الشَّافعيِّ، ومالكٍ، وأحمدَ، وأبي حنيفةَ؛ من الاعتقاداتِ الباطلةِ ما لم يقولوه) (5).
والكلامُ في هذا الإمامِ قديمٌ مُنذُ القَرنِ الثَّاني والثَّالثِ، أوردَ كثيرًا منه عبدُ اللهِ بنُ الإمامِ أحمدَ -رحمهما اللهُ- في كتابِه السُّنَّة، وكانت فتنةً وقى اللهُ المُسلِمينَ شرَّها، ثمَّ خمَدت، وتضافَرت أقوالُ السَّلَفِ في طَيِّها والسُّكوتِ عنها، وعدَمِ إثارتِها، وفي أوِّلِ عَصرِ ثورةِ الطِّباعةِ طُبِع كتابُ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ طبعاتٍ بدونِ ما ذكَرَه من مثالِبَ على الإمامِ أبي حنيفةَ، ثمَّ طُبِع مؤخَّرًا طبعةً فيها الكلامُ عليه، فتلقَّفَتْه نابتةٌ ظَنَّت نفسَها أنَّها أغيَرُ على منهجِ السَّلَفِ وعلى جَنابِ التَّوحيدِ من أئمَّةِ وعُلَماءِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ الذين طوَوا هذه الصَّفحةَ وأثنَوا على الإمامِ؛ فقامت هذه الفِئةُ بنَشرِ كُلِّ رذيلةٍ وتُهمةٍ اتُّهِم بها الإمامُ أبو حنيفةَ، وتلقَّف هذا بعضُ قليلي العِلمِ والفَهمِ والحِكمةِ، ونشروه رافعينَ رايةَ الذَّبِّ عن حِياضِ الدِّين ِوالمنهجِ السَّلفيِّ، ضاربينَ بأقوالِ أئمَّةِ المنهجِ السَّلَفيِّ عُرْضَ الحائطِ، وقام آخَرونَ بالرَّدِّ عليهم لتفنيدِ كلامِهم، فأصابوا وأخطؤوا، ومِن هؤلاء وهؤلاء من وضع الإمامَ في الميزانِ؛ ليرى أين ترجَحُ كِفَّتُه: في قَدحِه أم مدحِه؛ ليخرجوا بعد ذلك بنتيجةٍ: هل هو من أئمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، أم من أئمَّةِ أهلِ الضَّلالِ والبِدَعِ، بَلْهَ الكُفرِ؟! فيا سُبحانَ اللهِ!
وإنَّه لمِنَ الخطأِ المنهجيِّ أن يوضَعَ إمامٌ كأبي حنيفةَ ومن في طبَقتهِ في ميزانِ التَّرجيحِ، وليس معنى هذا عدمَ النَّقدِ؛ فليس في الإسلامِ معصومٌ إلَّا الأنبياءُ، لكِنْ نَقدُ العالِمِ وتخطئتُه فيما أخطأ وخالف فيه الصَّوابَ شَيءٌ، ووضْعُه في ميزانِ التَّجريحِ والتَّرجيحِ وجمعُ أقوالِ الذَّامِّينَ والمادِحينَ لترجيح ِكِفَّةِ أحَدِهما على الآخَرِ شَيءٌ آخَرُ مرفوضٌ، رفَضَه عُلَماءُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ. وهذا العلَّامةُ الذَّهبيُّ لَمَّا ألَّف كتابَه "ميزانُ الاعتدالِ" أبى أن يضَعَ أبا حنيفةَ ومن هم في طبقتِه في الميزانِ، فقال في مقدِّمةِ كتابه: (لا أذكُرُ في كتابي من الأئمَّةِ المتبوعينَ في الفُروعِ أحدًا؛ لجلالتِهم في الإسلامِ وعظمتِهم في النُّفوسِ، مِثلُ أبي حنيفةَ، والشَّافعيِّ، والبُخاريِّ)(6)، وتَبِعه على ذلك الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ في "لِسان الميزانِ"، ولم يذكُرْه رغمَ أنَّه في اللِّسانِ زاد زياداتٍ على الميزانِ. أفلا تأدَّبَ هؤلاء بأدبِ العُلَماءِ مع العُلَماءِ؟!
فمِن الخطأِ البحثُ في عدالةِ وديانةِ الأئمَّةِ المتبوعينَ، كأبي حنيفةَ، ومالكٍ، وغيرِهما؛ قال أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ: (إنَّ الرَّاويَ لا يخلو إمَّا أن يكونَ معلومَ العَدالةِ، أو معلومَ الفِسقِ، أو مجهولَ الحالِ؛ فإن كانت عدالتُه معلومةً كالصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، أو أفاضِلِ التَّابعينَ؛ كالحسَنِ، وعطاءٍ، والشَّعبيِّ، والنَّخعيِّ، وأجلَّاءِ الأئمَّةِ؛ كمالكٍ، وسُفيانَ، وأبي حنيفةَ، والشَّافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ، ومَن يجري مجراهم- وجَب قَبولُ خَبرِه، ولم يجِبِ البحثُ عن عدالتِه)(7)، أمَّا ضَعفُه في الحديثِ وخِفَّةُ ضبطِه، فهذا لا يقدَحُ في عدالتِه وعقيدتِه وديانتِه.
وربَّما كانت مُصادمةُ الكِبارِ وتسفيهُهم والحطُّ من شأنِهم والوَلَعُ بالرَّدِّ عليهم سمةً عِندَ البَعضِ يغتَرُّ بها الصِّغارُ لخلَلٍ في التصوُّرِ، وهو ظنُّهم أنَّ الرَّادَّ أكثَرُ تمسُّكًا بمنهجِ السَّلَفِ من المردودِ عليه والسَّاكتينَ عنه.
لذلك فلن أسلُكَ في هذه المقالةِ القصيرةِ هذا المسلَكَ المُعوَجَّ، لكِنْ سأبنيها على ثلاثةِ محاوِرَ
علوي بن عبدالقادر السَّقَّاف
المشرف العام على مؤسسة الدرر السنية
8 صفر 1444هـ
الحَمدُ للهِ القائِلِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10]، والصَّلاةُ والسَّلامُ على خيرِ الأنامِ القائِلِ: (مَنْ أحبَّ للهِ وأبغَضَ للهِ، وأعطى للهِ ومنَعَ للهِ؛ فقَدِ استكمَلَ الإيمانَ)(2).
أمَّا بعدُ:
وُلِد الإمامُ أبو حنيفةَ النُّعمانُ بنُ ثابتٍ -رحمه اللهُ- عام 80 للهِجرةِ النَّبويَّةِ، ويُعدُّ من صغارِ التَّابعينَ؛ فقد أدرك عَصرَ الصَّحابةِ، ورأى أنسَ بنَ مالكٍ رضي اللهُ عنه، وقيل: أدرَكَ غيرَه، ولم يَرْوِ عن أحدٍ منهم شيئًا(3)، وقد كثُر الكلامُ حولَه قديمًا بين مادحٍ مُغالٍ وذامٍّ مُجافٍ، واتُّهِم في عقيدتِه بالإرجاءِ، والقولِ بخلقِ القرآنِ، ومفارقةِ منهَجِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، بل وصل الأمرُ عند البعض إلى تكفيرِه! نسألُ اللهَ السَّلامةَ. فكان -رحمه الله- (يُحسَدُ ويُنسَبُ إليه ما ليس فيه، ويُختَلَقُ عليه ما لا يليقُ به)(4)، قال عبدُ اللهِ بنُ محمَّدِ بنِ عبدِ الوهَّابِ: (اعلَمْ أنَّ كثيرًا من المصنِّفينَ ينسُبُ إلى أئمَّةِ الإسلامِ ما لم يقولوه، فينسُبونَ إلى الشَّافعيِّ، ومالكٍ، وأحمدَ، وأبي حنيفةَ؛ من الاعتقاداتِ الباطلةِ ما لم يقولوه) (5).
والكلامُ في هذا الإمامِ قديمٌ مُنذُ القَرنِ الثَّاني والثَّالثِ، أوردَ كثيرًا منه عبدُ اللهِ بنُ الإمامِ أحمدَ -رحمهما اللهُ- في كتابِه السُّنَّة، وكانت فتنةً وقى اللهُ المُسلِمينَ شرَّها، ثمَّ خمَدت، وتضافَرت أقوالُ السَّلَفِ في طَيِّها والسُّكوتِ عنها، وعدَمِ إثارتِها، وفي أوِّلِ عَصرِ ثورةِ الطِّباعةِ طُبِع كتابُ عبدِ اللهِ بنِ أحمدَ طبعاتٍ بدونِ ما ذكَرَه من مثالِبَ على الإمامِ أبي حنيفةَ، ثمَّ طُبِع مؤخَّرًا طبعةً فيها الكلامُ عليه، فتلقَّفَتْه نابتةٌ ظَنَّت نفسَها أنَّها أغيَرُ على منهجِ السَّلَفِ وعلى جَنابِ التَّوحيدِ من أئمَّةِ وعُلَماءِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ الذين طوَوا هذه الصَّفحةَ وأثنَوا على الإمامِ؛ فقامت هذه الفِئةُ بنَشرِ كُلِّ رذيلةٍ وتُهمةٍ اتُّهِم بها الإمامُ أبو حنيفةَ، وتلقَّف هذا بعضُ قليلي العِلمِ والفَهمِ والحِكمةِ، ونشروه رافعينَ رايةَ الذَّبِّ عن حِياضِ الدِّين ِوالمنهجِ السَّلفيِّ، ضاربينَ بأقوالِ أئمَّةِ المنهجِ السَّلَفيِّ عُرْضَ الحائطِ، وقام آخَرونَ بالرَّدِّ عليهم لتفنيدِ كلامِهم، فأصابوا وأخطؤوا، ومِن هؤلاء وهؤلاء من وضع الإمامَ في الميزانِ؛ ليرى أين ترجَحُ كِفَّتُه: في قَدحِه أم مدحِه؛ ليخرجوا بعد ذلك بنتيجةٍ: هل هو من أئمَّةِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، أم من أئمَّةِ أهلِ الضَّلالِ والبِدَعِ، بَلْهَ الكُفرِ؟! فيا سُبحانَ اللهِ!
وإنَّه لمِنَ الخطأِ المنهجيِّ أن يوضَعَ إمامٌ كأبي حنيفةَ ومن في طبَقتهِ في ميزانِ التَّرجيحِ، وليس معنى هذا عدمَ النَّقدِ؛ فليس في الإسلامِ معصومٌ إلَّا الأنبياءُ، لكِنْ نَقدُ العالِمِ وتخطئتُه فيما أخطأ وخالف فيه الصَّوابَ شَيءٌ، ووضْعُه في ميزانِ التَّجريحِ والتَّرجيحِ وجمعُ أقوالِ الذَّامِّينَ والمادِحينَ لترجيح ِكِفَّةِ أحَدِهما على الآخَرِ شَيءٌ آخَرُ مرفوضٌ، رفَضَه عُلَماءُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ. وهذا العلَّامةُ الذَّهبيُّ لَمَّا ألَّف كتابَه "ميزانُ الاعتدالِ" أبى أن يضَعَ أبا حنيفةَ ومن هم في طبقتِه في الميزانِ، فقال في مقدِّمةِ كتابه: (لا أذكُرُ في كتابي من الأئمَّةِ المتبوعينَ في الفُروعِ أحدًا؛ لجلالتِهم في الإسلامِ وعظمتِهم في النُّفوسِ، مِثلُ أبي حنيفةَ، والشَّافعيِّ، والبُخاريِّ)(6)، وتَبِعه على ذلك الحافِظُ ابنُ حَجَرٍ في "لِسان الميزانِ"، ولم يذكُرْه رغمَ أنَّه في اللِّسانِ زاد زياداتٍ على الميزانِ. أفلا تأدَّبَ هؤلاء بأدبِ العُلَماءِ مع العُلَماءِ؟!
فمِن الخطأِ البحثُ في عدالةِ وديانةِ الأئمَّةِ المتبوعينَ، كأبي حنيفةَ، ومالكٍ، وغيرِهما؛ قال أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ: (إنَّ الرَّاويَ لا يخلو إمَّا أن يكونَ معلومَ العَدالةِ، أو معلومَ الفِسقِ، أو مجهولَ الحالِ؛ فإن كانت عدالتُه معلومةً كالصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، أو أفاضِلِ التَّابعينَ؛ كالحسَنِ، وعطاءٍ، والشَّعبيِّ، والنَّخعيِّ، وأجلَّاءِ الأئمَّةِ؛ كمالكٍ، وسُفيانَ، وأبي حنيفةَ، والشَّافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاقَ، ومَن يجري مجراهم- وجَب قَبولُ خَبرِه، ولم يجِبِ البحثُ عن عدالتِه)(7)، أمَّا ضَعفُه في الحديثِ وخِفَّةُ ضبطِه، فهذا لا يقدَحُ في عدالتِه وعقيدتِه وديانتِه.
وربَّما كانت مُصادمةُ الكِبارِ وتسفيهُهم والحطُّ من شأنِهم والوَلَعُ بالرَّدِّ عليهم سمةً عِندَ البَعضِ يغتَرُّ بها الصِّغارُ لخلَلٍ في التصوُّرِ، وهو ظنُّهم أنَّ الرَّادَّ أكثَرُ تمسُّكًا بمنهجِ السَّلَفِ من المردودِ عليه والسَّاكتينَ عنه.
لذلك فلن أسلُكَ في هذه المقالةِ القصيرةِ هذا المسلَكَ المُعوَجَّ، لكِنْ سأبنيها على ثلاثةِ محاوِرَ