Şøķåŕą
05-21-2023, 10:03 PM
نحن أولى بإسرائيل عليه السلام منهم (3)
ومما قيل في معنى إسرا: مُكافِح، أو مُجاهِد، أو مُصارِع، أو مُقاتِل، فهو مُجاهِد الله، أي أنه الذي يُجاهِد لأجل الله.
وهذا المعنى مما ينبغي استبعاد صحته؛ إذ هو مُرْتَبِط بقصة جاءت في الباب الثاني والثلاثين من سِفْر التكوين عن يعقوب عليه السلام، ولم يطلق لقب إسرائيل على يعقوب عليه السلام إلا بعد وقوع تلك القصة كما تزعم التوراة الموجودة بين أيدي الناس اليوم؛ ففي الموضع المذكور: "وتَخَلَّف هو وحده، وهو ذا رجل، فكان يُصارِعه إلى الفجر، وحين نظر أنه لا يقوى به، فجَسَ[1] عِرْق وَرْكه، ولساعته ذَبَل، وقال له: أَطْلِقْني؛ لأنه قد أَسْفَر الصُّبح، قال له: لا أُطْلِقُك أو تُباركني، فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، قال: لا يُدعي اسمك يعقوب، بل إسرائيل، من أجل أنك إن كنت قويت مع اللّه، فكم بالحَرِيِّ لك قوة في الناس، فسأله يعقوب: عَرِّفْني ما اسمك؟ فقال له: لم تسأل عن اسمي؟ وباركه في ذلك المكان، فدعا يعقوب اسم ذلك المكان فنوائل، قائلًا: رأيت اللّه وجهًا لوجه، وتَخَلَّصْت نفسي".
وفي هذه القصة من الكفر بالله تعالى، والكذب على يعقوب عليه السلام ما يعجز اللسان والقلم عن بيان عِظَمه، تعالى الله عما يقول الظالمون عُلوًا كبيرًا، وحاشا أنبياء الله تعالى أن ينسبوا العَجْز والضعف للكبير المُتعال، جَلَّ في عُلاه.
فيظهر - والله تعالى أعلم - ضرورة تحاشي تفسير اللقب موضع البحث وفقا لذلك المعنى، حتى وإن كان اللفظ محتملًا لمعنى المجاهدة لأجل الله تعالى، والتشرف بانتساب الجندي المقاتل له سبحانه حين يلقب بجندي الله.
والعِلَّة في ضرورة التَّحاشِي المذكور واضحة جَلِيَّة؛ ألا وهي الحرص على عدم التباس المعنى الصواب الذي وَجَّهْنا به اللَّفْظ تَوجيهًا شرعيًا موافقًا للُّغَة بالمعنى المَقْبوح وَثيق الصِّلْة بالقصة المُسْتَشْنَعَة الفائِتة، لا سيما وقد خَلَتْ المصادر الإسلامية المَوثوقة[2] المُتَوَفِّرَة بين أيدينا من تفسير اللَّقَب وَفْقًا لذلك المعنى، أو إيراد ما قد يُفيد في صَرْف المُراد إليه.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية[3]: «يسرائيل» كلمة عِبْرِيَّة قديمة غامضة المعنى، يمكن تقسيمها إلى «يسرا»، أي الذي يَحْتَرِب، أو يُصارِع، و«إيل» وهو الأصل السَّامي لكلمة «إله»، والكلمة تعني حرفيًا: «الذي يُصارِع الإله»، أو «جندي الإله إيل»، وفي كل التفسيرات معنيان أساسيان هما: معنى الصراع والحرب، ومعنى القداسة.
قال الدكتور المسيري: وقد اكتسب يعقوب هذا الاسم بعد أن صارَع الإله[4] في حادثة غامضة لا يُفهَم مكنونها أو دلالتها، ثم أورد القصة المذكورة التي سنُكَرِّرُها نَقْلًا عنه؛ لوجود بعض اختلافات في ألفاظها.
قال - نقلًا عن التوراة: «فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه، ضرب حُقَّ فَخِذه[5]، فانخلع حُقُّ فَخِذ يعقوب في مُصارعته معه، وقال: أطلقني؛ لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أُطْلِقك إن لم تباركني، فقال: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، فقال: لا يُدعَى اسمك فيما بعد يعقوب، بل يسرائيل؛ لأنك جاهدت مع الإله، والناس، وقدرت، وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك؟ فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك» (تكوين 32/25 ـ 29).
ثم قال تعليقًا عليها: والقصة متأثرة بعناصر الملحمة الأكادية، حيث يكتسب البطل بصراعه المادي مع الإله صفات تجعله فوق البشر، أو نصف إله، وتُكْسِبه بانتصاره على الإله[6] حق نُصْرة الإله له دائمًا في علاقاته مع الآخرين، وهذا الصراع مع الإله يُشبه وقائع مماثلة في الأساطير اليونانية، انتهى كلامه.
وقد فَسَّر أحبارُ أهل الكتاب القِصَّة على غير ظاهرها، وذهبوا إلى كون مُصارِع يعقوب عليه السلام فيها إنما كان مَلَكًا من الملائكة، وأن إطلاق لفظ الله تعالى عليه قد جاء على سبيل المجاز فحسب.
وقد أنكر الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في رده على ابن النغريلة اليهودي[7] هذا التأويل إنكارًا شديدًا، فقال: ولا يجرؤ منهم أحد، فيقول: إن المُصارع ليعقوب كان مَلَكًا، فإن لفظ اسم المُصارع له في توراتهم "إلوهيم" وهذا هو اسم الله تعالى وحده بالعِبْرِيَّة، انتهى.
ولكن الذَّاهِبين إلى تأويل النَّص على النحو المذكور قد أوردوا أمثلة من التوراة على إطلاق اسم الله تعالى على مَلَك من ملائكته الكرام؛ فقد قال الشيخ العلامة رحمة الله الهندي رحمه الله تعالى في إظهار الحق[8] عقب ذكر عدة نصوص تشير إلى نفس القصة: فظهر من الآية الحادية عشرة، والثالثة عشرة من الباب الحادي والثلاثين: أن الذي ظهر على يعقوب عليه السلام ووعده، وعهد ونذر يعقوب عليه السلام معه كان مَلَكًا، وجاء إطلاق لفظ مثل اللّه عليه في العبارات المذكورة في أزيد من ثمانية عشر موضعًا.
وقال بعد إيراد النص المذكور أعلاه[9]: وهذا المُصارع كان مَلَكاً؛ لما عَرَفْت، ولأنه يلزم أن يكون إله بني إسرائيل في غاية العجز والضعف؛ حيث صارع يعقوبَ عليه السلام إلى الفجر، ولم يغلب عليه بدون الحِيلة، ولأن كلام هوشع نصٌ في هذا الباب، في الباب الثاني عشر من كتابه هكذا: "في البطن عقب أخاه، وفي جبروته أفلح معه الملاك" وغلب الملك، وتقوّى، وبكى، وسأله، ووجده في بيت إيل، وهناك كلمنا" فأطلق عليه لفظ اللّه في الموضعين، انتهى.
وقد ورد في مواضع غير مَحْصورة من كتب العهدين إطلاق لفظ الجلالة (الله) على المَلَك، وعلى موسى عليه السلام، وعلى الإنسان الكامل، وعلى آحاد الناس، بل وعلى الشيطان الرجيم؛ وذلك لأنه يكون لإطلاق مثل هذا اللفظ على غير الله تعالى وجه مناسب لكل محل، ويدل سَوْق الكلام على ذلك الوجه، بحيث لا يشتبه على الناظر في بادي الرأي.[10]
وإنما ذهب الشيخ رحمة الله الهندي رحمه الله تعالى هذا المَذْهَب؛ إلزامًا لأحبار أهل الكتاب الذين يؤولون أمثال هذه النصوص الفَجَّة بانتفاء الغَضاضة عن تأويل علماء المسلمين لما يُشْكِل من نصوص الكتاب والسنة[11]، مع الأخذ في الاعتبار أن نظرة الشيخ رحمه الله تعالى للتأويل نابعة من موقف فرقة الأشاعرة له، كما هو ظاهر من النظر في كتابه المذكور آنفًا، شأنه في ذلك شأن جُلِّ مُعاصِريه، غفر الله لهم.
ولا يَبْعُد أن يكون التناقض المذكور في التوراة نوعًا من التَّخَبُّط، أَحْدَثه إقدامُهم على تحريف كلام الله تعالى عن مَواضعه؛ ليشتروا به ثمنا قليلًا، بل هذا هو المُتَبادِر القريب.
وقد جاءت بعض الآثار عن السَّلَف، تَحْوِي بعض ما ذَكَرَته تلك القِصَّة، دون أن تَحْوِي المَعْنى الكُفْرِي الفَجِّ المذكور آنفًا.
فقد أَخْرَج عَبْدُ بن حُمَيْد، وابن المنذر في تفسيريهما[12]، عن التابعي الجليل أبي مِجْلَز رحمه الله تعالى، أنه قال في قوله تعالى إلا ما حرم إسرائيل على نفسه: إن إسرائيل هو يعقوب، وكان رجلًا بَطشًا، فلَقِيَ مَلَكًا، فعالَجَه، فصَرَعه المَلَك، ثم ضرب على فَخذه، فلما رأى يعقوب ما صنع به، بَطَش به، فقال: ما أنا بتاركك حتى تُسَمِّيني اسْمًا، فسَمَّاه إسرائيل، فلم يَزَل يوجعه ذلك العِرْق، حتى حَرَّمه من كل دابَّة.
ونقلَ غيرُ واحد من المُفَسِّرين، عن ابن عباس، ومُجاهِد، وقَتادة، والسُّدِّي: أن يعقوب عليه السلام أَقْبَل من حَرَّان، يريد بيت المقدس، حين هَرَب من أخيه عيصو، وكان رجلًا بطشًا قويًا، فلَقِيَه مَلَكٌ، فظَنَّ يعقوبُ أنه لِصٌّ، فعالَجَه أن يَصْرَعه، فغَمَزَ المَلَكُ فَخذَ يعقوب عليه السلام، ثم صَعَد المَلَك إلى السماء، ويعقوبُ ينظر إليه، فهاج عليه عِرْق النَّسا، ولَقِيَ من ذلك بلاءً شديدًا، فكان لا ينام الليل من الوَجَع، ويَبِيْت وله زقاء، أي صياح، فحَلَف يعقوب عليه السلام: إن شفاه الله جَلَّ وعَزَّ ألا يأكل عِرْقًا، ولا يأكل طعامًا فيه عِرْق، فحَرَّمها على نفسه، فجعل بَنُوه يتبعون بعد ذلك العُروق، فيُخْرِجونها من اللَّحْم.[13]
وهذا الخَبَر مَذْكور في كتب التفاسير المُتَأخِّرة دونما إسناد، ولم يُعْثَر عليه في الكُتب المُسْنَدة مَرْوِيًّا إلى أحد من الأربعة المَعْزُوِّ إليهم، فضلًا عن صِحَّة السَّنَد إلى أحد منهم، ولو صَحَّ، لغَلَب على الظَنِّ تَلَقِّيهم إياه عن أهل الكتاب، وما يُقال في هذا الخبر - على فَرْض صِحَّته - يُقال في أثر أبي مِجْلَز السابق.[14]
وقد روى جُوَيْبِر، ومُقاتِل، عن الضَّحَّاك سبب غَمْز المَلَك ليعقوب؛ وهو أنه كان نَذَر، إن وَهَب الله له اثني عشر ولدًا، وأتى بيت المَقْدِس صحيحًا، أن يَذْبَح آخرهم، فكان ذلك للمخرج من نذره.[15]
وجُوَيْبِر، والضَّحَّاك كلاهما كَذَّاب، فلا اعتبار ألبتة لهذه الرواية، التي لو صَحَّت عن الضَّحَّاك - وهو من أتباع التابعين لعدم ثبوت روايته عن أحد من الصحابة - لما كان فيها حُجَّة، بل لو صَحَّت عن أحد من الصحابة المعروفين بالأَخْذ عن أهل الكتاب، لما صَحَّت للاحتجاج.
ولكن قَدْرًا من مُحْتَوى هذه الآثار قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث يُصَحِّحه بعضُ أهل العِلْم، وصَحَّ مِثْلُه عن غير واحد من السَّلَف.
فقد أخرج الإمام أحمد[16] عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: حضرت عِصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم! حَدِّثْنا عن خِلَالٍ نسألك عنها، لا يعلمهن إلا نبي، فكان فيما سألوه: أي الطعام حَرَّم إسرائيل على نفسه قبل أن تُنَزَّل التوراة؟ قال صلى الله عليه وسلم: "فأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب عليه السلام مرض مرضًا شديدًا، فطال سُقْمُه، فنَذَر لله نَذْرًا، لئن شفاه الله من سُقْمه، ليُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشراب إليه، وأَحَبَّ الطعام إليه، فكان أَحَبّ الطعام إليه لحمانُ الإبل، وأَحَبّ الشراب إليه أَلْبانها، فقالوا: اللهم نعم".[17]
وقد جاء هذا المعنى عن غير واحد من السَّلَف؛ فقد روى يزيدُ بن هارون في كتاب النِّكاح[18]، والطبري في تفسيره[19]، والبيهقي في السُّنَن الكُبْرى[20] بسَنَد صَحَّحَه الحافظ ابنُ حَجَر، أن أَعْرابيًا أتى ابن عباس، فقال: إني جعلت امرأتي حرامًا، قال: ليست عليك بحرام. قال: أرأيت قول الله تعالى ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾ [آل عمران: 93] الآية؟ فقال ابن عباس: إن إسرائيل كان به عِرْق النَّسا، فجعل على نفسه: إن شفاه الله، أن لا يأكل العُروق من كل شيء، وليست بحرام، يعني على هذه الأمة.
وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره[21]، وابن أبي حاتم في تفسيره[22]، والحاكم في المستدرك[23] من طريق آخر عنه بنحوه، وقال الحاكم: صحيح على شَرْط الشَّيْخَيْن، ولم يُخْرِجاه، ووافقه الذَّهَبِي.
وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره[24] عن قتادة.
وأخرج الطبري[25]، وابن أبي حاتم[26]، عن مجاهد في الآية أنه عليه السلام حَرَّم على نفسه لحُوم الأنعام.
والآثار في هذا الباب كثيرة، وإنما ذكرنا منها قَدْرًا يُفيد المُراد من البَحْث، ولم نَتَقَصَّد استيعابها.
ومما قيل في معنى إسرا: مُكافِح، أو مُجاهِد، أو مُصارِع، أو مُقاتِل، فهو مُجاهِد الله، أي أنه الذي يُجاهِد لأجل الله.
وهذا المعنى مما ينبغي استبعاد صحته؛ إذ هو مُرْتَبِط بقصة جاءت في الباب الثاني والثلاثين من سِفْر التكوين عن يعقوب عليه السلام، ولم يطلق لقب إسرائيل على يعقوب عليه السلام إلا بعد وقوع تلك القصة كما تزعم التوراة الموجودة بين أيدي الناس اليوم؛ ففي الموضع المذكور: "وتَخَلَّف هو وحده، وهو ذا رجل، فكان يُصارِعه إلى الفجر، وحين نظر أنه لا يقوى به، فجَسَ[1] عِرْق وَرْكه، ولساعته ذَبَل، وقال له: أَطْلِقْني؛ لأنه قد أَسْفَر الصُّبح، قال له: لا أُطْلِقُك أو تُباركني، فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، قال: لا يُدعي اسمك يعقوب، بل إسرائيل، من أجل أنك إن كنت قويت مع اللّه، فكم بالحَرِيِّ لك قوة في الناس، فسأله يعقوب: عَرِّفْني ما اسمك؟ فقال له: لم تسأل عن اسمي؟ وباركه في ذلك المكان، فدعا يعقوب اسم ذلك المكان فنوائل، قائلًا: رأيت اللّه وجهًا لوجه، وتَخَلَّصْت نفسي".
وفي هذه القصة من الكفر بالله تعالى، والكذب على يعقوب عليه السلام ما يعجز اللسان والقلم عن بيان عِظَمه، تعالى الله عما يقول الظالمون عُلوًا كبيرًا، وحاشا أنبياء الله تعالى أن ينسبوا العَجْز والضعف للكبير المُتعال، جَلَّ في عُلاه.
فيظهر - والله تعالى أعلم - ضرورة تحاشي تفسير اللقب موضع البحث وفقا لذلك المعنى، حتى وإن كان اللفظ محتملًا لمعنى المجاهدة لأجل الله تعالى، والتشرف بانتساب الجندي المقاتل له سبحانه حين يلقب بجندي الله.
والعِلَّة في ضرورة التَّحاشِي المذكور واضحة جَلِيَّة؛ ألا وهي الحرص على عدم التباس المعنى الصواب الذي وَجَّهْنا به اللَّفْظ تَوجيهًا شرعيًا موافقًا للُّغَة بالمعنى المَقْبوح وَثيق الصِّلْة بالقصة المُسْتَشْنَعَة الفائِتة، لا سيما وقد خَلَتْ المصادر الإسلامية المَوثوقة[2] المُتَوَفِّرَة بين أيدينا من تفسير اللَّقَب وَفْقًا لذلك المعنى، أو إيراد ما قد يُفيد في صَرْف المُراد إليه.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية[3]: «يسرائيل» كلمة عِبْرِيَّة قديمة غامضة المعنى، يمكن تقسيمها إلى «يسرا»، أي الذي يَحْتَرِب، أو يُصارِع، و«إيل» وهو الأصل السَّامي لكلمة «إله»، والكلمة تعني حرفيًا: «الذي يُصارِع الإله»، أو «جندي الإله إيل»، وفي كل التفسيرات معنيان أساسيان هما: معنى الصراع والحرب، ومعنى القداسة.
قال الدكتور المسيري: وقد اكتسب يعقوب هذا الاسم بعد أن صارَع الإله[4] في حادثة غامضة لا يُفهَم مكنونها أو دلالتها، ثم أورد القصة المذكورة التي سنُكَرِّرُها نَقْلًا عنه؛ لوجود بعض اختلافات في ألفاظها.
قال - نقلًا عن التوراة: «فبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه، ضرب حُقَّ فَخِذه[5]، فانخلع حُقُّ فَخِذ يعقوب في مُصارعته معه، وقال: أطلقني؛ لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أُطْلِقك إن لم تباركني، فقال: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، فقال: لا يُدعَى اسمك فيما بعد يعقوب، بل يسرائيل؛ لأنك جاهدت مع الإله، والناس، وقدرت، وسأل يعقوب وقال: أخبرني باسمك؟ فقال: لماذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك» (تكوين 32/25 ـ 29).
ثم قال تعليقًا عليها: والقصة متأثرة بعناصر الملحمة الأكادية، حيث يكتسب البطل بصراعه المادي مع الإله صفات تجعله فوق البشر، أو نصف إله، وتُكْسِبه بانتصاره على الإله[6] حق نُصْرة الإله له دائمًا في علاقاته مع الآخرين، وهذا الصراع مع الإله يُشبه وقائع مماثلة في الأساطير اليونانية، انتهى كلامه.
وقد فَسَّر أحبارُ أهل الكتاب القِصَّة على غير ظاهرها، وذهبوا إلى كون مُصارِع يعقوب عليه السلام فيها إنما كان مَلَكًا من الملائكة، وأن إطلاق لفظ الله تعالى عليه قد جاء على سبيل المجاز فحسب.
وقد أنكر الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في رده على ابن النغريلة اليهودي[7] هذا التأويل إنكارًا شديدًا، فقال: ولا يجرؤ منهم أحد، فيقول: إن المُصارع ليعقوب كان مَلَكًا، فإن لفظ اسم المُصارع له في توراتهم "إلوهيم" وهذا هو اسم الله تعالى وحده بالعِبْرِيَّة، انتهى.
ولكن الذَّاهِبين إلى تأويل النَّص على النحو المذكور قد أوردوا أمثلة من التوراة على إطلاق اسم الله تعالى على مَلَك من ملائكته الكرام؛ فقد قال الشيخ العلامة رحمة الله الهندي رحمه الله تعالى في إظهار الحق[8] عقب ذكر عدة نصوص تشير إلى نفس القصة: فظهر من الآية الحادية عشرة، والثالثة عشرة من الباب الحادي والثلاثين: أن الذي ظهر على يعقوب عليه السلام ووعده، وعهد ونذر يعقوب عليه السلام معه كان مَلَكًا، وجاء إطلاق لفظ مثل اللّه عليه في العبارات المذكورة في أزيد من ثمانية عشر موضعًا.
وقال بعد إيراد النص المذكور أعلاه[9]: وهذا المُصارع كان مَلَكاً؛ لما عَرَفْت، ولأنه يلزم أن يكون إله بني إسرائيل في غاية العجز والضعف؛ حيث صارع يعقوبَ عليه السلام إلى الفجر، ولم يغلب عليه بدون الحِيلة، ولأن كلام هوشع نصٌ في هذا الباب، في الباب الثاني عشر من كتابه هكذا: "في البطن عقب أخاه، وفي جبروته أفلح معه الملاك" وغلب الملك، وتقوّى، وبكى، وسأله، ووجده في بيت إيل، وهناك كلمنا" فأطلق عليه لفظ اللّه في الموضعين، انتهى.
وقد ورد في مواضع غير مَحْصورة من كتب العهدين إطلاق لفظ الجلالة (الله) على المَلَك، وعلى موسى عليه السلام، وعلى الإنسان الكامل، وعلى آحاد الناس، بل وعلى الشيطان الرجيم؛ وذلك لأنه يكون لإطلاق مثل هذا اللفظ على غير الله تعالى وجه مناسب لكل محل، ويدل سَوْق الكلام على ذلك الوجه، بحيث لا يشتبه على الناظر في بادي الرأي.[10]
وإنما ذهب الشيخ رحمة الله الهندي رحمه الله تعالى هذا المَذْهَب؛ إلزامًا لأحبار أهل الكتاب الذين يؤولون أمثال هذه النصوص الفَجَّة بانتفاء الغَضاضة عن تأويل علماء المسلمين لما يُشْكِل من نصوص الكتاب والسنة[11]، مع الأخذ في الاعتبار أن نظرة الشيخ رحمه الله تعالى للتأويل نابعة من موقف فرقة الأشاعرة له، كما هو ظاهر من النظر في كتابه المذكور آنفًا، شأنه في ذلك شأن جُلِّ مُعاصِريه، غفر الله لهم.
ولا يَبْعُد أن يكون التناقض المذكور في التوراة نوعًا من التَّخَبُّط، أَحْدَثه إقدامُهم على تحريف كلام الله تعالى عن مَواضعه؛ ليشتروا به ثمنا قليلًا، بل هذا هو المُتَبادِر القريب.
وقد جاءت بعض الآثار عن السَّلَف، تَحْوِي بعض ما ذَكَرَته تلك القِصَّة، دون أن تَحْوِي المَعْنى الكُفْرِي الفَجِّ المذكور آنفًا.
فقد أَخْرَج عَبْدُ بن حُمَيْد، وابن المنذر في تفسيريهما[12]، عن التابعي الجليل أبي مِجْلَز رحمه الله تعالى، أنه قال في قوله تعالى إلا ما حرم إسرائيل على نفسه: إن إسرائيل هو يعقوب، وكان رجلًا بَطشًا، فلَقِيَ مَلَكًا، فعالَجَه، فصَرَعه المَلَك، ثم ضرب على فَخذه، فلما رأى يعقوب ما صنع به، بَطَش به، فقال: ما أنا بتاركك حتى تُسَمِّيني اسْمًا، فسَمَّاه إسرائيل، فلم يَزَل يوجعه ذلك العِرْق، حتى حَرَّمه من كل دابَّة.
ونقلَ غيرُ واحد من المُفَسِّرين، عن ابن عباس، ومُجاهِد، وقَتادة، والسُّدِّي: أن يعقوب عليه السلام أَقْبَل من حَرَّان، يريد بيت المقدس، حين هَرَب من أخيه عيصو، وكان رجلًا بطشًا قويًا، فلَقِيَه مَلَكٌ، فظَنَّ يعقوبُ أنه لِصٌّ، فعالَجَه أن يَصْرَعه، فغَمَزَ المَلَكُ فَخذَ يعقوب عليه السلام، ثم صَعَد المَلَك إلى السماء، ويعقوبُ ينظر إليه، فهاج عليه عِرْق النَّسا، ولَقِيَ من ذلك بلاءً شديدًا، فكان لا ينام الليل من الوَجَع، ويَبِيْت وله زقاء، أي صياح، فحَلَف يعقوب عليه السلام: إن شفاه الله جَلَّ وعَزَّ ألا يأكل عِرْقًا، ولا يأكل طعامًا فيه عِرْق، فحَرَّمها على نفسه، فجعل بَنُوه يتبعون بعد ذلك العُروق، فيُخْرِجونها من اللَّحْم.[13]
وهذا الخَبَر مَذْكور في كتب التفاسير المُتَأخِّرة دونما إسناد، ولم يُعْثَر عليه في الكُتب المُسْنَدة مَرْوِيًّا إلى أحد من الأربعة المَعْزُوِّ إليهم، فضلًا عن صِحَّة السَّنَد إلى أحد منهم، ولو صَحَّ، لغَلَب على الظَنِّ تَلَقِّيهم إياه عن أهل الكتاب، وما يُقال في هذا الخبر - على فَرْض صِحَّته - يُقال في أثر أبي مِجْلَز السابق.[14]
وقد روى جُوَيْبِر، ومُقاتِل، عن الضَّحَّاك سبب غَمْز المَلَك ليعقوب؛ وهو أنه كان نَذَر، إن وَهَب الله له اثني عشر ولدًا، وأتى بيت المَقْدِس صحيحًا، أن يَذْبَح آخرهم، فكان ذلك للمخرج من نذره.[15]
وجُوَيْبِر، والضَّحَّاك كلاهما كَذَّاب، فلا اعتبار ألبتة لهذه الرواية، التي لو صَحَّت عن الضَّحَّاك - وهو من أتباع التابعين لعدم ثبوت روايته عن أحد من الصحابة - لما كان فيها حُجَّة، بل لو صَحَّت عن أحد من الصحابة المعروفين بالأَخْذ عن أهل الكتاب، لما صَحَّت للاحتجاج.
ولكن قَدْرًا من مُحْتَوى هذه الآثار قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث يُصَحِّحه بعضُ أهل العِلْم، وصَحَّ مِثْلُه عن غير واحد من السَّلَف.
فقد أخرج الإمام أحمد[16] عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: حضرت عِصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم! حَدِّثْنا عن خِلَالٍ نسألك عنها، لا يعلمهن إلا نبي، فكان فيما سألوه: أي الطعام حَرَّم إسرائيل على نفسه قبل أن تُنَزَّل التوراة؟ قال صلى الله عليه وسلم: "فأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب عليه السلام مرض مرضًا شديدًا، فطال سُقْمُه، فنَذَر لله نَذْرًا، لئن شفاه الله من سُقْمه، ليُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشراب إليه، وأَحَبَّ الطعام إليه، فكان أَحَبّ الطعام إليه لحمانُ الإبل، وأَحَبّ الشراب إليه أَلْبانها، فقالوا: اللهم نعم".[17]
وقد جاء هذا المعنى عن غير واحد من السَّلَف؛ فقد روى يزيدُ بن هارون في كتاب النِّكاح[18]، والطبري في تفسيره[19]، والبيهقي في السُّنَن الكُبْرى[20] بسَنَد صَحَّحَه الحافظ ابنُ حَجَر، أن أَعْرابيًا أتى ابن عباس، فقال: إني جعلت امرأتي حرامًا، قال: ليست عليك بحرام. قال: أرأيت قول الله تعالى ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾ [آل عمران: 93] الآية؟ فقال ابن عباس: إن إسرائيل كان به عِرْق النَّسا، فجعل على نفسه: إن شفاه الله، أن لا يأكل العُروق من كل شيء، وليست بحرام، يعني على هذه الأمة.
وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره[21]، وابن أبي حاتم في تفسيره[22]، والحاكم في المستدرك[23] من طريق آخر عنه بنحوه، وقال الحاكم: صحيح على شَرْط الشَّيْخَيْن، ولم يُخْرِجاه، ووافقه الذَّهَبِي.
وأخرجه عبد الرزاق في تفسيره[24] عن قتادة.
وأخرج الطبري[25]، وابن أبي حاتم[26]، عن مجاهد في الآية أنه عليه السلام حَرَّم على نفسه لحُوم الأنعام.
والآثار في هذا الباب كثيرة، وإنما ذكرنا منها قَدْرًا يُفيد المُراد من البَحْث، ولم نَتَقَصَّد استيعابها.