Şøķåŕą
04-05-2023, 05:50 PM
الرحيل
هذه القصة تناسب خطب الجمعة في موضوعات: الصلاة - الموت - القَدَر - حسن الخاتمة - الابتلاء - التوبة - العمل الصالح - الآخرة - الصبر - المعاصي...
بدت أختي شاحبةَ الوجه، نحيلةَ الجسم.. لكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم.. تبحث عنها تجدها في مصلاها راكعة ساجدة، رافعةً يديها إلى السماء.. هكذا في الصباح، وفي المساء، وفي جوف الليل، لا تفتر ولا تمل..
كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية، والكتب ذات الطابع القصصي.. أشاهد الفيديو بكثرة لدرجة أني عُرفت به.. ومَن أكثر مِن شيء عُرف به.. لا أؤدي واجباتي كاملة, ولستُ منضبطة في صلواتي..
بعد أن أغلقت جهاز الفيديو، وقد شاهدت أفلامًا منوعة لمدة ثلاث ساعات متواصلة.. ها هو ذا الأذان يرتفع من المسجد المجاور.. عدتُ إلى فراشي.
تناديني من مصلاها.. قلت: نعم، ماذا تريدين يا نورة؟
قالت لي بنبرة حادة: لا تنامي قبل أن تصلي الفجر..
أوه.. بقي ساعة على صلاة الفجر، وما سمعتيه كان الأذان الأول.. بنبرتها الحنون - هكذا هي حتى قبل أن يصيبها المرض الخبيث، وتسقط طريحة الفراش - نادتني: تعالي يا هناء إلى جانبي.. لا أستطيع إطلاقًا ردَّ طلبها.. تشعر بصفائها وصدقها.. نعم، ماذا تريدين؟ اجلسي.. ها قد جلست ماذا تريدين؟
بصوت عذب: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 185].
سكتتْ برهة.. ثم سألتني: ألم تؤمني بالموت؟.. بلى مؤمنة. ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغيرة وكبيرة؟
بلى.. لكن الله غفور رحيم.. والعمر طويل..
يا أختي ألاَ تخافين من الموت وبغتته؟
انظري سارة أصغر منكِ وتوفيت في حادث سيارة.. وفلانة وفلانة.. الموت لا يعرف العمر، وليس مقياسًا له..
أجبتها بصوت خائف حيث مصلاها المظلم..
إنني أخاف من الظلام وأخفتِني من الموت.. كيف أنام الآن؟!
كنت أظن أنكِ وافقتِ على السفر معنا هذه الأجازة.
فجأة.. تحشرج صوتها واهتز قلبي..
لعلي هذه السنة أسافر سفرًا بعيدًا، إلى مكان آخر.. ربما يا هناء.. الأعمار بيد الله.. وانفجرتُ بالبكاء..
تفكرتُ في مرضها الخبيث، وأن الأطباء أخبروا أبي سرًّا أن المرض ربما لن يمهلها طويلاً.. ولكن مَن أخبرها بذلك.. أم أنها تتوقع هذا الشيء؟
ما لكِ؟ بم تفكرين؟ - جاءني صوتها القوي هذه المرة - هل تعتقدين أني أقول هذا لأني مريضة؟ كلاَّ.. ربما أكون أطول عمرًا من الأصحاء.. وأنتِ إلى متى ستعيشين؟ ربما عشرين سنة.. ربما أربعين.. ثم ماذا؟
لمعتْ يدها في الظلام، وهزَّتْها بقوة.. لا فرق بيننا, كلنا سنرحل وسنغادر هذه الدنيا، إما إلى الجنة أو إلى النار..
تصبحين على خير.. هرولتُ مسرعة، وصوتها يطرق أذني هداك الله.. لا تنسي الصلاة..
وفي الثامنة صباحًا أسمع طرقًا على الباب.. هذا ليس موعد استيقاظي.. بكاء.. وأصوات.. ماذا جرى؟
لقد تردَّتْ حالة نورة، وذهب بها أبي إلى المستشفى..
إنا لله وإنا إليه راجعون..
لا سفر هذه السنة, مكتوب عليَّ البقاء هذه السنة في بيتنا..
بعد انتظار طويل.. بعد الواحدة ظهرًا هاتَفَنَا أبي من المستشفى.. تستطيعون زيارتها الآن.. هيا بسرعة..
أخبرتني أمي أن حديث أبي غير مطمئن، وأن صوته متغير..
ركبنا في السيارة.. أمي بجواري تدعو لها.. إنها بنت صالحة ومطيعة.. لم أرها تضيِّع وقتًا أبدًا..
دخلنا من الباب الخارجي للمستشفى، وصعدنا درجات السلم بسرعة. قالت الممرضة: إنها في غرفة العناية المركزة، وسآخذكم إليها, إنها بنت طيّبة، وطمأنتْ أمي، إنها في تَحَسُّن بعد الغيبوبة التي حصلت لها.. ممنوع الدخول لأكثر من شخص واحد. هذه غرفة العناية المركزة.
وسط زحام الأطباء، وعَبْرَ النافذة الصغيرة، التي في باب الغرفة، أرى عيني أختي نورة تنظر إليَّ وأمي واقفة بجوارها, بعد دقيقتين خرجت أمي، التي لم تستطع إخفاء دمعتها.
سمحوا لي بالدخول والسلام عليها، بشرط أن لا أتحدَّث معها كثيرًا.
كيف حالك يا نورة؟ لقد كنتِ بخير البارحة.. ماذا جرى لك؟
أجابتني بعد أن ضغطت على يدي: وأنا الآن والحمد لله بخير. كنتُ جالسة على حافة السرير، ولامست ساقها فأبعدتْه عني، قلتُ: آسفة إذا ضايقتكِ.. قالت: كلاَّ؛ ولكني تفكرت في قول الله تعالى: ﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾[القيامة: 29 - 30].
عليك يا هناء بالدعاء لي فربما أستقبل عما قريب أول أيام الآخرة.. سفري بعيد، وزادي قليل!
سقطت دمعة من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيتُ..
لم أنتبه أين أنا.. استمرتْ عيناي في البكاء.. أصبح أبي خائفًا عليَّ أكثر من نورة.. لم يتعودوا هذا البكاء، والانطواء في غرفتي..
مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين.. ساد صمت طويل في بيتنا.. دخلت عليَّ ابنة خالتي.. ابنة عمتي..
أحداث سريعة.. كَثُرَ القادمون.. اختلطت الأصوات.. شيء واحد عرفته.........
نورة ماتت.
لم أعد أُمَيِّز مَن جاء.. ولا أعرف ماذا قالوا..
يا الله!.. أين أنا؟! وماذا يجري؟! عجزت حتى عن البكاء..
تذكرتُ مَن قاسمتني رَحِمَ أمي , فنحن توأمان.. تذكرتُ مَن شاركتني همومي.. تذكرتُ مَن نفَّستْ عني كربتي.. مَن دعتْ لي بالهداية.. مَن ذرفت دموعها ليالٍ طويلة، وهي تحدّثني عن الموت والحساب..
الله المستعان.. هذه أول ليلة لها في قبرها.. اللهم ارحمها ونوِّر لها قبرها.. هذا هو مصلاها.. وهذا هو مصحفها..
وهذه سجادتها.. وهذا.. وهذا..
بل هذا هو فستانها الوردي، الذي قالت لي سأخبئه لزواجي..
تذكرتها وبكيتُ على أيامي الضائعة.. بكيت بكاءً متواصلاً، ودعوت الله أن يتوب عليَّ، ويعفوَ عنّي.. دعوت الله أن يثبّتها في قبرها، كما كانت تحب أن تدعو.
هذه القصة تناسب خطب الجمعة في موضوعات: الصلاة - الموت - القَدَر - حسن الخاتمة - الابتلاء - التوبة - العمل الصالح - الآخرة - الصبر - المعاصي...
بدت أختي شاحبةَ الوجه، نحيلةَ الجسم.. لكنها كعادتها تقرأ القرآن الكريم.. تبحث عنها تجدها في مصلاها راكعة ساجدة، رافعةً يديها إلى السماء.. هكذا في الصباح، وفي المساء، وفي جوف الليل، لا تفتر ولا تمل..
كنت أحرص على قراءة المجلات الفنية، والكتب ذات الطابع القصصي.. أشاهد الفيديو بكثرة لدرجة أني عُرفت به.. ومَن أكثر مِن شيء عُرف به.. لا أؤدي واجباتي كاملة, ولستُ منضبطة في صلواتي..
بعد أن أغلقت جهاز الفيديو، وقد شاهدت أفلامًا منوعة لمدة ثلاث ساعات متواصلة.. ها هو ذا الأذان يرتفع من المسجد المجاور.. عدتُ إلى فراشي.
تناديني من مصلاها.. قلت: نعم، ماذا تريدين يا نورة؟
قالت لي بنبرة حادة: لا تنامي قبل أن تصلي الفجر..
أوه.. بقي ساعة على صلاة الفجر، وما سمعتيه كان الأذان الأول.. بنبرتها الحنون - هكذا هي حتى قبل أن يصيبها المرض الخبيث، وتسقط طريحة الفراش - نادتني: تعالي يا هناء إلى جانبي.. لا أستطيع إطلاقًا ردَّ طلبها.. تشعر بصفائها وصدقها.. نعم، ماذا تريدين؟ اجلسي.. ها قد جلست ماذا تريدين؟
بصوت عذب: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 185].
سكتتْ برهة.. ثم سألتني: ألم تؤمني بالموت؟.. بلى مؤمنة. ألم تؤمني بأنك ستحاسبين على كل صغيرة وكبيرة؟
بلى.. لكن الله غفور رحيم.. والعمر طويل..
يا أختي ألاَ تخافين من الموت وبغتته؟
انظري سارة أصغر منكِ وتوفيت في حادث سيارة.. وفلانة وفلانة.. الموت لا يعرف العمر، وليس مقياسًا له..
أجبتها بصوت خائف حيث مصلاها المظلم..
إنني أخاف من الظلام وأخفتِني من الموت.. كيف أنام الآن؟!
كنت أظن أنكِ وافقتِ على السفر معنا هذه الأجازة.
فجأة.. تحشرج صوتها واهتز قلبي..
لعلي هذه السنة أسافر سفرًا بعيدًا، إلى مكان آخر.. ربما يا هناء.. الأعمار بيد الله.. وانفجرتُ بالبكاء..
تفكرتُ في مرضها الخبيث، وأن الأطباء أخبروا أبي سرًّا أن المرض ربما لن يمهلها طويلاً.. ولكن مَن أخبرها بذلك.. أم أنها تتوقع هذا الشيء؟
ما لكِ؟ بم تفكرين؟ - جاءني صوتها القوي هذه المرة - هل تعتقدين أني أقول هذا لأني مريضة؟ كلاَّ.. ربما أكون أطول عمرًا من الأصحاء.. وأنتِ إلى متى ستعيشين؟ ربما عشرين سنة.. ربما أربعين.. ثم ماذا؟
لمعتْ يدها في الظلام، وهزَّتْها بقوة.. لا فرق بيننا, كلنا سنرحل وسنغادر هذه الدنيا، إما إلى الجنة أو إلى النار..
تصبحين على خير.. هرولتُ مسرعة، وصوتها يطرق أذني هداك الله.. لا تنسي الصلاة..
وفي الثامنة صباحًا أسمع طرقًا على الباب.. هذا ليس موعد استيقاظي.. بكاء.. وأصوات.. ماذا جرى؟
لقد تردَّتْ حالة نورة، وذهب بها أبي إلى المستشفى..
إنا لله وإنا إليه راجعون..
لا سفر هذه السنة, مكتوب عليَّ البقاء هذه السنة في بيتنا..
بعد انتظار طويل.. بعد الواحدة ظهرًا هاتَفَنَا أبي من المستشفى.. تستطيعون زيارتها الآن.. هيا بسرعة..
أخبرتني أمي أن حديث أبي غير مطمئن، وأن صوته متغير..
ركبنا في السيارة.. أمي بجواري تدعو لها.. إنها بنت صالحة ومطيعة.. لم أرها تضيِّع وقتًا أبدًا..
دخلنا من الباب الخارجي للمستشفى، وصعدنا درجات السلم بسرعة. قالت الممرضة: إنها في غرفة العناية المركزة، وسآخذكم إليها, إنها بنت طيّبة، وطمأنتْ أمي، إنها في تَحَسُّن بعد الغيبوبة التي حصلت لها.. ممنوع الدخول لأكثر من شخص واحد. هذه غرفة العناية المركزة.
وسط زحام الأطباء، وعَبْرَ النافذة الصغيرة، التي في باب الغرفة، أرى عيني أختي نورة تنظر إليَّ وأمي واقفة بجوارها, بعد دقيقتين خرجت أمي، التي لم تستطع إخفاء دمعتها.
سمحوا لي بالدخول والسلام عليها، بشرط أن لا أتحدَّث معها كثيرًا.
كيف حالك يا نورة؟ لقد كنتِ بخير البارحة.. ماذا جرى لك؟
أجابتني بعد أن ضغطت على يدي: وأنا الآن والحمد لله بخير. كنتُ جالسة على حافة السرير، ولامست ساقها فأبعدتْه عني، قلتُ: آسفة إذا ضايقتكِ.. قالت: كلاَّ؛ ولكني تفكرت في قول الله تعالى: ﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ ﴾[القيامة: 29 - 30].
عليك يا هناء بالدعاء لي فربما أستقبل عما قريب أول أيام الآخرة.. سفري بعيد، وزادي قليل!
سقطت دمعة من عيني بعد أن سمعت ما قالت وبكيتُ..
لم أنتبه أين أنا.. استمرتْ عيناي في البكاء.. أصبح أبي خائفًا عليَّ أكثر من نورة.. لم يتعودوا هذا البكاء، والانطواء في غرفتي..
مع غروب شمس ذلك اليوم الحزين.. ساد صمت طويل في بيتنا.. دخلت عليَّ ابنة خالتي.. ابنة عمتي..
أحداث سريعة.. كَثُرَ القادمون.. اختلطت الأصوات.. شيء واحد عرفته.........
نورة ماتت.
لم أعد أُمَيِّز مَن جاء.. ولا أعرف ماذا قالوا..
يا الله!.. أين أنا؟! وماذا يجري؟! عجزت حتى عن البكاء..
تذكرتُ مَن قاسمتني رَحِمَ أمي , فنحن توأمان.. تذكرتُ مَن شاركتني همومي.. تذكرتُ مَن نفَّستْ عني كربتي.. مَن دعتْ لي بالهداية.. مَن ذرفت دموعها ليالٍ طويلة، وهي تحدّثني عن الموت والحساب..
الله المستعان.. هذه أول ليلة لها في قبرها.. اللهم ارحمها ونوِّر لها قبرها.. هذا هو مصلاها.. وهذا هو مصحفها..
وهذه سجادتها.. وهذا.. وهذا..
بل هذا هو فستانها الوردي، الذي قالت لي سأخبئه لزواجي..
تذكرتها وبكيتُ على أيامي الضائعة.. بكيت بكاءً متواصلاً، ودعوت الله أن يتوب عليَّ، ويعفوَ عنّي.. دعوت الله أن يثبّتها في قبرها، كما كانت تحب أن تدعو.