Şøķåŕą
03-31-2023, 05:14 PM
توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (20)
الحديث العشرون
عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمتُ الظلم على نفسي، وجعلتُه بينكم محرمًا؛ فلا تَظالموا، يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه؛ فاستهدوني أهدِكم، يا عبادي، كلكم جائعٌ إلا مَن أطعمتُه؛ فاستطعموني أُطعِمْكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوتُه؛ فاستكسوني أَكْسُكم، يا عبادي، إنكم تُخطِئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا؛ فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أوَّلكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم - ما زاد ذلك في ملكي شيئًا.
يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد - ما نقص ذلك من ملكي شيئًا.
يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجِنَّكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسان مسألته - ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيط إذا أُدخل البحر.
يا عبادي، إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا، فليحمد الله، ومن وجد غيرَ ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه))[1].
توجيهات وتحقيقات الحديث:
((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي)): الظلم: يُقال: تَظلَّمت منه إلى الوالي، وعند فلان ظُلامتي ومَظلِمتي - بكسر اللام - أي: حقي الذي ظُلِمْتُه، والظلم ظلمة، كما أن العدل نور.
والله تعالى مُقدَّس ومُنزَّه عن الظلم؛ ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 182]، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، ﴿ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد ﴾ [ق: 29].
ومعنى ذلك أن الذي يَقَعُ عليه الظلمُ يكون في حيرة وضباب؛ فلا يكاد يرى، وكأنه يعيش في ظلام الليل، كما أن الذي أخذ حقَّه يستبشِرُ بالحياة، ويتفاءل بها، فكأنه في ضياء النهار مهتدٍ، و((الظلم ظلماتٌ يوم القيامة))[2]، فتقدُّسُ الذات الإلهية عن الظلم يشبه الحرام في أن كلاًّ منهما ممنوع ومعدوم.
((فلا تَظَالَموا)): أصلها: لا تتظالموا؛ حُذِفَت إحدى التاءينِ تخفيفًا؛ أي: لا يظلم بعضكم بعضًا، والظَّلم بفتح الظاء: الريق، ويتكلم به في الغزل، ومنه قول زهير:
تجلو عوارضَ ذي ظَلْم إذا ابتسمَتْ ♦♦♦ كـأنَّـه مَنْهل بالرَّاح مَعْلولُ
ومن المجاز: أرض مظلومة؛ حُفِر فيها بئر أو حوض، ولم يحفر فيها قطُّ، وظلم السقاء: شرب لبنه قبل الرؤوب.
((وجعلته بينكم محرَّمًا؛ فلا تظالموا)): فالأخوَّة الإسلامية تقتضي أن يُعطِي كلُّ مسلم الحق لصاحبه، ولا يظلمه شيئًا؛ فالظلم - لشدة وَطْأته على نفس المسلم - ظلمات على الظالم، ومضايق ومزالق تعميه فلا يرى؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
ولذلك لا يرضى الله تعالى - الذي حرم الظلم على نفسه - لعباده المؤمنين أن يظلم بعضهم بعضًا، ويجور أحدهم على حق أخيه: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يَظلِمُه، ولا يُسلِمُه))[3].
((ضال)): ضلَّ عن الطريق وعن القصد، يَضِل - بكسر الضاد - ويَضَل - بفتح الضاد، والضَّلال ضد الهدى[4].
ولأن النفس الإنسانية تتجه للمعاصي كما تتجه للطاعات ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10]، والنفس بطبيعتها ميَّالة إلى الضلال ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ﴾ [يوسف: 53]، والمعصوم من عصمه الله وهداه الله تعالى إلى طريقه المستقيم ومِنهاجه السليم، وأبعده عن الضلال والطغيان - فلذلك على كل مسلم أن يطلب الهداية من ربه، ويسلك سبيلَها، ويمضي في طريقها؛ ((يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدِكم)).
((يا عبادي، كلكم جائعٌ إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أُطعمكُم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسُكم)): فكل الناس على قوتهم وبُعدهم عن الله تعالى جائعون؛ لأن الله هو الذي يخلق لهم من النبات والحبوب واللحوم والألبان ما يسدون به جوعهم، ويبعدون ضراوتَه عنهم.
ويَستثني الحديثُ مَن أطعمه الله، وهيَّأ له أن يشبع من جوع؛ ولذلك كان على الناس وهم جائعون أن يطلبوا من ربِّهم أن يُطعمَهم من جوع، ويسقيَهم من ظمأ.
ولا شك أن إشباع حاجة الجوع عند الإنسان إحدى حاجاته التي لا يمكن أن يستغني عنها، وهي إشباع حاجة الجوع المُلحَّة، وإشباع حاجة الظمأ التي لا يصبر الإنسان عليها.
وكذلك الكساء، وهو لا يمكنه أن يعيش بدونه، وكذلك المأوى الذي يحمي الإنسان من الحر والبرد.
﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ [النحل: 80، 81].
وهذه الأمور الأربعة قد ذكرت في سورة طه ضمانًا لمعيشة آدم: ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 118، 119]؛ أي: لا تُعرَّض للجو وضحوة الشمس.
وقد يقال: ولِمَ اكتفى الحديث الذي معنا بحاجتين فقط، وهما: إشباع الجوع والكساء، اللذين لا يستغني عنهما الإنسان؟!
والجواب: أن الحديث كأنه اكتفى بذكر الجوع (مع الدعاء لله أن يطعمه)؛ لأن الأكل يتبعه الشرب، واكتفى بذكر الكساء بدلاً من المأوى بجامع الحماية من الحر والبرد؛ لذلك على المسلم أن يدعوَ ربَّه لِيكسوَه من عُرْيٍ، والإنسان دائمًا في حاجة إلى أن يلجأ إلى الله في شدته، والجوع شدة، والعُرْي شدة.
وكأن الله تعالى خلق الإنسان بلا كساء، ثم كسا بعضَ الناس بعطائه الواسع وفضله الكبير؛ ولذلك ينبغي على الناس أن يلجؤوا إليه ويدعوه؛ ليدفع عنهم غائلة العُرْيِ.
ينادي ربُّ العباد الناسَ مؤثرًا النداء في كل أمر بلفظ: ((يا عبادي))، فقد وصفهم بالعبودية والخضوع لله تعالى، ثم أضاف العباد إلى نفسه؛ تشريفًا لهم.
والله تعالى خلق الإنسان لهدف العبادة: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين ﴾ [الذاريات: 56 - 58].
فيناديهم أولاً مقرِّرًا لهم أنهم يخطئون في حياتهم وسلوكهم فيها ليلاً ونهارًا، والله تعالى غفورٌ رحيمٌ، يقدر على غفران الذنوب كلها ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
وما دام الخطأ محتملاً في العباد، فلا يبعد صدورُه عنهم، والله غفور رحيم، فكان عليهم أن يطلبوا الغفران منه جل جلاله.
ومهما تكتَّل عباد الله فكانوا على قلب رجل واحد، فلا يمكن لهم أن يبلغوا إلى أن يضروا ربَّهم، ولا يقدروا على أن يبلغوا ضرَّه؛ فهو القاهر فوق عباده.
ولو أن الإنس والجن كانوا على حال من التقوى والإخلاص، واتفقوا على هذا، وكانوا في غاية من التقوى والإخلاص لله تعالى - ما زاد ذلك في الكون شيئًا؛ لأن تقواهم نتائجها المثمرة في صالحهم هم.
وكذلك لو أن الإنس والجن كانوا كُفَّارًا فُجَّارًا، وتكاتفوا على هذا الفُجْرِ والكفر - ما نقص ذلك من ملك الله شيئًا.
ولو اجتمعت الخلائقُ إنسُهم وجنُّهم في مكان فسيح من الأرض وسع الخلائق كلهم، ثم دعَوْا ربَّهم - وكلٌّ يدعو بما يناسبه وحسب حاجته - ثم أعطاهم - كلاًّ بحسب ما يريد - ما نقص ذلك من ملك الله شيئًا إلا كما يَنقُصُ المِخْيطُ إذا أدخل البحر ثم أخرج، فإنه لا ينقص البحر شيئًا من فيض مائه، ولا زيادة أمواجه.
ثم يقرِّرُ الحديث أن الله تعالى وحده هو الذي يحاسب عباده، ويُحصي أعمالهم، ويسجل عليهم مسالَكهم في حياتهم، ويُعطي كلَّ إنسان حسب عمله، ويوفِّيه حقَّه؛ ومن هنا كان الإنسانُ حسيبَ نفسه، والحَكَمَ عليها بالضلال والخسران، أو النجاح في الامتحان.
قال الله تعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13، 14].
فإن قيل: هل قوله: ((يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدِكم)) ينافي حديث: ((وإني خلقت عبادي حنفاءَ كلَّهم، وإنهم أتَتْهم الشياطين فاجتالَتْهم عن دينهم))[5]؟
قلنا: لا تنافيَ بين الحديثين؛ لأن النفس الإنسانية تميل إلى الغَواية والفساد الذي هو الضلال، فتكون ضالَّةً مُضلَّةً، ضالة في نفسها، مُضلَّة لغيرها، إلا من عصمه الله تعالى عن الضلال، ورزقه هداية واستقامة.
وأما حديث: ((وإني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلَّهم))؛ أي: إن ذلك في فطرتهم الأولى، وجِبلَّتِهم التي خلقهم الله عليها؛ لأن كل مولود يُولَدُ على الفطرة، وهي الاتجاه التلقائي إلى الدين، وذلك مركوز في طَبْعه؛ مصداقًا للحديث الشريف: ((ما من مولود إلا يُولَدُ على الفطرة؛ فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟))، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30] الآية[6].
((صعيد)): يقال: أصعدت السفينة؛ أي: مُدَّ شراعُها، فذهبت بها الريح، وعليك بالصعيد؛ أي: اجلس على الأرض، وصعيد الأرض وجهُها.
((مسألته)): المسألة مصدر بمعنى المسؤول؛ أي: حاجته التي يسألها ربَّه.
((المِخْيَطُ)) بوزن مِفْعل - بكسر فسكون ففتح - آلة الخياطة.
((ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيطُ إذا أدخل البحر)) تشبيه يفيد سَعَة ملك الله وعظمته.
وفي قوله: ((إذا أدخل البحر)) حذف، وتقديره: (ثم أخرج)؛ لأن إخراج المِخيط من البحر نقص، كما أن وضعه في البحر زيادة، ولك أن تتخيَّل ضآلة هذه الزيادة، أو قلة ذلك النقص.
وصف ((رجل)) بواحد للتأكيد وإيضاح أن الأمر صادر عن فرد قوي له تأثير.
كررت ألفاظ في الحديث وتعبيرات، منها: ((يا عبادي))، ((لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم))؛ لتأكيدِ القدرة الإلهية والعظمة الربانية.
الحديث العشرون
عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمتُ الظلم على نفسي، وجعلتُه بينكم محرمًا؛ فلا تَظالموا، يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديتُه؛ فاستهدوني أهدِكم، يا عبادي، كلكم جائعٌ إلا مَن أطعمتُه؛ فاستطعموني أُطعِمْكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوتُه؛ فاستكسوني أَكْسُكم، يا عبادي، إنكم تُخطِئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا؛ فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أوَّلكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم - ما زاد ذلك في ملكي شيئًا.
يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد - ما نقص ذلك من ملكي شيئًا.
يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجِنَّكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيتُ كلَّ إنسان مسألته - ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيط إذا أُدخل البحر.
يا عبادي، إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا، فليحمد الله، ومن وجد غيرَ ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه))[1].
توجيهات وتحقيقات الحديث:
((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي)): الظلم: يُقال: تَظلَّمت منه إلى الوالي، وعند فلان ظُلامتي ومَظلِمتي - بكسر اللام - أي: حقي الذي ظُلِمْتُه، والظلم ظلمة، كما أن العدل نور.
والله تعالى مُقدَّس ومُنزَّه عن الظلم؛ ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49]، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 182]، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]، ﴿ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد ﴾ [ق: 29].
ومعنى ذلك أن الذي يَقَعُ عليه الظلمُ يكون في حيرة وضباب؛ فلا يكاد يرى، وكأنه يعيش في ظلام الليل، كما أن الذي أخذ حقَّه يستبشِرُ بالحياة، ويتفاءل بها، فكأنه في ضياء النهار مهتدٍ، و((الظلم ظلماتٌ يوم القيامة))[2]، فتقدُّسُ الذات الإلهية عن الظلم يشبه الحرام في أن كلاًّ منهما ممنوع ومعدوم.
((فلا تَظَالَموا)): أصلها: لا تتظالموا؛ حُذِفَت إحدى التاءينِ تخفيفًا؛ أي: لا يظلم بعضكم بعضًا، والظَّلم بفتح الظاء: الريق، ويتكلم به في الغزل، ومنه قول زهير:
تجلو عوارضَ ذي ظَلْم إذا ابتسمَتْ ♦♦♦ كـأنَّـه مَنْهل بالرَّاح مَعْلولُ
ومن المجاز: أرض مظلومة؛ حُفِر فيها بئر أو حوض، ولم يحفر فيها قطُّ، وظلم السقاء: شرب لبنه قبل الرؤوب.
((وجعلته بينكم محرَّمًا؛ فلا تظالموا)): فالأخوَّة الإسلامية تقتضي أن يُعطِي كلُّ مسلم الحق لصاحبه، ولا يظلمه شيئًا؛ فالظلم - لشدة وَطْأته على نفس المسلم - ظلمات على الظالم، ومضايق ومزالق تعميه فلا يرى؛ لأن الجزاء من جنس العمل.
ولذلك لا يرضى الله تعالى - الذي حرم الظلم على نفسه - لعباده المؤمنين أن يظلم بعضهم بعضًا، ويجور أحدهم على حق أخيه: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يَظلِمُه، ولا يُسلِمُه))[3].
((ضال)): ضلَّ عن الطريق وعن القصد، يَضِل - بكسر الضاد - ويَضَل - بفتح الضاد، والضَّلال ضد الهدى[4].
ولأن النفس الإنسانية تتجه للمعاصي كما تتجه للطاعات ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 - 10]، والنفس بطبيعتها ميَّالة إلى الضلال ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ﴾ [يوسف: 53]، والمعصوم من عصمه الله وهداه الله تعالى إلى طريقه المستقيم ومِنهاجه السليم، وأبعده عن الضلال والطغيان - فلذلك على كل مسلم أن يطلب الهداية من ربه، ويسلك سبيلَها، ويمضي في طريقها؛ ((يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدِكم)).
((يا عبادي، كلكم جائعٌ إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أُطعمكُم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته؛ فاستكسوني أكسُكم)): فكل الناس على قوتهم وبُعدهم عن الله تعالى جائعون؛ لأن الله هو الذي يخلق لهم من النبات والحبوب واللحوم والألبان ما يسدون به جوعهم، ويبعدون ضراوتَه عنهم.
ويَستثني الحديثُ مَن أطعمه الله، وهيَّأ له أن يشبع من جوع؛ ولذلك كان على الناس وهم جائعون أن يطلبوا من ربِّهم أن يُطعمَهم من جوع، ويسقيَهم من ظمأ.
ولا شك أن إشباع حاجة الجوع عند الإنسان إحدى حاجاته التي لا يمكن أن يستغني عنها، وهي إشباع حاجة الجوع المُلحَّة، وإشباع حاجة الظمأ التي لا يصبر الإنسان عليها.
وكذلك الكساء، وهو لا يمكنه أن يعيش بدونه، وكذلك المأوى الذي يحمي الإنسان من الحر والبرد.
﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ﴾ [النحل: 80، 81].
وهذه الأمور الأربعة قد ذكرت في سورة طه ضمانًا لمعيشة آدم: ﴿ إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ﴾ [طه: 118، 119]؛ أي: لا تُعرَّض للجو وضحوة الشمس.
وقد يقال: ولِمَ اكتفى الحديث الذي معنا بحاجتين فقط، وهما: إشباع الجوع والكساء، اللذين لا يستغني عنهما الإنسان؟!
والجواب: أن الحديث كأنه اكتفى بذكر الجوع (مع الدعاء لله أن يطعمه)؛ لأن الأكل يتبعه الشرب، واكتفى بذكر الكساء بدلاً من المأوى بجامع الحماية من الحر والبرد؛ لذلك على المسلم أن يدعوَ ربَّه لِيكسوَه من عُرْيٍ، والإنسان دائمًا في حاجة إلى أن يلجأ إلى الله في شدته، والجوع شدة، والعُرْي شدة.
وكأن الله تعالى خلق الإنسان بلا كساء، ثم كسا بعضَ الناس بعطائه الواسع وفضله الكبير؛ ولذلك ينبغي على الناس أن يلجؤوا إليه ويدعوه؛ ليدفع عنهم غائلة العُرْيِ.
ينادي ربُّ العباد الناسَ مؤثرًا النداء في كل أمر بلفظ: ((يا عبادي))، فقد وصفهم بالعبودية والخضوع لله تعالى، ثم أضاف العباد إلى نفسه؛ تشريفًا لهم.
والله تعالى خلق الإنسان لهدف العبادة: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِين ﴾ [الذاريات: 56 - 58].
فيناديهم أولاً مقرِّرًا لهم أنهم يخطئون في حياتهم وسلوكهم فيها ليلاً ونهارًا، والله تعالى غفورٌ رحيمٌ، يقدر على غفران الذنوب كلها ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].
وما دام الخطأ محتملاً في العباد، فلا يبعد صدورُه عنهم، والله غفور رحيم، فكان عليهم أن يطلبوا الغفران منه جل جلاله.
ومهما تكتَّل عباد الله فكانوا على قلب رجل واحد، فلا يمكن لهم أن يبلغوا إلى أن يضروا ربَّهم، ولا يقدروا على أن يبلغوا ضرَّه؛ فهو القاهر فوق عباده.
ولو أن الإنس والجن كانوا على حال من التقوى والإخلاص، واتفقوا على هذا، وكانوا في غاية من التقوى والإخلاص لله تعالى - ما زاد ذلك في الكون شيئًا؛ لأن تقواهم نتائجها المثمرة في صالحهم هم.
وكذلك لو أن الإنس والجن كانوا كُفَّارًا فُجَّارًا، وتكاتفوا على هذا الفُجْرِ والكفر - ما نقص ذلك من ملك الله شيئًا.
ولو اجتمعت الخلائقُ إنسُهم وجنُّهم في مكان فسيح من الأرض وسع الخلائق كلهم، ثم دعَوْا ربَّهم - وكلٌّ يدعو بما يناسبه وحسب حاجته - ثم أعطاهم - كلاًّ بحسب ما يريد - ما نقص ذلك من ملك الله شيئًا إلا كما يَنقُصُ المِخْيطُ إذا أدخل البحر ثم أخرج، فإنه لا ينقص البحر شيئًا من فيض مائه، ولا زيادة أمواجه.
ثم يقرِّرُ الحديث أن الله تعالى وحده هو الذي يحاسب عباده، ويُحصي أعمالهم، ويسجل عليهم مسالَكهم في حياتهم، ويُعطي كلَّ إنسان حسب عمله، ويوفِّيه حقَّه؛ ومن هنا كان الإنسانُ حسيبَ نفسه، والحَكَمَ عليها بالضلال والخسران، أو النجاح في الامتحان.
قال الله تعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 13، 14].
فإن قيل: هل قوله: ((يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا من هديته، فاستهدوني أهدِكم)) ينافي حديث: ((وإني خلقت عبادي حنفاءَ كلَّهم، وإنهم أتَتْهم الشياطين فاجتالَتْهم عن دينهم))[5]؟
قلنا: لا تنافيَ بين الحديثين؛ لأن النفس الإنسانية تميل إلى الغَواية والفساد الذي هو الضلال، فتكون ضالَّةً مُضلَّةً، ضالة في نفسها، مُضلَّة لغيرها، إلا من عصمه الله تعالى عن الضلال، ورزقه هداية واستقامة.
وأما حديث: ((وإني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلَّهم))؛ أي: إن ذلك في فطرتهم الأولى، وجِبلَّتِهم التي خلقهم الله عليها؛ لأن كل مولود يُولَدُ على الفطرة، وهي الاتجاه التلقائي إلى الدين، وذلك مركوز في طَبْعه؛ مصداقًا للحديث الشريف: ((ما من مولود إلا يُولَدُ على الفطرة؛ فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصِّرانه، أو يُمجِّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟))، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30] الآية[6].
((صعيد)): يقال: أصعدت السفينة؛ أي: مُدَّ شراعُها، فذهبت بها الريح، وعليك بالصعيد؛ أي: اجلس على الأرض، وصعيد الأرض وجهُها.
((مسألته)): المسألة مصدر بمعنى المسؤول؛ أي: حاجته التي يسألها ربَّه.
((المِخْيَطُ)) بوزن مِفْعل - بكسر فسكون ففتح - آلة الخياطة.
((ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيطُ إذا أدخل البحر)) تشبيه يفيد سَعَة ملك الله وعظمته.
وفي قوله: ((إذا أدخل البحر)) حذف، وتقديره: (ثم أخرج)؛ لأن إخراج المِخيط من البحر نقص، كما أن وضعه في البحر زيادة، ولك أن تتخيَّل ضآلة هذه الزيادة، أو قلة ذلك النقص.
وصف ((رجل)) بواحد للتأكيد وإيضاح أن الأمر صادر عن فرد قوي له تأثير.
كررت ألفاظ في الحديث وتعبيرات، منها: ((يا عبادي))، ((لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم))؛ لتأكيدِ القدرة الإلهية والعظمة الربانية.