Şøķåŕą
03-27-2023, 10:48 PM
» تفسير الوسيط: تفسير الآية
ثم أشار- سبحانه - إلى عظمة هذا القرآن الذي أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال:وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى....والمراد بالقرآن هنا: معناه اللغوي، أى الكلام المقروء.
وجواب لو محذوف لدلالة المقام عليه.
والمعنى: ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية، سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أى: تحركت من أماكنها، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أى شققت وصارت قطعا، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بأن يعودوا إلى الحياة بعد قراءته عليهم.
ولو أن كتابا مقروءا كان من وظيفته أن يفعل ذلك لكان هذا القرآن، لكونه الغاية القصوى في الهداية والتذكير، والنهاية العظمى في الترغيب والترهيب.
وعلى هذا المعنى يكون الغرض من الآية الكريمة بيان عظم شأن القرآن الكريم، وإبطال رأى الكافرين الذين طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم آية كونية سواه.
ويصح أن يكون المعنى: ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية نزل عليك يا محمد فسيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى، لما آمن هؤلاء المعاندون.
قال-تبارك وتعالى-: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ....وعلى هذا المعنى يكون المقصود من الآية الكريمة، بيان غلوهم في العناد والطغيان، وتماديهم في الكفر والضلال، وأن سبب عدم إيمانهم ليس مرده إلى عدم ظهور الدلائل الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وإنما سببه الحسد والعناد والمكابرة.
ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق التي طلبوها منه صلى الله عليه وسلم ما ذكره الإمام ابن كثير من أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه، فأنزل الله-تبارك وتعالى- هذه الآية .
وقوله- سبحانه - بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً إضراب عن مطالبهم المتعنتة إلى بيان أن الأمور كلها بيد الله، وأن قدرته- سبحانه - لا يعجزها شيء.
أى: إن الله-تبارك وتعالى- لا يعجزه أن يأتى بالمقترحات التي اقترحوها، ولكن إرادته- سبحانه - لم تتعلق بما اقترحوه، لعلمه- سبحانه - بعتوهم ونفورهم عن الحق مهما أوتوا من آيات.
وقوله- سبحانه: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً تيئيس للمؤمنين من استجابة أولئك الجاحدين للحق، إلا أن يشاء الله لهم الهداية، والاستفهام للإنكار.
وأصل اليأس: قطع الطمع في الشيء والقنوط من حصوله.
وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان:أحدهما يرى أصحابه أن الفعل ييأس على معناه الحقيقي وهو قطع الطمع في الشيء، وعليه يكون المعنى: أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان كفار قريش، ويعلموا أن الله-تبارك وتعالى- لو يشاء هداية الناس جميعا لاهتدوا، ولكنه لم يشأ ذلك، ليتميز الخبيث من الطيب.
وعلى هذا الاتجاه سار الإمام ابن كثير فقد قال- رحمه الله-: وقوله- تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أى: من إيمان جميع الخلق ويعلموا أو يتبينوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً فإنه ليس هناك حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في النفوس والعقول من هذا القرآن، الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي إلا وقد أوتى ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة .
ويؤيد هذا الاتجاه ما ذكره السيوطي في تفسيره من أن بعض الصحابة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، اطلب لهم- أى للمشركين- ما اقترحوه عسى أن يؤمنوا.
أما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه أن الفعل ييأس بمعنى يعلم، وعليه يكون المعنى: أفلم يعلم المؤمنون أنه- سبحانه - لو شاء هداية الناس جميعا لآمنوا.
وهذا الاتجاه صدر به الآلوسى تفسيره فقال ما ملخصه:ومعنى قوله- سبحانه -: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أفلم يعلموا.
وهي كما قال القاسم بن معن لغة هوازن.
وقال الكلبي هي لغة حي من النخع، وأنشدوا على ذلك قول سحيم بن وئيل الرباحي:أقول لهم بالشعب إذ يأسروننى ...
ألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدموقول رباح بن عدى:ألم ييأس الأقوام أنى أنا ابنه ...
وإن كنت عن أرض العشيرة نائياوالظاهر أن استعمال اليأس في ذلك حقيقة.
وقيل مجاز لأنه متضمن للعلم فان الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون ...
والفاء للعطف على مقدر.
أى: أغفلوا عن كون الأمر جميعه لله-تبارك وتعالى- فلم يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ....ثم حذر- سبحانه - الكافرين من التمادي في كفرهم، وبشر المؤمنين بحسن العاقبة فقال-تبارك وتعالى-: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.
والقارعة: من القرع، وهو ضرب الشيء بشيء آخر بقوة وجمعها قوارع.
والمراد بها: الرزية والمصيبة والكارثة.
أى: ولا يزال الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم تصيبهم بسبب ما صنعوه من الكفر والضلال «قارعة» أى مصيبة تفجؤهم وتزعجهم أو تحل تلك المصيبة في مكان قريب من دارهم، فيتطاير شرها إليهم، حتى يأتى وعد الله بهلاكهم وهزيمتهم ونصر المؤمنين عليهم، إن الله-تبارك وتعالى- لا يخلف الميعاد، أى: موعوده لرسله ولعباده المؤمنين.
وأبهم- سبحانه - ما يصيب الكافرين من قوارع، لتهويله وبيان شدته.
والتعبير بقوله وَلا يَزالُ يشير إلى أن ما أصابهم من قوارع كان موجودا قبل نزول هذه الآية، واستمرت إصابته لهم بعد نزولها، لأن الفعل لا يَزالُ يدل على الإخبار باستمرار شيء واقع.
ولعل هذه الآية الكريمة كان نزولها في خلال سنى الجدب التي حلت بقريش والتي أشار إليها القرآن بقوله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ ....وعبر- سبحانه - عما أصابهم من بلاء بالقارعة، للمبالغة في شدته وقوته.
حتى إنه ليقرع قلوبهم فجأة فيبهتهم ويزعجهم، ولذلك سميت القيامة بالقارعة، لأنها تقرع القلوب بأهوالها.
وقال- سبحانه -: أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ لبيان أنهم بين أمرين أحلاهما مرّ لأن القارعة إما أن تصيبهم بما يكرهونه ويتألمون له، وإما أن تنزل قريبا منهم فتفزعهم، وتقلق أمنهم، وهم مستمرون على ذلك حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
ولقد قضى الله-تبارك وتعالى- أمره، بهزيمتهم في بدر وفي غيرها.
وأتم نصره على المؤمنين بفتح مكة.
وبدخول الناس في دين الله أفواجا.
ثم أخذت السورة الكريمة بعد ذلك في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وفي إقامة الأدلة على وحدانية الله-تبارك وتعالى- وعلى بطلان الشرك، وفي بيان ما أعده للكافرين من عقاب، وما أعده للمتقين من ثواب فقال تعالى:
» تفسير القرطبي: مضمون الآية
قوله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعادقوله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال هذا متصل بقول : لولا أنزل عليه آية من ربه .
وذلك أن نفرا من مشركي مكة فيهم أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية المخزوميان جلسوا خلف الكعبة ، ثم أرسلوا إلى رسول الله فأتاهم ; فقال له عبد الله : إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن ، فأذهبها عنا حتى تنفسح ; فإنها أرض ضيقة ، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا ، حتى نغرس ونزرع ; فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه ، وسخر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا وحوائجنا ، ثم نرجع من يومنا ; فقد كان سليمان سخرت له الريح كما زعمت ; فلست بأهون على ربك من سليمان بن داود ، وأحي لنا قصيا جدك ، أو من شئت أنت من موتانا نسأله ; أحق ما تقول أنت أم باطل ؟ فإن عيسى كان يحيي الموتى ، ولست بأهون على الله منه ; فأنزل الله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الآية ; قال معناه الزبير بن العوام ومجاهد وقتادة والضحاك ; والجواب محذوف تقديره : لكان هذا القرآن ، لكن حذف إيجازا ، لما في ظاهر الكلام من الدلالة عليه ; كما قال امرؤ القيس :فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسايعني لهان علي ; هذا معنى قول قتادة ; قال : لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم .
وقيل : الجواب متقدم ، وفي الكلام تقديم وتأخير ; أي وهم يكفرون بالرحمن لو أنزلنا القرآن وفعلنا بهم ما اقترحوا .
الفراء : يجوز أن يكون الجواب لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن .
الزجاج : ولو أن قرآنا إلى قوله : الموتى لما آمنوا ، والجواب المضمر هنا ما أظهر في قوله : " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة " إلى قوله : " ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله " .
بل لله الأمر جميعا أي هو المالك لجميع الأمور ، الفاعل لما يشاء منها ، فليس ما تلتمسونه مما يكون بالقرآن ، إنما يكون بأمر الله .
قوله تعالى : أفلم ييأس الذين آمنوا قال الفراء قال الكلبي : " ييأس " بمعنى يعلم ، لغة النخع ; وحكاه القشيري عن ابن عباس ; أي أفلم يعلموا ; وقاله الجوهري في الصحاح .
وقيل : هو لغة هوازن ; أي أفلم يعلم ; عن ابن عباس ومجاهد والحسن .
وقال أبو عبيدة : أفلم يعلموا ويتبينوا ، وأنشد في ذلك أبو عبيدة لمالك بن عوف النصري :أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدمييسرونني من الميسر ، وقد تقدم في " البقرة " ويروى يأسرونني من الأسر .
وقال رباح بن عدي :ألم ييئس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيافي كتاب الرد " أني أنا ابنه " وكذا ذكره الغزنوي : ألم يعلم ; والمعنى على هذا : أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات .
وقيل : هو من اليأس المعروف ; أي أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار ، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم ; لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات طمعا في إيمان الكفار .
وقرأ علي وابن عباس : " أفلم يتبين الذين آمنوا " من البيان .
قال القشيري : وقيل لابن عباس المكتوب " أفلم ييئس " قال : أظن الكاتب كتبها وهو ناعس ; أي زاد بعض الحروف حتى صار ييئس .
قال أبو بكر الأنباري : روي عن عكرمة عن ابن أبي نجيح أنه قرأ - " أفلم يتبين الذين آمنوا " وبها احتج من زعم أنه الصواب في التلاوة ; وهو باطل عن ابن عباس ، لأن مجاهدا وسعيد بن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس ، على ما هو في المصحف بقراءة أبي عمرو وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس ; ثم إن معناه : أفلم يتبين ; فإن كان مراد الله تحت اللفظة التي خالفوا بها الإجماع فقراءتنا تقع عليها ، وتأتي بتأويلها ، وإن أراد الله المعنى الآخر الذي اليأس فيه ليس من طريق العلم فقد سقط مما أوردوا ; وأما سقوطه يبطل القرآن ، ولزوم أصحابه البهتان .
" أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " " أن " مخففة من الثقيلة ، أي أنه لو يشاء الله " لهدى الناس جميعا " وهو يرد على القدرية وغيرهم .
قوله تعالى : ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أي داهية تفجؤهم بكفرهم وعتوهم ، ويقال : قرعه أمر إذا أصابه ، والجمع قوارع ; والأصل في القرع الضرب ; قال :أفنى تلادي وما جمعت من نشب قرع القواقيز أفواه الأباريقأي لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد ، أو من قتل أو من أسر أو جدب ، أو غير ذلك من العذاب والبلاء ; كما نزل بالمستهزئين ، وهم رؤساء المشركين .
وقال عكرمة عن ابن عباس : القارعة النكبة .
وقال ابن عباس أيضا وعكرمة : القارعة الطلائع والسرايا التي كان ينفذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم .
أو تحل أي القارعة .
قريبا من دارهم قاله قتادة والحسن .
وقال ابن عباس : أو تحل أنت قريبا من دارهم .
وقيل : نزلت الآية بالمدينة ; أي لا تزال تصيبهم القوارع فتنزل بساحتهم أو بالقرب منهم كقرى المدينة ومكة .
" حتى يأتي وعد الله " في فتح مكة ; قاله مجاهد وقتادة وقيل : نزلت بمكة ; أي تصيبهم القوارع ، وتخرج عنهم إلى المدينة يا محمد ، فتحل قريبا من دارهم ، أو تحل بهم محاصرا لهم ; وهذه المحاصرة لأهل الطائف ، ولقلاع خيبر ، ويأتي وعد الله بالإذن لك في قتالهم وقهرهم .
وقال الحسن : وعد الله يوم القيامة .
ثم أشار- سبحانه - إلى عظمة هذا القرآن الذي أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال:وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى....والمراد بالقرآن هنا: معناه اللغوي، أى الكلام المقروء.
وجواب لو محذوف لدلالة المقام عليه.
والمعنى: ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية، سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أى: تحركت من أماكنها، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أى شققت وصارت قطعا، أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بأن يعودوا إلى الحياة بعد قراءته عليهم.
ولو أن كتابا مقروءا كان من وظيفته أن يفعل ذلك لكان هذا القرآن، لكونه الغاية القصوى في الهداية والتذكير، والنهاية العظمى في الترغيب والترهيب.
وعلى هذا المعنى يكون الغرض من الآية الكريمة بيان عظم شأن القرآن الكريم، وإبطال رأى الكافرين الذين طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم آية كونية سواه.
ويصح أن يكون المعنى: ولو أن كتابا مقروءا من الكتب السماوية نزل عليك يا محمد فسيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى، لما آمن هؤلاء المعاندون.
قال-تبارك وتعالى-: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ....وعلى هذا المعنى يكون المقصود من الآية الكريمة، بيان غلوهم في العناد والطغيان، وتماديهم في الكفر والضلال، وأن سبب عدم إيمانهم ليس مرده إلى عدم ظهور الدلائل الدالة على صدقه صلى الله عليه وسلم وإنما سببه الحسد والعناد والمكابرة.
ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق التي طلبوها منه صلى الله عليه وسلم ما ذكره الإمام ابن كثير من أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه، فأنزل الله-تبارك وتعالى- هذه الآية .
وقوله- سبحانه - بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً إضراب عن مطالبهم المتعنتة إلى بيان أن الأمور كلها بيد الله، وأن قدرته- سبحانه - لا يعجزها شيء.
أى: إن الله-تبارك وتعالى- لا يعجزه أن يأتى بالمقترحات التي اقترحوها، ولكن إرادته- سبحانه - لم تتعلق بما اقترحوه، لعلمه- سبحانه - بعتوهم ونفورهم عن الحق مهما أوتوا من آيات.
وقوله- سبحانه: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً تيئيس للمؤمنين من استجابة أولئك الجاحدين للحق، إلا أن يشاء الله لهم الهداية، والاستفهام للإنكار.
وأصل اليأس: قطع الطمع في الشيء والقنوط من حصوله.
وللعلماء في تفسير هذه الجملة الكريمة اتجاهان:أحدهما يرى أصحابه أن الفعل ييأس على معناه الحقيقي وهو قطع الطمع في الشيء، وعليه يكون المعنى: أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان كفار قريش، ويعلموا أن الله-تبارك وتعالى- لو يشاء هداية الناس جميعا لاهتدوا، ولكنه لم يشأ ذلك، ليتميز الخبيث من الطيب.
وعلى هذا الاتجاه سار الإمام ابن كثير فقد قال- رحمه الله-: وقوله- تعالى: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أى: من إيمان جميع الخلق ويعلموا أو يتبينوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً فإنه ليس هناك حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في النفوس والعقول من هذا القرآن، الذي لو أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبي إلا وقد أوتى ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة .
ويؤيد هذا الاتجاه ما ذكره السيوطي في تفسيره من أن بعض الصحابة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم يا رسول الله، اطلب لهم- أى للمشركين- ما اقترحوه عسى أن يؤمنوا.
أما الاتجاه الثاني فيرى أصحابه أن الفعل ييأس بمعنى يعلم، وعليه يكون المعنى: أفلم يعلم المؤمنون أنه- سبحانه - لو شاء هداية الناس جميعا لآمنوا.
وهذا الاتجاه صدر به الآلوسى تفسيره فقال ما ملخصه:ومعنى قوله- سبحانه -: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أفلم يعلموا.
وهي كما قال القاسم بن معن لغة هوازن.
وقال الكلبي هي لغة حي من النخع، وأنشدوا على ذلك قول سحيم بن وئيل الرباحي:أقول لهم بالشعب إذ يأسروننى ...
ألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدموقول رباح بن عدى:ألم ييأس الأقوام أنى أنا ابنه ...
وإن كنت عن أرض العشيرة نائياوالظاهر أن استعمال اليأس في ذلك حقيقة.
وقيل مجاز لأنه متضمن للعلم فان الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون ...
والفاء للعطف على مقدر.
أى: أغفلوا عن كون الأمر جميعه لله-تبارك وتعالى- فلم يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ....ثم حذر- سبحانه - الكافرين من التمادي في كفرهم، وبشر المؤمنين بحسن العاقبة فقال-تبارك وتعالى-: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ.
والقارعة: من القرع، وهو ضرب الشيء بشيء آخر بقوة وجمعها قوارع.
والمراد بها: الرزية والمصيبة والكارثة.
أى: ولا يزال الذين كفروا من أهل مكة وغيرهم تصيبهم بسبب ما صنعوه من الكفر والضلال «قارعة» أى مصيبة تفجؤهم وتزعجهم أو تحل تلك المصيبة في مكان قريب من دارهم، فيتطاير شرها إليهم، حتى يأتى وعد الله بهلاكهم وهزيمتهم ونصر المؤمنين عليهم، إن الله-تبارك وتعالى- لا يخلف الميعاد، أى: موعوده لرسله ولعباده المؤمنين.
وأبهم- سبحانه - ما يصيب الكافرين من قوارع، لتهويله وبيان شدته.
والتعبير بقوله وَلا يَزالُ يشير إلى أن ما أصابهم من قوارع كان موجودا قبل نزول هذه الآية، واستمرت إصابته لهم بعد نزولها، لأن الفعل لا يَزالُ يدل على الإخبار باستمرار شيء واقع.
ولعل هذه الآية الكريمة كان نزولها في خلال سنى الجدب التي حلت بقريش والتي أشار إليها القرآن بقوله: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ ....وعبر- سبحانه - عما أصابهم من بلاء بالقارعة، للمبالغة في شدته وقوته.
حتى إنه ليقرع قلوبهم فجأة فيبهتهم ويزعجهم، ولذلك سميت القيامة بالقارعة، لأنها تقرع القلوب بأهوالها.
وقال- سبحانه -: أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ لبيان أنهم بين أمرين أحلاهما مرّ لأن القارعة إما أن تصيبهم بما يكرهونه ويتألمون له، وإما أن تنزل قريبا منهم فتفزعهم، وتقلق أمنهم، وهم مستمرون على ذلك حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
ولقد قضى الله-تبارك وتعالى- أمره، بهزيمتهم في بدر وفي غيرها.
وأتم نصره على المؤمنين بفتح مكة.
وبدخول الناس في دين الله أفواجا.
ثم أخذت السورة الكريمة بعد ذلك في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وفي إقامة الأدلة على وحدانية الله-تبارك وتعالى- وعلى بطلان الشرك، وفي بيان ما أعده للكافرين من عقاب، وما أعده للمتقين من ثواب فقال تعالى:
» تفسير القرطبي: مضمون الآية
قوله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعادقوله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال هذا متصل بقول : لولا أنزل عليه آية من ربه .
وذلك أن نفرا من مشركي مكة فيهم أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية المخزوميان جلسوا خلف الكعبة ، ثم أرسلوا إلى رسول الله فأتاهم ; فقال له عبد الله : إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن ، فأذهبها عنا حتى تنفسح ; فإنها أرض ضيقة ، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا ، حتى نغرس ونزرع ; فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه ، وسخر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا وحوائجنا ، ثم نرجع من يومنا ; فقد كان سليمان سخرت له الريح كما زعمت ; فلست بأهون على ربك من سليمان بن داود ، وأحي لنا قصيا جدك ، أو من شئت أنت من موتانا نسأله ; أحق ما تقول أنت أم باطل ؟ فإن عيسى كان يحيي الموتى ، ولست بأهون على الله منه ; فأنزل الله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الآية ; قال معناه الزبير بن العوام ومجاهد وقتادة والضحاك ; والجواب محذوف تقديره : لكان هذا القرآن ، لكن حذف إيجازا ، لما في ظاهر الكلام من الدلالة عليه ; كما قال امرؤ القيس :فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسايعني لهان علي ; هذا معنى قول قتادة ; قال : لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعله قرآنكم .
وقيل : الجواب متقدم ، وفي الكلام تقديم وتأخير ; أي وهم يكفرون بالرحمن لو أنزلنا القرآن وفعلنا بهم ما اقترحوا .
الفراء : يجوز أن يكون الجواب لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن .
الزجاج : ولو أن قرآنا إلى قوله : الموتى لما آمنوا ، والجواب المضمر هنا ما أظهر في قوله : " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة " إلى قوله : " ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله " .
بل لله الأمر جميعا أي هو المالك لجميع الأمور ، الفاعل لما يشاء منها ، فليس ما تلتمسونه مما يكون بالقرآن ، إنما يكون بأمر الله .
قوله تعالى : أفلم ييأس الذين آمنوا قال الفراء قال الكلبي : " ييأس " بمعنى يعلم ، لغة النخع ; وحكاه القشيري عن ابن عباس ; أي أفلم يعلموا ; وقاله الجوهري في الصحاح .
وقيل : هو لغة هوازن ; أي أفلم يعلم ; عن ابن عباس ومجاهد والحسن .
وقال أبو عبيدة : أفلم يعلموا ويتبينوا ، وأنشد في ذلك أبو عبيدة لمالك بن عوف النصري :أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدمييسرونني من الميسر ، وقد تقدم في " البقرة " ويروى يأسرونني من الأسر .
وقال رباح بن عدي :ألم ييئس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيافي كتاب الرد " أني أنا ابنه " وكذا ذكره الغزنوي : ألم يعلم ; والمعنى على هذا : أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات .
وقيل : هو من اليأس المعروف ; أي أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان هؤلاء الكفار ، لعلمهم أن الله تعالى لو أراد هدايتهم لهداهم ; لأن المؤمنين تمنوا نزول الآيات طمعا في إيمان الكفار .
وقرأ علي وابن عباس : " أفلم يتبين الذين آمنوا " من البيان .
قال القشيري : وقيل لابن عباس المكتوب " أفلم ييئس " قال : أظن الكاتب كتبها وهو ناعس ; أي زاد بعض الحروف حتى صار ييئس .
قال أبو بكر الأنباري : روي عن عكرمة عن ابن أبي نجيح أنه قرأ - " أفلم يتبين الذين آمنوا " وبها احتج من زعم أنه الصواب في التلاوة ; وهو باطل عن ابن عباس ، لأن مجاهدا وسعيد بن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس ، على ما هو في المصحف بقراءة أبي عمرو وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس ; ثم إن معناه : أفلم يتبين ; فإن كان مراد الله تحت اللفظة التي خالفوا بها الإجماع فقراءتنا تقع عليها ، وتأتي بتأويلها ، وإن أراد الله المعنى الآخر الذي اليأس فيه ليس من طريق العلم فقد سقط مما أوردوا ; وأما سقوطه يبطل القرآن ، ولزوم أصحابه البهتان .
" أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " " أن " مخففة من الثقيلة ، أي أنه لو يشاء الله " لهدى الناس جميعا " وهو يرد على القدرية وغيرهم .
قوله تعالى : ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أي داهية تفجؤهم بكفرهم وعتوهم ، ويقال : قرعه أمر إذا أصابه ، والجمع قوارع ; والأصل في القرع الضرب ; قال :أفنى تلادي وما جمعت من نشب قرع القواقيز أفواه الأباريقأي لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد ، أو من قتل أو من أسر أو جدب ، أو غير ذلك من العذاب والبلاء ; كما نزل بالمستهزئين ، وهم رؤساء المشركين .
وقال عكرمة عن ابن عباس : القارعة النكبة .
وقال ابن عباس أيضا وعكرمة : القارعة الطلائع والسرايا التي كان ينفذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم .
أو تحل أي القارعة .
قريبا من دارهم قاله قتادة والحسن .
وقال ابن عباس : أو تحل أنت قريبا من دارهم .
وقيل : نزلت الآية بالمدينة ; أي لا تزال تصيبهم القوارع فتنزل بساحتهم أو بالقرب منهم كقرى المدينة ومكة .
" حتى يأتي وعد الله " في فتح مكة ; قاله مجاهد وقتادة وقيل : نزلت بمكة ; أي تصيبهم القوارع ، وتخرج عنهم إلى المدينة يا محمد ، فتحل قريبا من دارهم ، أو تحل بهم محاصرا لهم ; وهذه المحاصرة لأهل الطائف ، ولقلاع خيبر ، ويأتي وعد الله بالإذن لك في قتالهم وقهرهم .
وقال الحسن : وعد الله يوم القيامة .