Şøķåŕą
03-24-2023, 10:50 AM
توجيهات وتحقيقات في الأحاديث النبوية (5)
الحديث الخامس
عن أبي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه، أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتَوا على حيٍّ من أحياء العرَب فلم يقرُوهم[1]، فبينما هم كذلك؛ إذ لُدغ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم من دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنكُم لم تقرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعلُوا لنا جُعلاً، فجعلُوا لهم قطيعًا من الشَّاء، فجعل يقرأُ بأمِّ القرآن، ويجمعُ بُزاقَه ويتفِلُ، فبرأ فأتَوا بالشَّاء، فقالوا: لا نأخُذُه حتى نسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فسألوه فضحكَ، وقال: ((وما أدراك أنها رُقيةٌ؟ خُذُوها واضربُوا لي بسهمٍ))[2].
توجيهات وتحقيقات الحديث:
"أتَوا على حيٍّ من أحياء العرَب" كانوا من المشركين؛ ولهذا لم يقرُوهم، ولو كانوا من المسلمين لقَرَوهم؛ لأنهم يكونون إخوانًا لهم[3].
"فبينما هم كذلك؛ إِذ لُدغ سيِّدُ أولئك"، اختُلف في "إذ" الواقعة بعد بينا أو بينما، فقيل: هي ظرفُ مكانٍ أو زمان، أو حرفٌ بمعنى المفاجأة، أو حرف توكيدٍ؛ أي زائد.
وعامل "بينا وبينما" محذوفٌ يفسِّره الفعلُ المذكور، وقيل: "إذ" مضافة إلى الجملة، فلا يَعمل فيها الفعلُ ولا في بينا وبينما؛ لأنَّ المضاف إليه لا يعمل في المضافِ ولا فيما قبله، فيكون عاملها محذوفًا يدلُّ عليه الكلام، و"إذ" بدلٌ منهما، وقيل في إعرابها غير ذلك.
"سيِّد أولئك": ولم يقل "هؤلاء" تحقيرًا لهم باسم الإشارة الذي هو للبعيد؛ لأنَّهم لم يقروهم.
"هل معكم من دواءٍ أو راقٍ؟": "هل" حرف استفهام، و"معكم" ظرف ومضاف إليه متعلِّق بمحذوف خبر مقدَّم، و"مِن" زائدة، و"دواء" مبتدأ مجرور لفظًا بـ"من" الزائدة مرفوع محلًّا،و"راقٍ" معطوف على "دواء"، مرفوعٌ بضمَّة مقدَّرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، و"راقٍ" اسم فاعل مِن رقى بمعنى الرُّقية، [وهو] اسم فاعل على بابه؛ فهو يسأل عن راق حقيقة].
وقُدِّمَ "دواءً" على "راقٍ"؛ لأنَّ الدواء هو العلاج الأصليُّ للأمراض، أمَّا الرقية فتأتي بعد الدواء.
"فجعل يقرأُ بأمِّ القرآن": هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه؛ كما يُؤخذ من روايةٍ أخرى جاء فيها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث سريَّة عددها ثلاثون رجلاً وأمَّرَ عليهم أبا سعيد رضي الله عنه.
"فأتوا بالشَّاء": الفعل "أتى" متعدٍّ، ومفعولُه محذوف تقديره فأتوهم، و"أل" في الشَّاء للعهد الذِّكري، والمعهود: القطيع من الشَّاء الذي اتَّفقوا عليه؛ وهو ثلاثون من الغنم.
"فأتَوا بالشَّاء، فقالوا: لا نأخُذُه حتى نسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم": ليس المراد أنهم أبَوا أن يأخذوها منهم؛ وإنَّما الذي حصل أنهم أعطوهم الشَّاءَ وقدَّموا لهم طعامًا، فأكلوا الطعامَ وأرادوا قسمةَ الغنم، فقال لهم أبو سعيد رضي الله عنه: لا تفعلوا حتى نأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم وننظر ما يأمرنا، ولا نأخذ على كتابِ الله أجرًا.
وقد يُقال: كيف أنكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن يأخذ هذا الأجرَ بعد أنْ طلبَه وأخذه؟
والجواب: لأنه ظنَّ أولاً أنَّه يجوز له ذلك، ثُمَّ شَكَّ في جوازِه له؛ لأنَّه أخذه باجتهادٍ منه، والمجتهِد قد يُخطئ في اجتهاده كما يُصيب فيه.
"فسألوه فضحكَ": إنما ضحك النبيُّ صلى الله عليه وسلم إقرارًا لفعلهم؛ لأن هذا علامة إقرار الفعل، كما أنَّ الغضب علامة عدم إقرارِه.
وقيل: إن في ضحكِه صلوات الله وسلامه عليه بلاغَةً، والصحيح أن البلاغةَ من صفات الكلام، والضحك ليس بكلامٍ؛ فلا يُوصف بالبلاغة.
((وما أدراك أنها رُقيةٌ؟)) الاستفهام تقريريٌّ، يُراد منه تقرير أنَّها رقية، ويجوز أنْ يكون تعجبيًّا.
((خُذُوها واضربُوا لي بسهمٍ))، قد يُقال: فكيف اقتسموا الشاءَ مع أنها أَجْر الراقي - وهو أبو سعيد رضي الله عنه؟ وكيف أخذ النبيُّ صلوات الله وسلامه عليه سهمًا، مع أنه لم يكن معهم؟
والجواب: أنهم اقتسموها برِضا أبي سعيد رضي الله عنه، ويجوز أنْ يكونوا عدُّوها فيئًا؛ لأنها حصلَت لهم وهم في سبيلهم إلى الجِهاد؛ فتكون من الفَيْء الذي يحصل قبل القتال.
وإنما أخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سهمًا منها؛ إظهارًا لِحِلِّها، أو لأنَّ له حقًّا في الفَيْء أيضًا.
وقد يُقال: وهل حصل البرءُ بتأثير الفاتحة، أو بتأثير الراقي فيمن رقاه؟
والجواب: أنه قِيل: بتأثير الفاتحة؛ قال الله تعالي: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82][4].
وقيل: إنَّ الفاتحة وغيرها من القرآن لم تنزل ليُرقى بها، وإنما القرآن كتاب هداية للناس؛ قال تعالي: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]، ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16]، ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 52]، ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ﴾ [لقمان: 2، 3]، وعلى هذا يكون البُرْء بتأثير الرَّاقي فيمن رقاه عندها لا بها، وهذا أمرٌ قد يُوجد في بعض الناس، فلا يصحُّ لكلِّ واحدٍ أنْ يتعاطاه، ولا يصحُّ أن يكون هو المعوَّل عليه في علاج المرضى، وإنما يجب أن يكون المعوَّل عليه في علاجهم الدواء؛ كما ورد في حديث: ((عبادَ اللهِ، تداووا ولا تداووا بحرام))[5]، وعن أسامة بن زيد وابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله بثَّ الداءَ وبثَّ الدواء، وجعل لكلِّ داءٍ دواءً من الشجر والعسل؛ فتداووا))[6].
وعن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم: أنَّ رجلاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جُرح فاحتقن الجرجُ بالدم، وأن الرجل دعا برجلين من بني أنمار فنظرا إليهِ، فقال لهما رسول الله: ((أيُّكما أطب؟)) فقالا: أفي الطبِّ خيرٌ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزل الدواءَ الذي أنزل الداءَ))[7].
عن أُسامة بن شريكٍ قال: قالت الأعرابُ: يا رسُول الله، ألا نتداوى؟ قال: ((نعم يا عباد الله، تداووا؛ فإن الله لم يضع داءً إلاَّ وضع له شفاءً))، أو قال: ((دواءً، إلا داءً واحدًا))، قالوا: يا رسُول الله وما هو؟! قال: ((الهرَمُ)).
وفي لفظٍ: ((تداووا عبادَ الله، فإنَّ الله لم ينزل داءً إلاَّ قد أنزل له شفاءً؛ إلا السام والهرَم))[8].
وقد يُقال: وكيف داوَوا سيِّدَ أولئك المشركين، مع أنهم كانوا يجاهدونَهم؟!
والجواب: إنما داووه لأنهم لم يكونوا في جهادٍ معهم؛ وإنَّما كانوا في طريقِهم إلى الجهاد مع غيرهم، ولأن الإسلامَ دينٌ سَمْح؛ فهو يدفع السيئةَ بالحسنة، ويداوي من يطلب الدواءَ منه، وإن كان من أعدائه الذين يناوئونَه، ولا خلاف بين الفقهاء في جواز رقيةِ المسلم للكافر[9].
تنبيه: ورد في بعض طُرُق الحديث أنه قرأ الفاتحةَ سبعَ مرَّات؛ والأظهر أنَّها رواية شاذَّة.
تتمة: في ذكر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في بيان رقية النبي صلى الله عليه وسلم:
عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعوِّذُ بعضَ أهله؛ يمسحُ بيده اليُمنى، ويقُولُ: ((اللهمَّ ربَّ الناس، أَذْهِب الباس، اشفِه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤُك، شفاءً لا يُغادِرُ سقمًا))[10].
"يمسحُ بيده اليُمنى" فُصل عما قبله؛ لما بينهما من كمالِ الاتصال؛ لأن الثاني بيانٌ للأول، ويجوز أن يكون الفصل لشبهِ كمال الاتِّصال؛ لأن الثاني جواب عن سؤال مقدَّر، وتقديره: كيف كان يعوِّذهم؟
وقولها: "يمسحُ بيده اليُمنى" فيه إيجازٌ بالحذف؛ والتقدير: يمسح بيده اليمنَى على مَن يعوِّذه.
((وأنت الشافي)): الواو للحال، ((أنت الشافي)) في موضع نصبٍ على الحاليَّة.
((لا شفاء إلا شفاؤُك)): فُصل عمَّا قبله لكمالِ الانقطاع؛ لاختلافهما خبرًا وإنشاءً.
((شفاءً لا يُغادرُ سقمًا)) فُصل عمَّا قبله لما بينهما من كمالِ الاتصال، أو لشِبه كمال الاتصال؛ لأنه يجوز أن يكون جوابًا لسؤالٍ مقدَّرٍ، وتقديره: لماذا كان لا شفاءَ إلا شفاؤه؟
الحديث الخامس
عن أبي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه، أن ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتَوا على حيٍّ من أحياء العرَب فلم يقرُوهم[1]، فبينما هم كذلك؛ إذ لُدغ سيِّدُ أولئك، فقالوا: هل معكم من دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنكُم لم تقرُونا، ولا نفعلُ حتى تَجعلُوا لنا جُعلاً، فجعلُوا لهم قطيعًا من الشَّاء، فجعل يقرأُ بأمِّ القرآن، ويجمعُ بُزاقَه ويتفِلُ، فبرأ فأتَوا بالشَّاء، فقالوا: لا نأخُذُه حتى نسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فسألوه فضحكَ، وقال: ((وما أدراك أنها رُقيةٌ؟ خُذُوها واضربُوا لي بسهمٍ))[2].
توجيهات وتحقيقات الحديث:
"أتَوا على حيٍّ من أحياء العرَب" كانوا من المشركين؛ ولهذا لم يقرُوهم، ولو كانوا من المسلمين لقَرَوهم؛ لأنهم يكونون إخوانًا لهم[3].
"فبينما هم كذلك؛ إِذ لُدغ سيِّدُ أولئك"، اختُلف في "إذ" الواقعة بعد بينا أو بينما، فقيل: هي ظرفُ مكانٍ أو زمان، أو حرفٌ بمعنى المفاجأة، أو حرف توكيدٍ؛ أي زائد.
وعامل "بينا وبينما" محذوفٌ يفسِّره الفعلُ المذكور، وقيل: "إذ" مضافة إلى الجملة، فلا يَعمل فيها الفعلُ ولا في بينا وبينما؛ لأنَّ المضاف إليه لا يعمل في المضافِ ولا فيما قبله، فيكون عاملها محذوفًا يدلُّ عليه الكلام، و"إذ" بدلٌ منهما، وقيل في إعرابها غير ذلك.
"سيِّد أولئك": ولم يقل "هؤلاء" تحقيرًا لهم باسم الإشارة الذي هو للبعيد؛ لأنَّهم لم يقروهم.
"هل معكم من دواءٍ أو راقٍ؟": "هل" حرف استفهام، و"معكم" ظرف ومضاف إليه متعلِّق بمحذوف خبر مقدَّم، و"مِن" زائدة، و"دواء" مبتدأ مجرور لفظًا بـ"من" الزائدة مرفوع محلًّا،و"راقٍ" معطوف على "دواء"، مرفوعٌ بضمَّة مقدَّرة على الياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، و"راقٍ" اسم فاعل مِن رقى بمعنى الرُّقية، [وهو] اسم فاعل على بابه؛ فهو يسأل عن راق حقيقة].
وقُدِّمَ "دواءً" على "راقٍ"؛ لأنَّ الدواء هو العلاج الأصليُّ للأمراض، أمَّا الرقية فتأتي بعد الدواء.
"فجعل يقرأُ بأمِّ القرآن": هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه؛ كما يُؤخذ من روايةٍ أخرى جاء فيها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث سريَّة عددها ثلاثون رجلاً وأمَّرَ عليهم أبا سعيد رضي الله عنه.
"فأتوا بالشَّاء": الفعل "أتى" متعدٍّ، ومفعولُه محذوف تقديره فأتوهم، و"أل" في الشَّاء للعهد الذِّكري، والمعهود: القطيع من الشَّاء الذي اتَّفقوا عليه؛ وهو ثلاثون من الغنم.
"فأتَوا بالشَّاء، فقالوا: لا نأخُذُه حتى نسأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم": ليس المراد أنهم أبَوا أن يأخذوها منهم؛ وإنَّما الذي حصل أنهم أعطوهم الشَّاءَ وقدَّموا لهم طعامًا، فأكلوا الطعامَ وأرادوا قسمةَ الغنم، فقال لهم أبو سعيد رضي الله عنه: لا تفعلوا حتى نأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم وننظر ما يأمرنا، ولا نأخذ على كتابِ الله أجرًا.
وقد يُقال: كيف أنكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن يأخذ هذا الأجرَ بعد أنْ طلبَه وأخذه؟
والجواب: لأنه ظنَّ أولاً أنَّه يجوز له ذلك، ثُمَّ شَكَّ في جوازِه له؛ لأنَّه أخذه باجتهادٍ منه، والمجتهِد قد يُخطئ في اجتهاده كما يُصيب فيه.
"فسألوه فضحكَ": إنما ضحك النبيُّ صلى الله عليه وسلم إقرارًا لفعلهم؛ لأن هذا علامة إقرار الفعل، كما أنَّ الغضب علامة عدم إقرارِه.
وقيل: إن في ضحكِه صلوات الله وسلامه عليه بلاغَةً، والصحيح أن البلاغةَ من صفات الكلام، والضحك ليس بكلامٍ؛ فلا يُوصف بالبلاغة.
((وما أدراك أنها رُقيةٌ؟)) الاستفهام تقريريٌّ، يُراد منه تقرير أنَّها رقية، ويجوز أنْ يكون تعجبيًّا.
((خُذُوها واضربُوا لي بسهمٍ))، قد يُقال: فكيف اقتسموا الشاءَ مع أنها أَجْر الراقي - وهو أبو سعيد رضي الله عنه؟ وكيف أخذ النبيُّ صلوات الله وسلامه عليه سهمًا، مع أنه لم يكن معهم؟
والجواب: أنهم اقتسموها برِضا أبي سعيد رضي الله عنه، ويجوز أنْ يكونوا عدُّوها فيئًا؛ لأنها حصلَت لهم وهم في سبيلهم إلى الجِهاد؛ فتكون من الفَيْء الذي يحصل قبل القتال.
وإنما أخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم سهمًا منها؛ إظهارًا لِحِلِّها، أو لأنَّ له حقًّا في الفَيْء أيضًا.
وقد يُقال: وهل حصل البرءُ بتأثير الفاتحة، أو بتأثير الراقي فيمن رقاه؟
والجواب: أنه قِيل: بتأثير الفاتحة؛ قال الله تعالي: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ﴾ [الإسراء: 82][4].
وقيل: إنَّ الفاتحة وغيرها من القرآن لم تنزل ليُرقى بها، وإنما القرآن كتاب هداية للناس؛ قال تعالي: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 2]، ﴿ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 15، 16]، ﴿ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 52]، ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ﴾ [لقمان: 2، 3]، وعلى هذا يكون البُرْء بتأثير الرَّاقي فيمن رقاه عندها لا بها، وهذا أمرٌ قد يُوجد في بعض الناس، فلا يصحُّ لكلِّ واحدٍ أنْ يتعاطاه، ولا يصحُّ أن يكون هو المعوَّل عليه في علاج المرضى، وإنما يجب أن يكون المعوَّل عليه في علاجهم الدواء؛ كما ورد في حديث: ((عبادَ اللهِ، تداووا ولا تداووا بحرام))[5]، وعن أسامة بن زيد وابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله بثَّ الداءَ وبثَّ الدواء، وجعل لكلِّ داءٍ دواءً من الشجر والعسل؛ فتداووا))[6].
وعن مالك بن أنس عن زيد بن أسلم: أنَّ رجلاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جُرح فاحتقن الجرجُ بالدم، وأن الرجل دعا برجلين من بني أنمار فنظرا إليهِ، فقال لهما رسول الله: ((أيُّكما أطب؟)) فقالا: أفي الطبِّ خيرٌ يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنزل الدواءَ الذي أنزل الداءَ))[7].
عن أُسامة بن شريكٍ قال: قالت الأعرابُ: يا رسُول الله، ألا نتداوى؟ قال: ((نعم يا عباد الله، تداووا؛ فإن الله لم يضع داءً إلاَّ وضع له شفاءً))، أو قال: ((دواءً، إلا داءً واحدًا))، قالوا: يا رسُول الله وما هو؟! قال: ((الهرَمُ)).
وفي لفظٍ: ((تداووا عبادَ الله، فإنَّ الله لم ينزل داءً إلاَّ قد أنزل له شفاءً؛ إلا السام والهرَم))[8].
وقد يُقال: وكيف داوَوا سيِّدَ أولئك المشركين، مع أنهم كانوا يجاهدونَهم؟!
والجواب: إنما داووه لأنهم لم يكونوا في جهادٍ معهم؛ وإنَّما كانوا في طريقِهم إلى الجهاد مع غيرهم، ولأن الإسلامَ دينٌ سَمْح؛ فهو يدفع السيئةَ بالحسنة، ويداوي من يطلب الدواءَ منه، وإن كان من أعدائه الذين يناوئونَه، ولا خلاف بين الفقهاء في جواز رقيةِ المسلم للكافر[9].
تنبيه: ورد في بعض طُرُق الحديث أنه قرأ الفاتحةَ سبعَ مرَّات؛ والأظهر أنَّها رواية شاذَّة.
تتمة: في ذكر حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في بيان رقية النبي صلى الله عليه وسلم:
عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعوِّذُ بعضَ أهله؛ يمسحُ بيده اليُمنى، ويقُولُ: ((اللهمَّ ربَّ الناس، أَذْهِب الباس، اشفِه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤُك، شفاءً لا يُغادِرُ سقمًا))[10].
"يمسحُ بيده اليُمنى" فُصل عما قبله؛ لما بينهما من كمالِ الاتصال؛ لأن الثاني بيانٌ للأول، ويجوز أن يكون الفصل لشبهِ كمال الاتِّصال؛ لأن الثاني جواب عن سؤال مقدَّر، وتقديره: كيف كان يعوِّذهم؟
وقولها: "يمسحُ بيده اليُمنى" فيه إيجازٌ بالحذف؛ والتقدير: يمسح بيده اليمنَى على مَن يعوِّذه.
((وأنت الشافي)): الواو للحال، ((أنت الشافي)) في موضع نصبٍ على الحاليَّة.
((لا شفاء إلا شفاؤُك)): فُصل عمَّا قبله لكمالِ الانقطاع؛ لاختلافهما خبرًا وإنشاءً.
((شفاءً لا يُغادرُ سقمًا)) فُصل عمَّا قبله لما بينهما من كمالِ الاتصال، أو لشِبه كمال الاتصال؛ لأنه يجوز أن يكون جوابًا لسؤالٍ مقدَّرٍ، وتقديره: لماذا كان لا شفاءَ إلا شفاؤه؟