نور القمر
02-19-2023, 01:38 PM
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
الهَمُّ: "هو تَوَقُّعُ المَكْرُوهِ في المُسْتَقْبَل"، وهو القَلَقُ.
والهُمومُ تَتَنَوَّعُ في طبيعتِها، وفي الأسبابِ التي تدعو إليها؛ فمنها: ما هو محمودٌ، ومنها: ما هو مذمومٌ. ومنها: ما يكون مَنْشَؤهُ من داخل الإنسان
ومنها: ما يكون خارجيًّا. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَتْ له بعضٌ من الهُمومِ في حياته، وكذا الصحابةُ رضي الله عنهم
لكنهم لم يَسْتَسْلِموا لها؛ بل اتَّخَذوا إيمانهم بالله مَلْجَأً يلجؤون إليه، واتَّخذوا من نبيِّهم قُدوةً في التَّعامل مع هذه الهُموم الطَّارِئة.
ومن أَهَمِّ أسبابِ الهُمومِ الوارِدَةِ في السُّنةِ النبوية:
1- الهَمُّ الذي يُصِيبُ الدَّاعِيةَ إلى الله؛ من عدمِ استجابةِ الناسِ له: وهذا الهَمُّ عَرَضَ لجميع الأنبياء والرُّسل؛ فلَجَؤوا إلى الله تعالى
فكانت العاقبةُ لهم، ومِنْ أبْرَزِ الأمثلةِ: دعوةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف، والشاهِدُ قوله: «عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ
فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ» متفق عليه.
فقد صَرَّحَ - صلى الله عليه وسلم - بالهَمِّ الذي أصابَه؛ نتيجةَ الاستقبالِ السَّيِّئِ الذي لاقاه من أهلِ الطائف. فقال: «وَأَنَا مَهْمُومٌ»
أَيْ: فَانْطَلَقْتُ حَيْرَانًا هَائِمًا لَا أَدْرِي أَيْنَ أَتَوَجَّهُ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الهَمِّ، وَصُعُوبَةِ ذَلِكَ الغَمِّ. إِذًا؛ فالهَمُّ من الأعراض البشرية التي تُصِيبُ الأنبياءَ أيضًا
ولكنه هَمٌّ محمودٌ؛ لأنه مُتَعَلِّقٌ بالآخرة. والمذمومُ منه؛ هو الهَمُّ على ما فاتَ من أُمورِ الدُّنيا.
2- الهَمُّ الذي يَعْرِضُ بِسَبَبِ العلاقاتِ الاجتماعية: ما دام الإنسانُ مُخالِطًا للناس؛ فقد تُصِيبُه بعضُ الهُمومِ من تَصَرُّفاتِ البعض
فإنَّ الناسَ مُختلِفون في الطَّبائِعِ والتَّصرُّفات؛ فمنهم الصَّالِح، ومنهم الطَّالِح، وقد تَعَرَّضَ زيدُ بنُ أَرْقَمَ لِلهَمِّ؛ نتيجةَ تكذيبِه، واتِّهامِه بالباطل؛
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ فِي غَزَاةٍ، فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ: لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ
وَلَوْ رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِهِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَانِي، فَحَدَّثْتُهُ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا. فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَدَّقَهُ، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ
فَجَلَسْتُ فِي البَيْتِ، فَقَالَ لِي عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَقَتَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ﴾ [الْمُنَافِقُونَ: 1]
فَبَعَثَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ» رواه البخاري. فالهَمُّ الذي أصابَ هذا الصَّحابِيَّ الجليلَ
على ما يُسْتَقْبَل؛ إذْ كيفَ سيلقى الناسَ، وبعضُهم يُشَكِّكُ في صِدْقِه؟
3- الهَمُّ الذي يَعْرِضُ للإنسان نَتِيجةَ تَفْكيرِه بما يَحُلُّ بِأُسرتِه بعدَ مَوتِه: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ أَمْرَكُنَّ مِمَّا يُهِمُّنِي بَعْدِي، وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ إِلاَّ الصَّابِرُونَ» حسن - رواه الترمذي. فقوله: «مِمَّا يُهِمُّنِي بَعْدِي» أي: مِمَّا يُوقِعُنِي في الهَمِّ
من بعدَ وَفاتِي؛ حيثُ لم يتركْ لَهُنَّ مِيراثًا، وهُنَّ قد آثَرْنَ الحياةَ الآخِرَةَ على الدُّنيا حِينَ خُيِّرْنَ، فهو هَمٌّ على أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ.
عباد الله.. لا ينبغي النَّظَرُ إلى لَفْظَةِ "الهَمِّ" من مَنْظورٍ سلبيٍّ بَحْتٍ، فالهَمُّ قد يكون محمودًا إذا كان الباعِثُ له أمرًا شرعيًّا
يَدفع صاحِبَه إلى سُلوكِ الخير. والخُلاصَةُ: أنَّ هَمَّ الدُّنيا يَمْنَعُ الإنسانَ من الخير، وهَمَّ الآخرةِ يَحْمِلُه عليه.
ومِنَ الأهمية بمكانٍ أنْ يُبادِرَ المسلمُ في عِلاجِ الهُموم، حتى لا تُكَدِّرَ عليه صَفْوَ حياتِه، قال ابنُ حزمٍ رحمه الله: (تَطَلَّبْتُ غَرَضًا يَسْتَوِي
النَّاسُ كُلُّهم فِي اسْتِحْسانِه، وَفِي طَلَبِه؛ فَلمْ أَجِدْهُ إِلَّا وَاحِدًا، وَهُوَ طَرْدُ الهَمِّ). ومِنَ أهَمِّ عِلاجِ الهُمُوم:
1- اللُّجوءُ إلى اللهِ بِكَثرَةِ الاستعاذةِ والدُّعاء: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛
فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ...» رواه البخاري. وحقيقة الاسْتِعاذةُ: أنها لُجوءٌ إلى الله تعالى
ولها أثرٌ كبير في تَحْجيمِ الضُّغوطِ النَّفْسِيَّة، وذَهابِها بِالكُلية. فلْيَتَذَكَّرِ المسلمُ: بأنَّ المُستقبلَ بِيَدِ اللهِ وحدِه، وعليه ألاَّ يُعايِشَ في يومِه هُمُومَ غَدٍ
فقد لا تَجِيءُ أبدًا. وهناك أذكارٌ وأدعيةٌ عَلَّمَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصحابةَ الكرام؛ لِيُرَدِّدوها حالَ نُزولِ الهُمومِ والكُروب، وهي كثيرةٌ ومتنوِّعة.
2- مُلازَمَةُ القرآنِ الكريم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلاَ حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ...» إلى قوله:
«أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلاَءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي؛ إِلاَّ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا» صحيح - رواه أحمد.
سألَهُ أنْ يجعلَ القرآنَ شفاءَ هَمِّه وغَمِّه؛ لِيَكونَ بمنزلةِ الدَّواءِ الذي يَسْتأصِلُ الدَّاءَ، ويُعِيدُ البَدَنَ إلى صِحَّتِه واعْتِدالِه. وأنْ يجعلَ القرآنَ لِحُزْنِهِ
كالجِلاَءِ الذي يَجْلُو الطَّبُوعَ والصَّدَأَ. فينبغي للمسلم أنْ يُلازِمَ القرآنَ العظيمَ؛ قِراءَةً واسْتِماعًا، وتَدَبُّرًا وعَمَلاً.
3- الإكثارُ من ذِكْرِ الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ المَلاَئِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ
وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» رواه مسلم. والمراد بالسَّكِينةِ هُنا: الطُّمأنينة، وهي مَطْرَدَةٌ لِلهَمِّ
فلْيَحرِصِ المسلمُ على كلِّ أمرٍ جالبٍ للطُّمأنينة، ومن أفضَلِها ذِكْرُ اللهِ تعالى.
4- أنْ يُدْرِكَ المسلمُ حقيقةَ الدُّنيا: فهي مَطْبوعَةٌ على الهُموم؛ لأنَّها دارَ مَمَرٍّ لا مَقَر، فلا يتوَقَّف كثيرًا إذا ما طرأَتْ عليه هذه الهُمومُ
بل عليه أنْ يَسْتَثْمِرَها في سَيْرِه إلى الدَّارِ الآخِرة؛ مِصْداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ
وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ؛ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ؛ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه مسلم.
فإنْ صَبَرَ عليها؛ فَلْيُبْشِرْ بِمَوعودِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَحَقُّقِ وصْفِ الخَيرِيَّةِ فيه: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا؛ يُصِبْ مِنْهُ» رواه البخاري.
والمسلمُ يرجو نَيْلَ الأُجور من وراءِ هذه الهُموم، وهي مُكَفِّراتٌ للذنوب: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ [النَّصَبُ: التَّعَبُ]، وَلاَ وَصَبٍ
[الوَصَبُ: دَوامُ الوَجَعِ، ولُزومُه]، وَلاَ هَمٍّ، وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى، وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا؛ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» رواه البخاري.
_ يُتبع ..
الهَمُّ: "هو تَوَقُّعُ المَكْرُوهِ في المُسْتَقْبَل"، وهو القَلَقُ.
والهُمومُ تَتَنَوَّعُ في طبيعتِها، وفي الأسبابِ التي تدعو إليها؛ فمنها: ما هو محمودٌ، ومنها: ما هو مذمومٌ. ومنها: ما يكون مَنْشَؤهُ من داخل الإنسان
ومنها: ما يكون خارجيًّا. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم عَرَضَتْ له بعضٌ من الهُمومِ في حياته، وكذا الصحابةُ رضي الله عنهم
لكنهم لم يَسْتَسْلِموا لها؛ بل اتَّخَذوا إيمانهم بالله مَلْجَأً يلجؤون إليه، واتَّخذوا من نبيِّهم قُدوةً في التَّعامل مع هذه الهُموم الطَّارِئة.
ومن أَهَمِّ أسبابِ الهُمومِ الوارِدَةِ في السُّنةِ النبوية:
1- الهَمُّ الذي يُصِيبُ الدَّاعِيةَ إلى الله؛ من عدمِ استجابةِ الناسِ له: وهذا الهَمُّ عَرَضَ لجميع الأنبياء والرُّسل؛ فلَجَؤوا إلى الله تعالى
فكانت العاقبةُ لهم، ومِنْ أبْرَزِ الأمثلةِ: دعوةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأهل الطائف، والشاهِدُ قوله: «عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ
فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ» متفق عليه.
فقد صَرَّحَ - صلى الله عليه وسلم - بالهَمِّ الذي أصابَه؛ نتيجةَ الاستقبالِ السَّيِّئِ الذي لاقاه من أهلِ الطائف. فقال: «وَأَنَا مَهْمُومٌ»
أَيْ: فَانْطَلَقْتُ حَيْرَانًا هَائِمًا لَا أَدْرِي أَيْنَ أَتَوَجَّهُ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الهَمِّ، وَصُعُوبَةِ ذَلِكَ الغَمِّ. إِذًا؛ فالهَمُّ من الأعراض البشرية التي تُصِيبُ الأنبياءَ أيضًا
ولكنه هَمٌّ محمودٌ؛ لأنه مُتَعَلِّقٌ بالآخرة. والمذمومُ منه؛ هو الهَمُّ على ما فاتَ من أُمورِ الدُّنيا.
2- الهَمُّ الذي يَعْرِضُ بِسَبَبِ العلاقاتِ الاجتماعية: ما دام الإنسانُ مُخالِطًا للناس؛ فقد تُصِيبُه بعضُ الهُمومِ من تَصَرُّفاتِ البعض
فإنَّ الناسَ مُختلِفون في الطَّبائِعِ والتَّصرُّفات؛ فمنهم الصَّالِح، ومنهم الطَّالِح، وقد تَعَرَّضَ زيدُ بنُ أَرْقَمَ لِلهَمِّ؛ نتيجةَ تكذيبِه، واتِّهامِه بالباطل؛
عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ فِي غَزَاةٍ، فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ: لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ، حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ
وَلَوْ رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِهِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَانِي، فَحَدَّثْتُهُ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا. فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَدَّقَهُ، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ قَطُّ
فَجَلَسْتُ فِي البَيْتِ، فَقَالَ لِي عَمِّي: مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَقَتَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ﴾ [الْمُنَافِقُونَ: 1]
فَبَعَثَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ» رواه البخاري. فالهَمُّ الذي أصابَ هذا الصَّحابِيَّ الجليلَ
على ما يُسْتَقْبَل؛ إذْ كيفَ سيلقى الناسَ، وبعضُهم يُشَكِّكُ في صِدْقِه؟
3- الهَمُّ الذي يَعْرِضُ للإنسان نَتِيجةَ تَفْكيرِه بما يَحُلُّ بِأُسرتِه بعدَ مَوتِه: عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ أَمْرَكُنَّ مِمَّا يُهِمُّنِي بَعْدِي، وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ إِلاَّ الصَّابِرُونَ» حسن - رواه الترمذي. فقوله: «مِمَّا يُهِمُّنِي بَعْدِي» أي: مِمَّا يُوقِعُنِي في الهَمِّ
من بعدَ وَفاتِي؛ حيثُ لم يتركْ لَهُنَّ مِيراثًا، وهُنَّ قد آثَرْنَ الحياةَ الآخِرَةَ على الدُّنيا حِينَ خُيِّرْنَ، فهو هَمٌّ على أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ.
عباد الله.. لا ينبغي النَّظَرُ إلى لَفْظَةِ "الهَمِّ" من مَنْظورٍ سلبيٍّ بَحْتٍ، فالهَمُّ قد يكون محمودًا إذا كان الباعِثُ له أمرًا شرعيًّا
يَدفع صاحِبَه إلى سُلوكِ الخير. والخُلاصَةُ: أنَّ هَمَّ الدُّنيا يَمْنَعُ الإنسانَ من الخير، وهَمَّ الآخرةِ يَحْمِلُه عليه.
ومِنَ الأهمية بمكانٍ أنْ يُبادِرَ المسلمُ في عِلاجِ الهُموم، حتى لا تُكَدِّرَ عليه صَفْوَ حياتِه، قال ابنُ حزمٍ رحمه الله: (تَطَلَّبْتُ غَرَضًا يَسْتَوِي
النَّاسُ كُلُّهم فِي اسْتِحْسانِه، وَفِي طَلَبِه؛ فَلمْ أَجِدْهُ إِلَّا وَاحِدًا، وَهُوَ طَرْدُ الهَمِّ). ومِنَ أهَمِّ عِلاجِ الهُمُوم:
1- اللُّجوءُ إلى اللهِ بِكَثرَةِ الاستعاذةِ والدُّعاء: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛
فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ...» رواه البخاري. وحقيقة الاسْتِعاذةُ: أنها لُجوءٌ إلى الله تعالى
ولها أثرٌ كبير في تَحْجيمِ الضُّغوطِ النَّفْسِيَّة، وذَهابِها بِالكُلية. فلْيَتَذَكَّرِ المسلمُ: بأنَّ المُستقبلَ بِيَدِ اللهِ وحدِه، وعليه ألاَّ يُعايِشَ في يومِه هُمُومَ غَدٍ
فقد لا تَجِيءُ أبدًا. وهناك أذكارٌ وأدعيةٌ عَلَّمَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصحابةَ الكرام؛ لِيُرَدِّدوها حالَ نُزولِ الهُمومِ والكُروب، وهي كثيرةٌ ومتنوِّعة.
2- مُلازَمَةُ القرآنِ الكريم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلاَ حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ...» إلى قوله:
«أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلاَءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي؛ إِلاَّ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا» صحيح - رواه أحمد.
سألَهُ أنْ يجعلَ القرآنَ شفاءَ هَمِّه وغَمِّه؛ لِيَكونَ بمنزلةِ الدَّواءِ الذي يَسْتأصِلُ الدَّاءَ، ويُعِيدُ البَدَنَ إلى صِحَّتِه واعْتِدالِه. وأنْ يجعلَ القرآنَ لِحُزْنِهِ
كالجِلاَءِ الذي يَجْلُو الطَّبُوعَ والصَّدَأَ. فينبغي للمسلم أنْ يُلازِمَ القرآنَ العظيمَ؛ قِراءَةً واسْتِماعًا، وتَدَبُّرًا وعَمَلاً.
3- الإكثارُ من ذِكْرِ الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ المَلاَئِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ
وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» رواه مسلم. والمراد بالسَّكِينةِ هُنا: الطُّمأنينة، وهي مَطْرَدَةٌ لِلهَمِّ
فلْيَحرِصِ المسلمُ على كلِّ أمرٍ جالبٍ للطُّمأنينة، ومن أفضَلِها ذِكْرُ اللهِ تعالى.
4- أنْ يُدْرِكَ المسلمُ حقيقةَ الدُّنيا: فهي مَطْبوعَةٌ على الهُموم؛ لأنَّها دارَ مَمَرٍّ لا مَقَر، فلا يتوَقَّف كثيرًا إذا ما طرأَتْ عليه هذه الهُمومُ
بل عليه أنْ يَسْتَثْمِرَها في سَيْرِه إلى الدَّارِ الآخِرة؛ مِصْداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ
وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ؛ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ؛ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» رواه مسلم.
فإنْ صَبَرَ عليها؛ فَلْيُبْشِرْ بِمَوعودِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَحَقُّقِ وصْفِ الخَيرِيَّةِ فيه: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا؛ يُصِبْ مِنْهُ» رواه البخاري.
والمسلمُ يرجو نَيْلَ الأُجور من وراءِ هذه الهُموم، وهي مُكَفِّراتٌ للذنوب: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ [النَّصَبُ: التَّعَبُ]، وَلاَ وَصَبٍ
[الوَصَبُ: دَوامُ الوَجَعِ، ولُزومُه]، وَلاَ هَمٍّ، وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى، وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا؛ إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» رواه البخاري.
_ يُتبع ..