Şøķåŕą
02-02-2023, 03:51 PM
اعتاد ( سركيس ) البحث عن حقائق ... حقائق غائبة ، وأخرى مغيَّبة ، وأخرى يُمنعُ الدخول في مداراتها ، ولا زال يشعرُ بأنَّ فؤاده ظامئ إلى أشواق ترف في عوالم أخرى ، وسعادته لم تكن حاضرة رغم وفرة أسبابها لديه . يجلس يوميا في حديقة منزله الجميلة ... يدعو الربَّ ، يستخيره على طريقة أبناء ملته الخاصة ، إذ لم ترق له كثيرا تلك المساحات الفارهة من السعادة التي يتمتع بأقل منها الكثيرُ من الناس ، وربما يُرى وهو يتثاقل في تصرفاته وكأنه ابن الثمانين عاما وهو ماتجاوز الأربعين ، ولم يزل في ريعان شبابه المتوقد حيوية، وكأنه تمثل قول الشاعر يرحمه الله :
ويظل للمجهول في قلبي حنيـنٌ مبهمُ
يقتاتُ منــه غذاءَه قلبٌ حزينٌ ملهــمُ
مَنْ يراه وهومستغرقٌ في نظراته نحو أُفُقٍ بعيد يجزم أن الرجل يحمل بين أحنائه همًّا ثقيلا . أو أنه يصارع مرضا عضالا ، أو أنه فقد شيئا نفيسا لايمكن تعويضه ، أو أنه يقود معركة تبدو له خاسرة بكل المقاييس . أبواه ، زوجته ، أطفاله الثلاثة ... لاتخفى عليهم حاله ، ولكنَّهم لايعلمون ماذا يدور في خلده !! وكم من مرة حاولت زوجته ــ وقد دخلت إلى أعماق أعماق فؤاده ــ أن تعرف بعض مافيه من أسرار ، واستأذنته مرات ومرات للدخول أكثر فأكثر ، ورغم أنها وجدت وفاءَه وحبَّه لها ، لكنها لم تستطع استنطاقَ الصفحة المغلقة المبهمة من حياته ذات الخصوصية . واضطرت أن تقبل بالأمر الواقع كأبويه اللذين حاولا من قبل ولكن دون جدوى . حتى أن أمه كانت تظن أن السبب في شروده هذا يعود إلى سوء معاملة زوجته ، ولكنها أيقنت فيما بعد أن الزوجة لم تقصر في خلق أسباب السعادة له من كل جوانبها . أصدقاؤُه يشعرون بما يشعر بما يشعر به أهله ، ولكنهم أيضا لم يصلوا إلى مفتاح الصفحة المغلقة من حياته ، وقد دعوه أن يذهب معهم إلى الكنيسة بشكل خاص ليقابل رجال دينهم فيها ، وكان يستجيب لهم ، وربما يقضي الساعات الطوال بين يدي راهب أو قسيس ... ويخرج بغير زاد يغذي سغب نفسه ، ومع كل ذلك ماكانت ابتسامته لأصدقائه وندمائه تفارق ثغره ، وهذه الابتسامة وروح المودة التي تملأ جوانحه كانتا تؤكدان حسن صداقته لهم ، وكانت تزيد أيضا في عمق يأسهم من الوصول إلى ساحة وجدانه ، ليقرأ بعضُهم ــ على الأقل ــ تلك الصفحة التي تتوارى خلف ضباب من الحسرات والآهات .
واتجه ضحى يوم الأحد إلى الكنيسة الواقعة في شارع ممتد ، ليؤدي بعض الطقوس المعتادة ، كان الشارع مزدحما بالمارة ، وبالمتسوقين من المحلات التجارية ، كانت خطواته تندفع إلى الأمام بين الناس ، وشعر بجلبة وحركات غير اعتيادية حوله ، ونظر هنا وهناك ليرى رجالا أكلت الغلظةُ وسوءُ الخُلُقِ وجوهَهم الكالحة ، يمسكون ببعض الشباب ، وآخرين منهم يتلفتون يمنة ويسرة يبحثون عن آخرين ، وإذا باثنين منهم يمسكان به ، ويدفعانه بعنف ، حاول أن يفهم المشكلة منهما ، وكان الجواب المزيدَ من الركل والصفع على الوجه ، والمزيد من الكلمات التي جلبوها من مستنقعات قذارتهم ونتانة المدارس التي خرَّجتهم ليحملوا إلى الناس السياط المشحونة بالحقد والكراهية والتعذيب . وحاول أن يكلمهم ، وإذا به يُلقى داخل سيارة حملته ومن معه إلى عالم آخر . واقتحمت السيارة بوابة ذلك البناء العابس المكفهر ، لتقف حول رصيف عريض احتشد عليه طابور من غليظي الشوارب ، ومن أصحاب السِّحن الممسوخة ــ والعياذ بالله ــ المدججين بأنواع الأسلحة من هروات وسلاسل حديدية ، ومن كلمات لايتلفظ بها إلا خسيس أو حقير منبوذ ، وتعالت أصوات الجلادين : انزلوا ياكلاب ، يا أولاد الكلاب ، انزلوا ياشـ... يا مـ... ، وتنهال على ظهورهم سياط البطش الفرعوني ذي الأوتاد ، ويسوقهم الرفس والركل والحُمقُ إلى ممر طويل يضم عشرات الزنزانات التي لايتجاوز ارتفاعها المترين ، ولا يزيد طول قاعدتها عن متر ونصف المتر . وأودع ( سركيس ) في إحدى تلك الزنزانات ، كغيره ممَّن جاؤوا معه اليوم ، وغيرهم ممَّن سبقوهم إلى دياجير الحضارة الحديثة ، ودهاليز التقدمية والديمقراطية ، الملأى بطوق العروسة ، ومسحب الظهر ، وحبال تعليق القدمين إلى الأعلى ، وبسلالم درجاتها مرصوفة بالمسامير الناتئة يمشي عليها مَن أُدخلوا السجون عنوةَ وهم حفاة عراة ، إضافة إلى العديد من الوجبات السريعة المستوردة من تراث محاكم التفتيش ، ذاقها ( سركيس ) ومن معه ، وربما كانت حفلة نهش الكلاب لأجسادهم أقل تلك الوجبات كلفة !!
وتمر الأيام ... يوم كأسبوع ويوم كشهر ويوم كسنة ويوم كأنه الدهر ، ويغرق ( سركيس ) في دوامة التساؤلات ، لمَ جاؤوا بنا ، ومَن هؤلاء الذين أشرقت وجوههم بالأنوار وهم في ظلمات التعذيب والتنكيل ، وقد وقعتُ بينهم كما يقع الطير الجريح ؟؟ ماذا فعلوا ؟ وإلى متى سنبقى في دنيانا الجديدة هذه !! ومَن يخبر أهلنا وأطفالنا عن مكاننا وحالنا !! يارب ... يارب . وينظر ( سركيس ) إلى جدران زنزانته يستنطقها عن مصير مَن عاش هنا قبله ، ولكنها لاتجيب ، فقد اكفهرت جنباتها ، وخلت زواياها اللهم إلا من أصداء تتردد من بعيد ، تحمل أنباء أوجاع وأنَّات قوم أُعدمت حقوقُهم بيد القاضي قبل يد الجلاد . ويستجمع ( سركيس ) قواه المبعثرة ، وعلام الخوف ؟ وهل الموت أشدُّ من هذا الموت المتكرر ألف مرة في اليوم والليلة !! كم وكم سمع من هؤلاء الجنود الأبطال أبشع وأقذع أنواع الشتم ، وهو الذي كان يظن أنهم سيحررون بيت لحم وكنيسة المهد في فلسطين من أيدي الصهاينة المجرمين ، ليس الموت بأشد من المشي على المسامير ، ولا من الطوق الحديدي الذي يلف به الرأس ثم يكون الضغط من خلاله على الجمجمة ، ولا هو ... ويستذكر أنواع فصول العذاب والإرهاب التي هي أهون من الموت . ألم تنس العينُ كيف تبكي ! ألم تتعود الأذن على أن لاتسمع !! ألم يتعود العقل على الصمت ... صمت جفَّت عليه الآمال ، وأظلمت دونه كلُّ ملاجئ النفس حين تضيق الدنيا الرحيبة على أهلها !! ويدفعُ رأسَه إلى نافذة الزنزانة ، ليرى وجه أحد المساجين ينظر من نافذة زنزانته ، فاستجمع قواه مرة أخرى ، وتعرف عليه ... إنه مَن التقى به داخل السيارة التي نقلتهم جميعا إلى هذا الجحيم . فرفع صوته وسأله : من هؤلاء المساجين ؟ ماذا فعلوا حتى ذاقوا هذه الأهوال ؟ تبسم السجين الآخر وقال : هؤلاء الذين تراهم هم الذين شهدوا شهادة الحق ، ولم يرضوا بالكفر والظلم ، ولم يمالئوا الطاغوت ، لاأبالغ إذا قلت : إنهم خير البرية بعد رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ثمَّ أصحابهم رضي الله عنهم وأرضاهم . تنفس ( سركيس ) الصعداء مرة أخرى ، وأضاف كلمات هذا السجين إلى كلمات أخرى سمعها من إخوانه أثناء تناول وجبات العذاب اليومية ، وأحسَّ بروح جديدة تسري في جسده الذابل لم يعهدها من قبل ... أدار وجهه إلى داخل زنزانته وهو يردد : أولئك هم خير البرية !! كلمات سمعها ( سركيس ) حين كان في الصف الخامس الابتدائي ، وكان يرددها مع زملائه التلاميذ ليحفظوها ، وليختبروا بها آخر العام ، أولئك هم خير البرية ... أولئك هم خير البرية ... تلك هي سورة البينة ، تذكرها ( سركيس ) حقا منذ أكثر من ثلاثين عاما ، أجل كان يرددها مع زملائه : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ... ) ويدخل في أعماق ماضيه الجميل ، أيام طفولته وفطرته ، ليتذكر : ( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ... ) ، وتشرق جنبات نفسه أكثر فأكثر بأنوار البينات : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ... ) .
واندفع مرة أخرى إلى نافذة الزنزانة ليكلم صاحبه السجين ، وليزداد معرفة بقصة هؤلاء الناس الذين لم ير مثل صبرهم على العذاب ، وجلدهم على تحمل الصعاب . مدَّ رأسه غير عابئ بما سيكون له لو شاهده عساكر الطغاة . .. وراح يسأل : ماجزاءُ المؤمنين بربهم ... أعني ماجزاءُ مَنْ هم خيرُ البرية ؟ نظر السجين الآخر إليه وعيناه مغرورقتان بالدموع ، و وجهه مشرق بنور التوحيد والثبات على الحق و راح يقرأ : ( جزاؤُهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . رضي الله عنهم ورضوا عنه . ذلك لِمَنْ خشي ربَّه ) 8/البينة . ويرفع ( سركيس ) صوته : كفى ... كفى : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمَّدا رسول الله ... أراد أخوه السجين الذي تلا عليه الآيات أن يفهم القصة ، ولكن صوت الشاويش ذي الشاربين الغليظين ، فتح باب زنزانة ( سركيس ) قائلا : اخرج ... لم يرتجف قلب ( سركيس ) كما كان يرتجف من قبل ، فلقد تمكَّن الإيمانُ من قلبه ، وقال للشاويش : إلى أين ؟ ردَّ عليه الطاغية : إلى جهنم ... ظن أنه يساق إلى حفلة تعذيب طارئة ، ولكن الشاويش وبقسوته المعهوده أخبره بأنه سيخرج من السجن . سمع ( سركيس ) نبأ خروجه من السجن ، فشعر بضيق وحيرة ماعهدهما من قبل ، كانت ترتيبات خروجه جاهزة ، إذ ليس لديه عهدة ليسلمها للطغاة الجناة ، فبعد ستة أشهر من المطالَبات ، ودفع الدولارات و ... علم الطاغية الكبير أن الرجل الذي اعتقلوه إنما هو نصراني ، وأُخذ ظلما وحمقا مع أولئك الغرباء الذين يعضون على دينهم بالنواجذ .
وخرج ( سركيس ) من بوابة السجن الرهيب ، ليرى الشمس في النهار والقمر في الليل ، وقد حُرم من رؤيتهما تلك الحقبة . وليرى حشدا من محبيه ، مع أمه وأبيه وزوجته وأطفاله ... وآخرين جاؤوا إلى هذه البوابة المقيتة لأمور مختلفة ، ولعلاقات معينة بقصص مَن غُيِّبُوا خلف قضبان هذا الملاذ الحضاري الشامخ . وقف ( سركيس ) واندفع أهلُه نحوه ... فقال بصوت عالٍ : أين اتجاه قبلة المسلمين ؟ وجم الحاضرون ، مابالُ هذا السجين يسأل عن قبلة المسلمين !! وإذا برجل عجوز يشير إلى القبلة ، ويقول : هاهنا قبلة المسلمين يابنيَّ . فخـرَّ ( سركيس ) ساجدا على الأرض ، وأطال السجود ، وظن أهلُه أن فتاهم فقد عقله من شدة التعذيب الذي يسمعون عنه ، فحاولوا أن يرفعوه من الأرض ، ولكنه وقف من غير مساعدتهم ليردد :( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمَّدا رسولُ الله ). وأشهد أن هؤلاء ( وأشار إلى داخل السجن ) هم خير البرية ... هم خير البرية . وأجهش بالبكاء ، فاختلطت أصوات الحاضرين ، مستفسرين ... وانطلقت سيارة أسرة ( سركيس ) به إلى حيث السعادة والطمأنينة التي كان يبحث عنها لأربعين عاما خلت من عُمر التحريَّات ؟؟
ويظل للمجهول في قلبي حنيـنٌ مبهمُ
يقتاتُ منــه غذاءَه قلبٌ حزينٌ ملهــمُ
مَنْ يراه وهومستغرقٌ في نظراته نحو أُفُقٍ بعيد يجزم أن الرجل يحمل بين أحنائه همًّا ثقيلا . أو أنه يصارع مرضا عضالا ، أو أنه فقد شيئا نفيسا لايمكن تعويضه ، أو أنه يقود معركة تبدو له خاسرة بكل المقاييس . أبواه ، زوجته ، أطفاله الثلاثة ... لاتخفى عليهم حاله ، ولكنَّهم لايعلمون ماذا يدور في خلده !! وكم من مرة حاولت زوجته ــ وقد دخلت إلى أعماق أعماق فؤاده ــ أن تعرف بعض مافيه من أسرار ، واستأذنته مرات ومرات للدخول أكثر فأكثر ، ورغم أنها وجدت وفاءَه وحبَّه لها ، لكنها لم تستطع استنطاقَ الصفحة المغلقة المبهمة من حياته ذات الخصوصية . واضطرت أن تقبل بالأمر الواقع كأبويه اللذين حاولا من قبل ولكن دون جدوى . حتى أن أمه كانت تظن أن السبب في شروده هذا يعود إلى سوء معاملة زوجته ، ولكنها أيقنت فيما بعد أن الزوجة لم تقصر في خلق أسباب السعادة له من كل جوانبها . أصدقاؤُه يشعرون بما يشعر بما يشعر به أهله ، ولكنهم أيضا لم يصلوا إلى مفتاح الصفحة المغلقة من حياته ، وقد دعوه أن يذهب معهم إلى الكنيسة بشكل خاص ليقابل رجال دينهم فيها ، وكان يستجيب لهم ، وربما يقضي الساعات الطوال بين يدي راهب أو قسيس ... ويخرج بغير زاد يغذي سغب نفسه ، ومع كل ذلك ماكانت ابتسامته لأصدقائه وندمائه تفارق ثغره ، وهذه الابتسامة وروح المودة التي تملأ جوانحه كانتا تؤكدان حسن صداقته لهم ، وكانت تزيد أيضا في عمق يأسهم من الوصول إلى ساحة وجدانه ، ليقرأ بعضُهم ــ على الأقل ــ تلك الصفحة التي تتوارى خلف ضباب من الحسرات والآهات .
واتجه ضحى يوم الأحد إلى الكنيسة الواقعة في شارع ممتد ، ليؤدي بعض الطقوس المعتادة ، كان الشارع مزدحما بالمارة ، وبالمتسوقين من المحلات التجارية ، كانت خطواته تندفع إلى الأمام بين الناس ، وشعر بجلبة وحركات غير اعتيادية حوله ، ونظر هنا وهناك ليرى رجالا أكلت الغلظةُ وسوءُ الخُلُقِ وجوهَهم الكالحة ، يمسكون ببعض الشباب ، وآخرين منهم يتلفتون يمنة ويسرة يبحثون عن آخرين ، وإذا باثنين منهم يمسكان به ، ويدفعانه بعنف ، حاول أن يفهم المشكلة منهما ، وكان الجواب المزيدَ من الركل والصفع على الوجه ، والمزيد من الكلمات التي جلبوها من مستنقعات قذارتهم ونتانة المدارس التي خرَّجتهم ليحملوا إلى الناس السياط المشحونة بالحقد والكراهية والتعذيب . وحاول أن يكلمهم ، وإذا به يُلقى داخل سيارة حملته ومن معه إلى عالم آخر . واقتحمت السيارة بوابة ذلك البناء العابس المكفهر ، لتقف حول رصيف عريض احتشد عليه طابور من غليظي الشوارب ، ومن أصحاب السِّحن الممسوخة ــ والعياذ بالله ــ المدججين بأنواع الأسلحة من هروات وسلاسل حديدية ، ومن كلمات لايتلفظ بها إلا خسيس أو حقير منبوذ ، وتعالت أصوات الجلادين : انزلوا ياكلاب ، يا أولاد الكلاب ، انزلوا ياشـ... يا مـ... ، وتنهال على ظهورهم سياط البطش الفرعوني ذي الأوتاد ، ويسوقهم الرفس والركل والحُمقُ إلى ممر طويل يضم عشرات الزنزانات التي لايتجاوز ارتفاعها المترين ، ولا يزيد طول قاعدتها عن متر ونصف المتر . وأودع ( سركيس ) في إحدى تلك الزنزانات ، كغيره ممَّن جاؤوا معه اليوم ، وغيرهم ممَّن سبقوهم إلى دياجير الحضارة الحديثة ، ودهاليز التقدمية والديمقراطية ، الملأى بطوق العروسة ، ومسحب الظهر ، وحبال تعليق القدمين إلى الأعلى ، وبسلالم درجاتها مرصوفة بالمسامير الناتئة يمشي عليها مَن أُدخلوا السجون عنوةَ وهم حفاة عراة ، إضافة إلى العديد من الوجبات السريعة المستوردة من تراث محاكم التفتيش ، ذاقها ( سركيس ) ومن معه ، وربما كانت حفلة نهش الكلاب لأجسادهم أقل تلك الوجبات كلفة !!
وتمر الأيام ... يوم كأسبوع ويوم كشهر ويوم كسنة ويوم كأنه الدهر ، ويغرق ( سركيس ) في دوامة التساؤلات ، لمَ جاؤوا بنا ، ومَن هؤلاء الذين أشرقت وجوههم بالأنوار وهم في ظلمات التعذيب والتنكيل ، وقد وقعتُ بينهم كما يقع الطير الجريح ؟؟ ماذا فعلوا ؟ وإلى متى سنبقى في دنيانا الجديدة هذه !! ومَن يخبر أهلنا وأطفالنا عن مكاننا وحالنا !! يارب ... يارب . وينظر ( سركيس ) إلى جدران زنزانته يستنطقها عن مصير مَن عاش هنا قبله ، ولكنها لاتجيب ، فقد اكفهرت جنباتها ، وخلت زواياها اللهم إلا من أصداء تتردد من بعيد ، تحمل أنباء أوجاع وأنَّات قوم أُعدمت حقوقُهم بيد القاضي قبل يد الجلاد . ويستجمع ( سركيس ) قواه المبعثرة ، وعلام الخوف ؟ وهل الموت أشدُّ من هذا الموت المتكرر ألف مرة في اليوم والليلة !! كم وكم سمع من هؤلاء الجنود الأبطال أبشع وأقذع أنواع الشتم ، وهو الذي كان يظن أنهم سيحررون بيت لحم وكنيسة المهد في فلسطين من أيدي الصهاينة المجرمين ، ليس الموت بأشد من المشي على المسامير ، ولا من الطوق الحديدي الذي يلف به الرأس ثم يكون الضغط من خلاله على الجمجمة ، ولا هو ... ويستذكر أنواع فصول العذاب والإرهاب التي هي أهون من الموت . ألم تنس العينُ كيف تبكي ! ألم تتعود الأذن على أن لاتسمع !! ألم يتعود العقل على الصمت ... صمت جفَّت عليه الآمال ، وأظلمت دونه كلُّ ملاجئ النفس حين تضيق الدنيا الرحيبة على أهلها !! ويدفعُ رأسَه إلى نافذة الزنزانة ، ليرى وجه أحد المساجين ينظر من نافذة زنزانته ، فاستجمع قواه مرة أخرى ، وتعرف عليه ... إنه مَن التقى به داخل السيارة التي نقلتهم جميعا إلى هذا الجحيم . فرفع صوته وسأله : من هؤلاء المساجين ؟ ماذا فعلوا حتى ذاقوا هذه الأهوال ؟ تبسم السجين الآخر وقال : هؤلاء الذين تراهم هم الذين شهدوا شهادة الحق ، ولم يرضوا بالكفر والظلم ، ولم يمالئوا الطاغوت ، لاأبالغ إذا قلت : إنهم خير البرية بعد رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ثمَّ أصحابهم رضي الله عنهم وأرضاهم . تنفس ( سركيس ) الصعداء مرة أخرى ، وأضاف كلمات هذا السجين إلى كلمات أخرى سمعها من إخوانه أثناء تناول وجبات العذاب اليومية ، وأحسَّ بروح جديدة تسري في جسده الذابل لم يعهدها من قبل ... أدار وجهه إلى داخل زنزانته وهو يردد : أولئك هم خير البرية !! كلمات سمعها ( سركيس ) حين كان في الصف الخامس الابتدائي ، وكان يرددها مع زملائه التلاميذ ليحفظوها ، وليختبروا بها آخر العام ، أولئك هم خير البرية ... أولئك هم خير البرية ... تلك هي سورة البينة ، تذكرها ( سركيس ) حقا منذ أكثر من ثلاثين عاما ، أجل كان يرددها مع زملائه : ( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ... ) ويدخل في أعماق ماضيه الجميل ، أيام طفولته وفطرته ، ليتذكر : ( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ... ) ، وتشرق جنبات نفسه أكثر فأكثر بأنوار البينات : ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ... ) .
واندفع مرة أخرى إلى نافذة الزنزانة ليكلم صاحبه السجين ، وليزداد معرفة بقصة هؤلاء الناس الذين لم ير مثل صبرهم على العذاب ، وجلدهم على تحمل الصعاب . مدَّ رأسه غير عابئ بما سيكون له لو شاهده عساكر الطغاة . .. وراح يسأل : ماجزاءُ المؤمنين بربهم ... أعني ماجزاءُ مَنْ هم خيرُ البرية ؟ نظر السجين الآخر إليه وعيناه مغرورقتان بالدموع ، و وجهه مشرق بنور التوحيد والثبات على الحق و راح يقرأ : ( جزاؤُهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . رضي الله عنهم ورضوا عنه . ذلك لِمَنْ خشي ربَّه ) 8/البينة . ويرفع ( سركيس ) صوته : كفى ... كفى : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمَّدا رسول الله ... أراد أخوه السجين الذي تلا عليه الآيات أن يفهم القصة ، ولكن صوت الشاويش ذي الشاربين الغليظين ، فتح باب زنزانة ( سركيس ) قائلا : اخرج ... لم يرتجف قلب ( سركيس ) كما كان يرتجف من قبل ، فلقد تمكَّن الإيمانُ من قلبه ، وقال للشاويش : إلى أين ؟ ردَّ عليه الطاغية : إلى جهنم ... ظن أنه يساق إلى حفلة تعذيب طارئة ، ولكن الشاويش وبقسوته المعهوده أخبره بأنه سيخرج من السجن . سمع ( سركيس ) نبأ خروجه من السجن ، فشعر بضيق وحيرة ماعهدهما من قبل ، كانت ترتيبات خروجه جاهزة ، إذ ليس لديه عهدة ليسلمها للطغاة الجناة ، فبعد ستة أشهر من المطالَبات ، ودفع الدولارات و ... علم الطاغية الكبير أن الرجل الذي اعتقلوه إنما هو نصراني ، وأُخذ ظلما وحمقا مع أولئك الغرباء الذين يعضون على دينهم بالنواجذ .
وخرج ( سركيس ) من بوابة السجن الرهيب ، ليرى الشمس في النهار والقمر في الليل ، وقد حُرم من رؤيتهما تلك الحقبة . وليرى حشدا من محبيه ، مع أمه وأبيه وزوجته وأطفاله ... وآخرين جاؤوا إلى هذه البوابة المقيتة لأمور مختلفة ، ولعلاقات معينة بقصص مَن غُيِّبُوا خلف قضبان هذا الملاذ الحضاري الشامخ . وقف ( سركيس ) واندفع أهلُه نحوه ... فقال بصوت عالٍ : أين اتجاه قبلة المسلمين ؟ وجم الحاضرون ، مابالُ هذا السجين يسأل عن قبلة المسلمين !! وإذا برجل عجوز يشير إلى القبلة ، ويقول : هاهنا قبلة المسلمين يابنيَّ . فخـرَّ ( سركيس ) ساجدا على الأرض ، وأطال السجود ، وظن أهلُه أن فتاهم فقد عقله من شدة التعذيب الذي يسمعون عنه ، فحاولوا أن يرفعوه من الأرض ، ولكنه وقف من غير مساعدتهم ليردد :( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمَّدا رسولُ الله ). وأشهد أن هؤلاء ( وأشار إلى داخل السجن ) هم خير البرية ... هم خير البرية . وأجهش بالبكاء ، فاختلطت أصوات الحاضرين ، مستفسرين ... وانطلقت سيارة أسرة ( سركيس ) به إلى حيث السعادة والطمأنينة التي كان يبحث عنها لأربعين عاما خلت من عُمر التحريَّات ؟؟