Şøķåŕą
11-08-2022, 06:37 PM
مسائل فقهية متعلقة بالمرأة (6)
رفع الحجر عن البكر الرشيدة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فنتناول في هذه المقالة مبحثَ رفع الحَجْر عن البِكْر الرشيدة، لكن بعد تقدمة إيضاحية لا بد منها.
تمهيد وتوطئة:
المرأة كالرجل في كونها تتمتع بأهلية الوجوب وأهلية الأداء، وقد تتعرض أهليتها لعارضٍ من عوارض الأهلية التي تكون سببًا في الحجر على المرأة؛ مثل: السفه والجنون والعته، لكن هذه العوارض تتشارك فيها المرأة مع الرجل، وليست مختصة بالمرأة؛ فلا تعد "الأنوثة سببًا لعوارض تختص بالمرأة، وتقيد أهليتها للتصرف في مالها غير ما يقيد به أهلية الرجل... وللمرأة استقلالها المالي وأهليتها الكاملة للتصرف في أموالها، وليس لأقرباء المرأة - مثل أبيها أو زوجها - سلطة على مالها، إذا بلغت عاقلة رشيدة، ولم يطرأ عليها أحد أسباب الحَجْرِ"[1].
وقد جاء في نصوص الكتاب والسنة من الأدلة ما يشير إلى تمتع المرأة بما يتمتع به الرجل من حرية التعاقدات المالية؛ كالبيع والشراء والإجارة ونحوها، وحرية التبرعات؛ من وصية وهِبة ووقف ونحو ذلك، ما دامت لم تَعْتَوِرْها عوارض الأهلية المعروفة، ونكتفي في هذا التمهيد بالإلماح إلى تلك الأدلة، تاركين التفصيل والاستقصاء إلى موضعه في المباحث القادمة:
فمن أدلة الكتاب الكريم قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12].
ففي الآية تصريح بجواز وصية المرأة، وأن تنفيذ وصيَّتها مقدَّم على قسمة تركتها، وهذا دليل على أهليتها في إجراء التصرفات المالية[2].
جاء في التحرير والتنوير: "وأعقبت فريضة الأزواج بذكر ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12]؛ لئلا يتوهم متوهِّم أنهنَّ ممنوعات من الإيصاء ومن التداين، كما كان الحال في زمان الجاهلية"[3].
ومن ذلك قوله تعالى ذكره: ﴿ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ﴾ [الطلاق: 6].
قال ابن كثير: "أي: إذا وضعن حملهن وهن طوالق، فقد بِنَّ بانقضاء عدتهن، ولها حينئذٍ أن ترضع الولد، ولها أن تمتنع منه... فإن أرضعت استحقت أجرَ مثلها، ولها أن تُعاقِدَ أباه أو وليَّه على ما يتفقان عليه من أجرة"[4].
فدلَّت الآية على أن المرأة تصلح أن تكون طرفًا في عقد إجارة الرضاع، وسائر عقود الإجارة المباحة تُقاس عليه، سواء كانت هي من تقدِّم المنفعة أو من تُقدَّم لها المنفعة[5].
ومما جاء في السنة النبوية ما رواه كريب مولى ابن عباس: ((أن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أخبرته أنها أعتقت وليدةً، ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرتَ يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: أو فعلتِ؟ قالت: نعم، قال: أمَا إنك لو أعطيتِها أخوالكِ كان أعظمَ لأجركِ))[6].
وبوَّب الإمام البخاري لذلك بعنوان: "هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج فهو جائز إذا لم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لم يجُزْ"[7].
قال ابن حجر ذاكرًا وجه مطابقة الحديث لترجمة البخاري أن ميمونة رضي الله عنها "كانت رشيدة، وأنها أعتقت قبل أن تستأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يستدرك ذلك عليها، بل أرشدها إلى ما هو الأولَى، فلو كان لا ينفذ لها تصرف في مالها، لأبطله"[8].
وفي السنة أيضًا قصة مكاتبة بريرة رضي الله عنها، ورغبة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في شرائها من أهلها، وفيها ما يدل على أن المرأة لها أهلية للبيع والشراء ونحو ذلك من التصرفات، وقد ذكر البرماوي في شرحه على صحيح البخاري أن من فوائد حديث بريرة: "جواز تصرف المرأة الرشيدة في مالها بالشراء، أو الإعتاق، وغيرها"[9].
فللمرأة أن تمارسَ التعاقدات المختلفة من بيوع وإجارة ونحو ذلك؛ ذلك أنه إذا ثبت "أن التملك حق للمرأة كما هو حق للرجل دون تفريق، فذلك يستلزم أن مصادر الملكية بالنسبة لهما واحدة، ومن المعلوم أن مصادر الملكية إحراز المباحات والعقود المالية، والتولد من المملوك والخليفة – أي: الميراث - والهبات وما في حكمها من الصدقات، فهذه المصادر هي مصادر التملك لكل من الرجل والمرأة على السواء"[10].
ولا يعكر على ذلك عدم تنصيص الفقهاء في كل عقد أن المرأة كالرجل في حرية إجرائه؛ ذلك أن الفقهاء "لم يَرَوا حاجةً للنص في كل عقد أو تصرف ماليٍّ على أن المرأة كالرجل في أهلية إجراء هذا العقد أو التصرف؛ اكتفاء منهم بأن المرأة تتمتع بأهلية الوجوب والأداء كالرجل تمامًا، فتكون لها أهلية إجراء التصرفات المالية كالرجل"[11].
ولكنْ هناك مسألتان تتعلقان بحرية التصرف المالي للمرأة وقع التنازع فيهما بين الفقهاء؛ وهما:
• رفع الحجر المالي عن البكر الرشيدة.
• تبرع المرأة المتزوجة بمالها بغير إذن زوجها.
وهذا ما سنتناوله في هذه المقالة والتي تليها بإذن الله.
رفع الحجر عن البكر الرشيدة
لا خلاف بين الفقهاء في كون الصغر سببًا من أسباب الحَجْرِ على الإنسان في التصرفات المالية، كما أنهم لا يختلفون كذلك في أن الصغير إذا كان ذكرًا وبلغ رشيدًا، فإن الحجر يرتفع عنه.
ووقع الخلاف بينهم فيما إذا كان الصغير المحجور عليه أنثى: في أي وقت يرتفع الحجر عنها؟ وهل هي كالذكر في ارتفاع الحجر عنها بالبلوغ، أو لها أحكام تخصها؟
وحاصل اختلافهم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الأنثى كالذكر يرتفع الحجر عنها إذا بلغت رشيدة؛ وهو قول الجمهور من الحنفية[12]، والشافعية[13]، والحنابلة[14].
القول الثاني: أن الأنثى لا يرتفع الحجر عنها حتى تبْلُغَ، ويدخل بها زوجها ويشهد العدول على صلاحها؛ وهو قول المالكية[15][16].
القول الثالث: أن الأنثى لا يرتفع الحجر عنها حتى تبلغ رشيدة مع ضميمة أخرى؛ وهي: أن تتزوج وتلد، أو تقيم في بيت زوجها سنة؛وهو قول أحمد في رواية عنه، وهو المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبه قال شريح، والشعبي،وإسحاق، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وعطاء، ومجاهد، وقتادة،والأوزاعي[17].
أدلة الأقوال:
استدل كل فريق لِما ذهب إليه بأدلة من المنقول والمعقول.
أدلة القول الأول:
أولًا: الكتاب:
1- قوله تعالى: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ [النساء: 6].
ففي الآية دليل على أن اليتيم - ذكرًا كان أو أنثى - متى ما بلغ النكاح، وأُونس منه الرشد، فيسلم إليه ماله، بلا تعليق لذلك على أمر آخر من تزويج أو غيره.
"فإذا أُونس منها الرشد دُفع إليها مالها، تزوجت أم لم تتزوج، كما يُدفع إلى الغلام نكح أو لم ينكح؛ لأن الله تبارك وتعالى سوَّى بينهما في دفع أموالهما إليهما بالبلوغ والرشد، ولم يذكر تزويجًا"[18].
وقال ابن قدامة: "وهو ظاهر في فك الحَجْرِ عنهم وإطلاقهم في التصرف"[19].
2- وقوله تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12].
ووجه الدلالة: "أنه لم يفرِّق بين البِكْرِ والثَّيِّب في الوصية، ولا بين ذاتِ زوج وغيرها"[20].
ثانيًا: السُّنَّة:
ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((حفِظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يُتْمَ بعد احتلام))[21].
ففي هذا الحديث جعل الاحتلام كالحد الفاصل بين جريان أحكام الحجر على اليتيم، وبين انفكاك الحجر عنه.
قال المناوي: "أشار إلى أن حكم اليتيم جارٍ عليه قبل بلوغه من الحجر في ماله، والنظر في مهماته، وكفالته، وإيوائه، فإذا احتلم وكانت حالة البلوغ استقلَّ، ولا يسمى باليتيم"[22][23].
وقال ابن رسلان: "أي: إذا بلغ اليتيم أو اليتيمة زمن البلوغ الذي يحتلم فيه غالب الناس، زال عنهما اسم اليتيم حقيقة، وجرى عليهما حكم البالغين، سواء احتلما أو لم يحتلما"[24].
ثالثًا: المعقول:
ويقوم ذلك على أمرين:
الأول: عدم الفرق المؤثر بين الجارية الرشيدة وبين الغلام الرشيد.
الثاني: عدم الفرق المؤثر بينها وبين المرأة المتزوجة.
أما عن عدم الفرق المؤثر بينها وبين الغلام الرشيد؛ فلأنها "يتيم بلغ وأُونس منه الرشد، فدُفع إليه ماله كالرجل"[25].
كما أن "من استحق تسليم ماله إليه، استحق جواز تصرفه فيه كالغلام"[26].
بل ربما كان الداعي لتمليكها مالَها قبل التزويج أولى من الداعي لتمليك الغلام ماله قبل التزويج؛ ذلك أن:
"الجارية قبل التزويج أشحُّ لما تحتاج إليه من مؤنة جهازها ونفقة نفسها، وبعد التزويج أسمح لسقوط الجهاد عنها ووجوب النفقة على زوجها، والغلام ضدها؛ لأنه قبل التزويج أسمح لقلة مؤونته، وبعد التزويج أشح لكثرة مؤونته، فلما جاز فك الحجر عن الغلام قبل التزويج في أسمح حاليه، فأولَى أن يفك حجر الجارية قبل التزويج في أشح حاليها"[27].
وأما عن عدم الفرق بينها وبين ذات الزوج؛ فلأن المرأة إذا بلغت رشيدة لا فرق في موجب أهليتها (البلوغ والرشد) عن المرأة ذات الزوج، وكما يجوز لذات الزوج التصرف في مالها، فكذلك يجوز لتلك البالغة الرشيدة التصرف في مالها[28].
ويُقال كذلك: إن "ما انفك به الحجر بعد التزويج انفك به حجر الجارية كالمزوَّجة".
أدلة القول الثاني:
بنى المالكية مذهبهم في هذه المسألة هذه على نظر عقليٍّ؛ وهو: أن الشارع لمَّا أمر برفع الحجر عن الصغير، جعل ذلك معلقًا على أمرين؛ وهما: البلوغ، وإيناس الرشد، وبالنسبة للأنثى، فإن "إيناس الرشد لا يتصور من المرأة إلا بعد اختبار الرجال"[29].
ويعللون ذلك بأن المقصود من إيناس الرشد هو معرفة المصالح والمضارِّ المتعلقة بالمال، وقبل التزويج "يكون الجهل والنقص في المعرفة حاصلَيْنِ"[30].
فهم يَرَون أن البكر لكونها محتجبة عن مخالطة الناس قبل الزواج، فلا فرصة عندها للعلم بأمور البيع والشراء وتصريف الأموال، لكنها إذا "تزوجت ودخل إليها الناس، وخرجت وبرز وجهها عرفت المضار من المنافع"[31].
وفي هذا يقول ابن يونس المالكي:
"إن من شأن الأبكار الاستتارَ، وقلة التصرف، والبيع والشراء؛ لأن ذلك يؤدي إلى ألَّا يرغب فيهن الأزواج، وإذا لم تخبُر الرجال والمعاملات لم تعرف إصلاح المال ووجوه الغبن، فكان الحجر عليها مستصحبًا حتى إذا دخل بها الزوج، وعرفت الرجال والمعاملات، وعرف ضبطها للمال زال الحجر عنها"[32].
وقد استدل المالكية أيضًا على مذهبهم بقياس الحجر عليها في التصرف المالي على الحجر عليها في النكاح؛ وذلك أن للأب سلطة تزويج ابنته البكر دون إذنها[33]، وهو نوع من الحجر، فلا حرج أن يعم ذلك الحجر التصرفات المالية للمرأة قبل الزواج[34][35].
ونُوقش هذا القياس بوجود الفارق، فإن اختبارها لمصالح النكاح لا يتأتى إلا بالمباشرة، وهي متعذرة، بخلاف مباشرة المعاملات المالية من بيع وشراء وغيره، فإن اختبارها بالمباشرة متيسر غير متعذر؛ فلا تُقاس تلك على هذه[36].
أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب هذا القول بما جاء عن شريح أنه قال: "عهِد إليَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألَّا أُجِيزَ لجارية عطيَّةً حتى تلد ولدًا، أو تحول في بيتها حولًا"[37].
وفي لفظ: "عهد إليَّ عمر ألَّا أجيز هبةً مملَّكة حتى تحول في بيتها حولًا، أو تلد بطنًا"[38].
قالوا: فهذا قول صحابي ولا يُعرف له مخالف فيكون إجماعًا[39].
ونُوقشت هذه الدعوى بأن هذا الأثر لم يُعلَم انتشاره في الصحابة، وعليه فلا ينبغي أن يُترك به الكتاب والقياس[40].
ويقال أيضًا: إن أثر عمرَ مختص بمنعها من العطية فلا يلزم منه المنع من تسليم مالها إليها ومنعها من سائر التصرفات؛ ولذا فإنه حتى الإمام مالك لم يعمل به"[41].
والذي يظهر أن هذا القول[42] فيه مخالفة للكتاب، فإن القرآن اشترط إيناس الرشد، وهذا القول لم يشترطه، وفيه مخالفة للقياس؛ فلكون إيناس الرشد ممكنًا قبل تلك المدة التي اشترطوها[43].
القول المختار:
المختار في هذه المسألة هو مذهب الجمهور، وأن البكر الرشيدة ينفك عنها الحجر بالبلوغ والرشد، ولا فرق بينها وبين الغلام؛ وذلك لقوة أدلة الجمهور وموافقتها للمنقول والمعقول، ولأن التفريق بين الجارية والغلام في انفكاك الحجر ليس له مستند صحيح من كتاب أو سنة أو قياس، وأن ما علقوا عليه انفكاك الحجر من الدخول بالمرأة أو بقائها عامًا في بيت زوجها، لا يصلح أن يكون ضابطًا صحيحًا يُعلَّق الحكم عليه، فإن المرأة قد تتعلم أمور البيع والشراء وتُحسِن ذلك قبل الزواج، لا سيما في هذه الأزمان المتأخرة التي صارت الأنثى تخرج للدراسة والتعلم من صغرها مثل الذكر، وأيضًا ففي أزماننا هذه صار تأخر سن الزواج ظاهرة اجتماعية، وفي منع المرأة من مالها حتى تتزوج - وقد لا تتزوج مطلقًا[44]- ظلم لها، ومنع لها من مالها، دون دليل شرعي صحيح.
رفع الحجر عن البكر الرشيدة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد:
فنتناول في هذه المقالة مبحثَ رفع الحَجْر عن البِكْر الرشيدة، لكن بعد تقدمة إيضاحية لا بد منها.
تمهيد وتوطئة:
المرأة كالرجل في كونها تتمتع بأهلية الوجوب وأهلية الأداء، وقد تتعرض أهليتها لعارضٍ من عوارض الأهلية التي تكون سببًا في الحجر على المرأة؛ مثل: السفه والجنون والعته، لكن هذه العوارض تتشارك فيها المرأة مع الرجل، وليست مختصة بالمرأة؛ فلا تعد "الأنوثة سببًا لعوارض تختص بالمرأة، وتقيد أهليتها للتصرف في مالها غير ما يقيد به أهلية الرجل... وللمرأة استقلالها المالي وأهليتها الكاملة للتصرف في أموالها، وليس لأقرباء المرأة - مثل أبيها أو زوجها - سلطة على مالها، إذا بلغت عاقلة رشيدة، ولم يطرأ عليها أحد أسباب الحَجْرِ"[1].
وقد جاء في نصوص الكتاب والسنة من الأدلة ما يشير إلى تمتع المرأة بما يتمتع به الرجل من حرية التعاقدات المالية؛ كالبيع والشراء والإجارة ونحوها، وحرية التبرعات؛ من وصية وهِبة ووقف ونحو ذلك، ما دامت لم تَعْتَوِرْها عوارض الأهلية المعروفة، ونكتفي في هذا التمهيد بالإلماح إلى تلك الأدلة، تاركين التفصيل والاستقصاء إلى موضعه في المباحث القادمة:
فمن أدلة الكتاب الكريم قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12].
ففي الآية تصريح بجواز وصية المرأة، وأن تنفيذ وصيَّتها مقدَّم على قسمة تركتها، وهذا دليل على أهليتها في إجراء التصرفات المالية[2].
جاء في التحرير والتنوير: "وأعقبت فريضة الأزواج بذكر ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12]؛ لئلا يتوهم متوهِّم أنهنَّ ممنوعات من الإيصاء ومن التداين، كما كان الحال في زمان الجاهلية"[3].
ومن ذلك قوله تعالى ذكره: ﴿ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ﴾ [الطلاق: 6].
قال ابن كثير: "أي: إذا وضعن حملهن وهن طوالق، فقد بِنَّ بانقضاء عدتهن، ولها حينئذٍ أن ترضع الولد، ولها أن تمتنع منه... فإن أرضعت استحقت أجرَ مثلها، ولها أن تُعاقِدَ أباه أو وليَّه على ما يتفقان عليه من أجرة"[4].
فدلَّت الآية على أن المرأة تصلح أن تكون طرفًا في عقد إجارة الرضاع، وسائر عقود الإجارة المباحة تُقاس عليه، سواء كانت هي من تقدِّم المنفعة أو من تُقدَّم لها المنفعة[5].
ومما جاء في السنة النبوية ما رواه كريب مولى ابن عباس: ((أن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها أخبرته أنها أعتقت وليدةً، ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه، قالت: أشعرتَ يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: أو فعلتِ؟ قالت: نعم، قال: أمَا إنك لو أعطيتِها أخوالكِ كان أعظمَ لأجركِ))[6].
وبوَّب الإمام البخاري لذلك بعنوان: "هبة المرأة لغير زوجها وعتقها إذا كان لها زوج فهو جائز إذا لم تكن سفيهة، فإذا كانت سفيهة لم يجُزْ"[7].
قال ابن حجر ذاكرًا وجه مطابقة الحديث لترجمة البخاري أن ميمونة رضي الله عنها "كانت رشيدة، وأنها أعتقت قبل أن تستأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يستدرك ذلك عليها، بل أرشدها إلى ما هو الأولَى، فلو كان لا ينفذ لها تصرف في مالها، لأبطله"[8].
وفي السنة أيضًا قصة مكاتبة بريرة رضي الله عنها، ورغبة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في شرائها من أهلها، وفيها ما يدل على أن المرأة لها أهلية للبيع والشراء ونحو ذلك من التصرفات، وقد ذكر البرماوي في شرحه على صحيح البخاري أن من فوائد حديث بريرة: "جواز تصرف المرأة الرشيدة في مالها بالشراء، أو الإعتاق، وغيرها"[9].
فللمرأة أن تمارسَ التعاقدات المختلفة من بيوع وإجارة ونحو ذلك؛ ذلك أنه إذا ثبت "أن التملك حق للمرأة كما هو حق للرجل دون تفريق، فذلك يستلزم أن مصادر الملكية بالنسبة لهما واحدة، ومن المعلوم أن مصادر الملكية إحراز المباحات والعقود المالية، والتولد من المملوك والخليفة – أي: الميراث - والهبات وما في حكمها من الصدقات، فهذه المصادر هي مصادر التملك لكل من الرجل والمرأة على السواء"[10].
ولا يعكر على ذلك عدم تنصيص الفقهاء في كل عقد أن المرأة كالرجل في حرية إجرائه؛ ذلك أن الفقهاء "لم يَرَوا حاجةً للنص في كل عقد أو تصرف ماليٍّ على أن المرأة كالرجل في أهلية إجراء هذا العقد أو التصرف؛ اكتفاء منهم بأن المرأة تتمتع بأهلية الوجوب والأداء كالرجل تمامًا، فتكون لها أهلية إجراء التصرفات المالية كالرجل"[11].
ولكنْ هناك مسألتان تتعلقان بحرية التصرف المالي للمرأة وقع التنازع فيهما بين الفقهاء؛ وهما:
• رفع الحجر المالي عن البكر الرشيدة.
• تبرع المرأة المتزوجة بمالها بغير إذن زوجها.
وهذا ما سنتناوله في هذه المقالة والتي تليها بإذن الله.
رفع الحجر عن البكر الرشيدة
لا خلاف بين الفقهاء في كون الصغر سببًا من أسباب الحَجْرِ على الإنسان في التصرفات المالية، كما أنهم لا يختلفون كذلك في أن الصغير إذا كان ذكرًا وبلغ رشيدًا، فإن الحجر يرتفع عنه.
ووقع الخلاف بينهم فيما إذا كان الصغير المحجور عليه أنثى: في أي وقت يرتفع الحجر عنها؟ وهل هي كالذكر في ارتفاع الحجر عنها بالبلوغ، أو لها أحكام تخصها؟
وحاصل اختلافهم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن الأنثى كالذكر يرتفع الحجر عنها إذا بلغت رشيدة؛ وهو قول الجمهور من الحنفية[12]، والشافعية[13]، والحنابلة[14].
القول الثاني: أن الأنثى لا يرتفع الحجر عنها حتى تبْلُغَ، ويدخل بها زوجها ويشهد العدول على صلاحها؛ وهو قول المالكية[15][16].
القول الثالث: أن الأنثى لا يرتفع الحجر عنها حتى تبلغ رشيدة مع ضميمة أخرى؛ وهي: أن تتزوج وتلد، أو تقيم في بيت زوجها سنة؛وهو قول أحمد في رواية عنه، وهو المروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبه قال شريح، والشعبي،وإسحاق، والحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وعطاء، ومجاهد، وقتادة،والأوزاعي[17].
أدلة الأقوال:
استدل كل فريق لِما ذهب إليه بأدلة من المنقول والمعقول.
أدلة القول الأول:
أولًا: الكتاب:
1- قوله تعالى: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ [النساء: 6].
ففي الآية دليل على أن اليتيم - ذكرًا كان أو أنثى - متى ما بلغ النكاح، وأُونس منه الرشد، فيسلم إليه ماله، بلا تعليق لذلك على أمر آخر من تزويج أو غيره.
"فإذا أُونس منها الرشد دُفع إليها مالها، تزوجت أم لم تتزوج، كما يُدفع إلى الغلام نكح أو لم ينكح؛ لأن الله تبارك وتعالى سوَّى بينهما في دفع أموالهما إليهما بالبلوغ والرشد، ولم يذكر تزويجًا"[18].
وقال ابن قدامة: "وهو ظاهر في فك الحَجْرِ عنهم وإطلاقهم في التصرف"[19].
2- وقوله تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12].
ووجه الدلالة: "أنه لم يفرِّق بين البِكْرِ والثَّيِّب في الوصية، ولا بين ذاتِ زوج وغيرها"[20].
ثانيًا: السُّنَّة:
ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((حفِظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يُتْمَ بعد احتلام))[21].
ففي هذا الحديث جعل الاحتلام كالحد الفاصل بين جريان أحكام الحجر على اليتيم، وبين انفكاك الحجر عنه.
قال المناوي: "أشار إلى أن حكم اليتيم جارٍ عليه قبل بلوغه من الحجر في ماله، والنظر في مهماته، وكفالته، وإيوائه، فإذا احتلم وكانت حالة البلوغ استقلَّ، ولا يسمى باليتيم"[22][23].
وقال ابن رسلان: "أي: إذا بلغ اليتيم أو اليتيمة زمن البلوغ الذي يحتلم فيه غالب الناس، زال عنهما اسم اليتيم حقيقة، وجرى عليهما حكم البالغين، سواء احتلما أو لم يحتلما"[24].
ثالثًا: المعقول:
ويقوم ذلك على أمرين:
الأول: عدم الفرق المؤثر بين الجارية الرشيدة وبين الغلام الرشيد.
الثاني: عدم الفرق المؤثر بينها وبين المرأة المتزوجة.
أما عن عدم الفرق المؤثر بينها وبين الغلام الرشيد؛ فلأنها "يتيم بلغ وأُونس منه الرشد، فدُفع إليه ماله كالرجل"[25].
كما أن "من استحق تسليم ماله إليه، استحق جواز تصرفه فيه كالغلام"[26].
بل ربما كان الداعي لتمليكها مالَها قبل التزويج أولى من الداعي لتمليك الغلام ماله قبل التزويج؛ ذلك أن:
"الجارية قبل التزويج أشحُّ لما تحتاج إليه من مؤنة جهازها ونفقة نفسها، وبعد التزويج أسمح لسقوط الجهاد عنها ووجوب النفقة على زوجها، والغلام ضدها؛ لأنه قبل التزويج أسمح لقلة مؤونته، وبعد التزويج أشح لكثرة مؤونته، فلما جاز فك الحجر عن الغلام قبل التزويج في أسمح حاليه، فأولَى أن يفك حجر الجارية قبل التزويج في أشح حاليها"[27].
وأما عن عدم الفرق بينها وبين ذات الزوج؛ فلأن المرأة إذا بلغت رشيدة لا فرق في موجب أهليتها (البلوغ والرشد) عن المرأة ذات الزوج، وكما يجوز لذات الزوج التصرف في مالها، فكذلك يجوز لتلك البالغة الرشيدة التصرف في مالها[28].
ويُقال كذلك: إن "ما انفك به الحجر بعد التزويج انفك به حجر الجارية كالمزوَّجة".
أدلة القول الثاني:
بنى المالكية مذهبهم في هذه المسألة هذه على نظر عقليٍّ؛ وهو: أن الشارع لمَّا أمر برفع الحجر عن الصغير، جعل ذلك معلقًا على أمرين؛ وهما: البلوغ، وإيناس الرشد، وبالنسبة للأنثى، فإن "إيناس الرشد لا يتصور من المرأة إلا بعد اختبار الرجال"[29].
ويعللون ذلك بأن المقصود من إيناس الرشد هو معرفة المصالح والمضارِّ المتعلقة بالمال، وقبل التزويج "يكون الجهل والنقص في المعرفة حاصلَيْنِ"[30].
فهم يَرَون أن البكر لكونها محتجبة عن مخالطة الناس قبل الزواج، فلا فرصة عندها للعلم بأمور البيع والشراء وتصريف الأموال، لكنها إذا "تزوجت ودخل إليها الناس، وخرجت وبرز وجهها عرفت المضار من المنافع"[31].
وفي هذا يقول ابن يونس المالكي:
"إن من شأن الأبكار الاستتارَ، وقلة التصرف، والبيع والشراء؛ لأن ذلك يؤدي إلى ألَّا يرغب فيهن الأزواج، وإذا لم تخبُر الرجال والمعاملات لم تعرف إصلاح المال ووجوه الغبن، فكان الحجر عليها مستصحبًا حتى إذا دخل بها الزوج، وعرفت الرجال والمعاملات، وعرف ضبطها للمال زال الحجر عنها"[32].
وقد استدل المالكية أيضًا على مذهبهم بقياس الحجر عليها في التصرف المالي على الحجر عليها في النكاح؛ وذلك أن للأب سلطة تزويج ابنته البكر دون إذنها[33]، وهو نوع من الحجر، فلا حرج أن يعم ذلك الحجر التصرفات المالية للمرأة قبل الزواج[34][35].
ونُوقش هذا القياس بوجود الفارق، فإن اختبارها لمصالح النكاح لا يتأتى إلا بالمباشرة، وهي متعذرة، بخلاف مباشرة المعاملات المالية من بيع وشراء وغيره، فإن اختبارها بالمباشرة متيسر غير متعذر؛ فلا تُقاس تلك على هذه[36].
أدلة القول الثالث:
استدل أصحاب هذا القول بما جاء عن شريح أنه قال: "عهِد إليَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألَّا أُجِيزَ لجارية عطيَّةً حتى تلد ولدًا، أو تحول في بيتها حولًا"[37].
وفي لفظ: "عهد إليَّ عمر ألَّا أجيز هبةً مملَّكة حتى تحول في بيتها حولًا، أو تلد بطنًا"[38].
قالوا: فهذا قول صحابي ولا يُعرف له مخالف فيكون إجماعًا[39].
ونُوقشت هذه الدعوى بأن هذا الأثر لم يُعلَم انتشاره في الصحابة، وعليه فلا ينبغي أن يُترك به الكتاب والقياس[40].
ويقال أيضًا: إن أثر عمرَ مختص بمنعها من العطية فلا يلزم منه المنع من تسليم مالها إليها ومنعها من سائر التصرفات؛ ولذا فإنه حتى الإمام مالك لم يعمل به"[41].
والذي يظهر أن هذا القول[42] فيه مخالفة للكتاب، فإن القرآن اشترط إيناس الرشد، وهذا القول لم يشترطه، وفيه مخالفة للقياس؛ فلكون إيناس الرشد ممكنًا قبل تلك المدة التي اشترطوها[43].
القول المختار:
المختار في هذه المسألة هو مذهب الجمهور، وأن البكر الرشيدة ينفك عنها الحجر بالبلوغ والرشد، ولا فرق بينها وبين الغلام؛ وذلك لقوة أدلة الجمهور وموافقتها للمنقول والمعقول، ولأن التفريق بين الجارية والغلام في انفكاك الحجر ليس له مستند صحيح من كتاب أو سنة أو قياس، وأن ما علقوا عليه انفكاك الحجر من الدخول بالمرأة أو بقائها عامًا في بيت زوجها، لا يصلح أن يكون ضابطًا صحيحًا يُعلَّق الحكم عليه، فإن المرأة قد تتعلم أمور البيع والشراء وتُحسِن ذلك قبل الزواج، لا سيما في هذه الأزمان المتأخرة التي صارت الأنثى تخرج للدراسة والتعلم من صغرها مثل الذكر، وأيضًا ففي أزماننا هذه صار تأخر سن الزواج ظاهرة اجتماعية، وفي منع المرأة من مالها حتى تتزوج - وقد لا تتزوج مطلقًا[44]- ظلم لها، ومنع لها من مالها، دون دليل شرعي صحيح.