الحقوقي فيصل
08-04-2022, 12:50 AM
تَقدِيرُ النِّعَمِ أَوِ ازدِرَاؤُهَا، سَبَبٌ لِلقَنَاعَةِ وَالرِّضَا، أَو سَبِيلٌ إِلى الطَّمَعِ وَالجَشَعِ، وَمَرَدُّ ذَلِكَ في الغَالِبِ هُوَ نَظرُ الإِنسَانِ إِلى مَن حَولَهُ، فَإِنْ هُوَ مَدَّ عَينَيهِ إِلى مَا مُتِّعَ بِهِ أَقوَامٌ مِن زَهرَةِ الحَيَاةِ الدُّنيَا، وَتَشَوَّفَ إِلى مَا يَملِكُهُ الأَغنِيَاءُ وَالكُبَرَاءُ وَالمُترَفُونَ، أَدَّى بِهِ ذَلِكَ إِلى ازدِرَاءِ مَا عِندَهُ مِن نِعَمِ اللهِ الكَثِيرَةِ، فَجَعَلَ يَتَطَلَّعُ إِلى مَا لا يُطِيقُ، وَجَعَلَت نَفسُهُ تَتَلَهَّفُ عَلَى مَا لا يُحَصِّلُ، وَأَمَّا إِنْ رَزَقَهُ اللهُ التَّبَصُّرَ وَالتَّأَمُّلَ في الأَكثَرِينَ، وَعَلِمَ بِأَنَّهُم أَقَلُّ مِنهُ في الدُّنيَا حَظًّا وَأَضيَقُ رِزقًا، فَإِنَّ ذَلِكَ سَيُورِثُهُ تَقدِيرَ مَا أَنعَمَ اللهُ بِهِ عَلَيهِ، وَالكَفَّ عَمَّا لَيسَ في يَدَيهِ، وَالالتِفَاتَ إِلى مَا يُصلِحُ شَأنَهُ في أُخرَاهُ، لِعِلمِهِ أَنَّهُ لَن يَكُونَ إِلاَّ مَا قَدَّرَ اللهُ، وَلَن يَنَالَ أَحَدٌ غَيرَ مَا قُسِمَ لَهُ، وَفي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: "اُنظُرُوا إِلى مَن هُوَ أَسفَلَ مِنكُم، وَلَا تَنظُرُوا إِلى مَن هُوَ فَوقَكُم، فَإِنَّهُ أَجدَرُ أَلاَّ تَزدَرُوا نِعمَةَ اللهِ".
إِنَّهَا وَصِيَّةٌ نَافِعَةٌ جَامِعَةٌ، وَتَوجِيهٌ نَبَوِيٌّ عَظِيمٌ، لَوِ اتَّخَذَهُ المُسلِمُ مَنهَجًا لَهُ في هَذَا الجَانِبِ المُهِمِّ مِن حَيَاتِهِ، لَرُزِقَ شُكرَ نِعَمِ اللهِ عَلَيهِ بِالاعتِرَافِ بها، وَلَتَحَدَّثَ بها وَلَو بَينَهُ وَبَينَ نَفسِهِ، وَلَرُزِقَ الاستِعَانَةَ بها عَلَى طَاعَةِ الخَالِقِ المُنعِمِ - سُبحَانَهُ - وَلَسَلِمَ مِن كَثِيرٍ مِمَّا يَتَحَمَّلُهُ غَيرُهُ مِن دُيُونٍ، أَو مَا يَتَعَدَّونَ عَلَيهِ مِن حُقُوقٍ، أَو مَا يَتَّصِفُونَ بِهِ مِن سَيِّئِ خُلُقٍ وَلَئِيمِ طَبعٍ، وَهِي السَّيِّئَاتُ الَّتي يَدفَعُ الكَثِيرِينَ إِلَيهَا أَو إِلى بَعضِهَا، نَظَرُهُم بِتَلَهُّفٍ إِلى مَن هُوَ فَوقَهُم، وَتَغَافُلُهُم عَمَّن هُوَ أَسفَلَ مِنهُم.
إِنَّ القُلُوبَ لَتَمرَضُ وَإِنَّ النُّفُوسَ لَتَسقَمُ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيُبتَلَى بِالهَمِّ وَالغَمِّ، مِن دَوَامِ النَّظَرِ إِلى مَن هُوَ أَكثَرُ مِنهُ في الدُّنيَا حَظًّا، وَنِسيَانِ مَن هُوَ أَقَلُّ مِنهُ عَطَاءً وَنَصِيبًا، وَلِهَذَا فَإِنَّ أَعظَمَ دَوَاءٍ لِتِلكَ القُلُوبِ الضَّعِيفَةِ وَالنُّفُوسِ الخَوَّارَةِ، أَن يَلحَظَ أَصحَابُهَا في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ أَنَّهُم لَيسُوا الأَقَلَّ مِن غَيرِهِم نَصِيبًا وَلا الأَسوَأَ حَظًّا، بَل ثَمَّةَ مَن هُوَ دُونَهُم في عَقلِهِ أَو مَالِهِ، وَهُنَاكَ مَن هُوَ أَوضَعُ نَسَبًا وَأَقَلُّ شَرَفًا، وَمَن هُوَ أَدنى جَاهًا أَو عِلمًا، وَالدُّنيَا مَلِيئَةٌ بِالمُبتَلَينَ بِأَصنَافِ البَلاءِ في أَجسَادِهِم أَو دِينِهِم أَو خَلقِهِم أَو خُلُقِهِم، في حِينِ أَنَّ آخَرِينَ يُوَازِنُونَ أَنفُسَهُم بِالأَغنِيَاءِ وَأَهلِ الجَاهِ، فَيَزدَادُونَ غَمًّا وَهَمًّا، وَلَو وَازَنُوهَا بِالفُقَرَاءِ وَالمَحرُومِينَ، لَمَا وَسِعَتهُمُ الدُّنيَا مِنَ الفَرَحِ، وَلَطَفَحَ بِهِمُ السُّرُورُ، وَلأَكثَرُوا مِن شُكرِ رَبِّهِم وَالثَّنَاءِ عَلَيهِ وَحَمدِهِ، فَعُوفُوا وَسَلِمُوا مِنَ البَلاءِ.
قَد يَظُنُّ بَعضُ النَّاسِ أَنَّ في هَذَا الحَدِيثِ تَحطِيمًا لِلطُّمُوحِ وَتَقيِيدًا لِلتَّفكِيرِ، وَقَتلاً لِرُوحِ التَّنَافُسِ الشَّرِيفِ، وَمَنعًا لِلنَّاسِ مِنَ التَّقَدُّمِ وَالازدِيَادِ مِنَ الخَيرِ، وَلَيسَ الأَمرُ كَذَلِكَ، وَمَا كَانَ الإِسلامُ لِيَأمُرَ أَتبَاعَهُ بِهَذَا وَلا يُقِرُّهُم عَلَيهِ، إِذْ مَا هُوَ بِدِينِ رَهبَنَةٍ وَلا تَبَتُّلٍ تَامٍّ، وَلا انقِطَاعٍ عَمَّا يَقُوتُ الإِنسَانَ وَيُقِيمُ أَوَدَهُ، وَلا انصِرَافٍ عَمَّا يَضمَنُ لَهُ الحَيَاةَ الكَرِيمَةَ وَالعِيشَةَ النَّقِيَّةَ، وَلَكِنَّ المَقصُوَدَ أَن يَتَّصِفَ المُسلِمُ بِالقَنَاعَةِ وَالرِّضَا؛ لِيَهنَأَ بِحَيَاتِهِ وَيَصفُوَ لَهُ عَيشُهُ، وَلا يَكُونَ كَحَالِ مَن شَغَلُوا أَنفُسَهُم بِمُطَارَدَةِ الآخَرِينَ وَالنَّظَرِ إِلى مَا أُوتُوا، ظَانِّينَ أَنَّهُم بِذَلِكَ يَدفَعُونَ أَنفُسَهُم لِلصُّعُودِ في مَرَاقي السَّعَادَةِ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ مَن كَانَ هَذَا شَأنَهُ، يَنظُرُ فِيمَا عِندَ فُلانٍ وَيَطمَعُ أَن يَكُونَ مِثلَ فُلانٍ، وَيَتَطَلَّعُ إِلى مِثلِ مَالِ هَذَا ولا يَقنَعُ بِغَيرِ جَاهِ ذَاكَ، فَلَن يُحَصِّلَ السَّعَادَةَ أَبَدًا؛ لأَنَّ مَعنى ذَلِكَ أَنَّهُ لَن يَسعَدَ إِلاَّ إِذَا أَصبَحَ أَعلَى النَّاسِ في كُلِّ شَيءٍ، وَهَذَا مِن أَبعَدِ المُحَالِ؛ وَقَدِ اقتَضَت الحِكمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ في هَذَا الكَونِ، أَنَّ مَن كَمُلَت لَهُ أَشيَاءُ قَصُرَت عَنهُ أَشيَاءُ، وَمَن عَلا بِأُمُورٍ سَفُلَت بِهِ أُمُورٌ، وَيَأبى اللهُ - تَعَالى - الكَمَالَ المُطلَقَ لأَحَدٍ مِن خَلقِهِ كَائِنًا مَن كَانَ؛ وَمِن ثَمَّ كَانَتِ القَنَاعَةُ وَالرِّضَا مِن أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعظَمِ المِنَحِ الَّتي يُغبَطُ عَلَيهَا صَاحِبُهَا، بَل هِيَ الفَلاحُ وَالنَّجَاةُ، قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: "قَد أَفلَحَ مَن أَسلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بما آتَاهُ" رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ.
وَإِذَا كَانَ بَعضُ السَّلَفِ قَد جَعَلَ أَعلَى مَنَازِلِ القَنَاعَةِ أَن يَقتَنِعَ المُسلِمُ بِالبُلغَةِ مِن دُنيَاهُ، وَيَصرِفَ نَفسَهُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِمَا سِوَاهُ، ثم جَعَلَ أَوسَطَ حَالِ المُقتَنِعِ أَن تَنتَهِيَ بِهِ القَنَاعَةُ إِلى الكِفَايَةِ، وَيَحذِفَ الفُضُولَ وَالزِّيَادَةَ، ثم جَعَلَ أَدنى مَنَازِلِهَا أَن تَنتَهِيَ بِهِ القَنَاعَةُ إِلى الوُقُوفِ عَلَى مَا سَنَحَ، فَلا يَكرَهُ مَا أَتَاهُ وَإِن كَانَ كَثِيرًا، وَلا يَطلُبُ مَا تَعَذَّرَ وَإِن كَانَ يَسِيرًا. فَإِنَّنَا نَقُولُ لِلنَّاسِ: إن لم تَتَّصِفُوا بِأَعلَى القَنَاعَةِ وَهُوَ الزُّهدُ في الدُّنيَا وَالتَّقَلُّلُ مِنهَا، فَكُونُوا مِن أَهلِ الكِفَايَةِ تَرتَاحُوا وَتَسلَمُوا، وَإِلاَّ فَمَا لَكُم عَنِ المَرتَبَةِ الثَّالِثَةِ، الَّتي تُنَمُّونَ فِيهَا أَموَالَكُم وَتِجَارَاتِكُم، وَتَضرِبُون في الأَرضِ طَلَبًا لِرِزقِ رَبِّكُم، وَتَمشُونَ في مَنَاكِبِهَا سَعيًا فِيمَا يُصلِحُ شَأنَكُم، وَلَكِنْ بِلا تَجَاوُزٍ لِحُدُودِ اللهِ، وَلا تَخَوُّضٍ في مَالِ اللهِ، وَلا تَحَاسُدٍ وَلا تَنَافُسٍ وَلا تَكَاثُرٍ، وَلا تَسَخُّطٍ مِن مَرتَبَةٍ وَلا تَبَرُّمٍ مِن مِهنَةٍ، وَلا اتِّصَافٍ بِالنِّفَاقِ وَإِذلالٍ لِلنُّفُوسِ لِغَيرِ اللهِ مِن أَجلِ مَنصِبٍ أَو جَاهٍ، وَلا تَنَازُلٍ عَنِ المَبَادِئِ أَو تَميِيعٍ لِلثَّوَابِتِ رَغبَةً في المَالِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا لا يُقَرُّ، قَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى مَا مَتَّعنَا بِهِ أَزوَاجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفتِنَهُم فِيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقَى. وَأْمُرْ أَهلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصطَبِرْ عَلَيهَا لَا نَسأَلُكَ رِزقًا نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى ﴾.
مَا كَانَتِ القَنَاعَةُ لِتَمنَعَ مِن مُلكِ مَالٍ وَلو كَانَ وَفِيرًا، وَلا مِن تَحصِيلِ جَاهٍ وَلَو كَانَ عَرِيضًا، وَلَكِنَّهَا تَأبى أَن يَلِجَ حُبُّ الدُّنيَا قَلبَ المُسلِمِ فَيَملِكَ عَلَيهِ عَقلَهُ وَيَستَحوِذَ عَلَى تَفكِيرِهِ، حَتى يَدفَعَهُ إِلى مَنعِ مَا عَلَيهِ مِن حُقُوقٍ أَو تَعَدِّي مَا يَردَعُهُ مِن حُدُودٍ، أَوِ إِلى أَن يَتَكَاسَلَ عَن طَاعَةٍ أَو يُفَرِّطَ في فَرِيضَةٍ، أَو يَرتَكِبَ مُحَرَّمًا أَو يَستَسهِلَ مَكرُوهًا، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَالزَمُوا القَنَاعَةَ، وَاتَّخِذُوهَا سِلاحًا وَاجعَلُوهَا لِلسَّعَادَةِ مِفتَاحًا، واملَؤُوا بها قُلُوبَكُم تَرتَاحُوا، وَيَحصُلْ لَكُمُ الأَمنُ وَالطُّمَأنِينَةُ في الدُّنيَا، وَالفَوزَ وَالفَلاحَ في الأُخرَى، ﴿ يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ * مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجزَى إِلَّا مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ ﴾ [غافر: 40].
إِنَّهَا وَصِيَّةٌ نَافِعَةٌ جَامِعَةٌ، وَتَوجِيهٌ نَبَوِيٌّ عَظِيمٌ، لَوِ اتَّخَذَهُ المُسلِمُ مَنهَجًا لَهُ في هَذَا الجَانِبِ المُهِمِّ مِن حَيَاتِهِ، لَرُزِقَ شُكرَ نِعَمِ اللهِ عَلَيهِ بِالاعتِرَافِ بها، وَلَتَحَدَّثَ بها وَلَو بَينَهُ وَبَينَ نَفسِهِ، وَلَرُزِقَ الاستِعَانَةَ بها عَلَى طَاعَةِ الخَالِقِ المُنعِمِ - سُبحَانَهُ - وَلَسَلِمَ مِن كَثِيرٍ مِمَّا يَتَحَمَّلُهُ غَيرُهُ مِن دُيُونٍ، أَو مَا يَتَعَدَّونَ عَلَيهِ مِن حُقُوقٍ، أَو مَا يَتَّصِفُونَ بِهِ مِن سَيِّئِ خُلُقٍ وَلَئِيمِ طَبعٍ، وَهِي السَّيِّئَاتُ الَّتي يَدفَعُ الكَثِيرِينَ إِلَيهَا أَو إِلى بَعضِهَا، نَظَرُهُم بِتَلَهُّفٍ إِلى مَن هُوَ فَوقَهُم، وَتَغَافُلُهُم عَمَّن هُوَ أَسفَلَ مِنهُم.
إِنَّ القُلُوبَ لَتَمرَضُ وَإِنَّ النُّفُوسَ لَتَسقَمُ، وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَيُبتَلَى بِالهَمِّ وَالغَمِّ، مِن دَوَامِ النَّظَرِ إِلى مَن هُوَ أَكثَرُ مِنهُ في الدُّنيَا حَظًّا، وَنِسيَانِ مَن هُوَ أَقَلُّ مِنهُ عَطَاءً وَنَصِيبًا، وَلِهَذَا فَإِنَّ أَعظَمَ دَوَاءٍ لِتِلكَ القُلُوبِ الضَّعِيفَةِ وَالنُّفُوسِ الخَوَّارَةِ، أَن يَلحَظَ أَصحَابُهَا في كُلِّ وَقتٍ وَحِينٍ أَنَّهُم لَيسُوا الأَقَلَّ مِن غَيرِهِم نَصِيبًا وَلا الأَسوَأَ حَظًّا، بَل ثَمَّةَ مَن هُوَ دُونَهُم في عَقلِهِ أَو مَالِهِ، وَهُنَاكَ مَن هُوَ أَوضَعُ نَسَبًا وَأَقَلُّ شَرَفًا، وَمَن هُوَ أَدنى جَاهًا أَو عِلمًا، وَالدُّنيَا مَلِيئَةٌ بِالمُبتَلَينَ بِأَصنَافِ البَلاءِ في أَجسَادِهِم أَو دِينِهِم أَو خَلقِهِم أَو خُلُقِهِم، في حِينِ أَنَّ آخَرِينَ يُوَازِنُونَ أَنفُسَهُم بِالأَغنِيَاءِ وَأَهلِ الجَاهِ، فَيَزدَادُونَ غَمًّا وَهَمًّا، وَلَو وَازَنُوهَا بِالفُقَرَاءِ وَالمَحرُومِينَ، لَمَا وَسِعَتهُمُ الدُّنيَا مِنَ الفَرَحِ، وَلَطَفَحَ بِهِمُ السُّرُورُ، وَلأَكثَرُوا مِن شُكرِ رَبِّهِم وَالثَّنَاءِ عَلَيهِ وَحَمدِهِ، فَعُوفُوا وَسَلِمُوا مِنَ البَلاءِ.
قَد يَظُنُّ بَعضُ النَّاسِ أَنَّ في هَذَا الحَدِيثِ تَحطِيمًا لِلطُّمُوحِ وَتَقيِيدًا لِلتَّفكِيرِ، وَقَتلاً لِرُوحِ التَّنَافُسِ الشَّرِيفِ، وَمَنعًا لِلنَّاسِ مِنَ التَّقَدُّمِ وَالازدِيَادِ مِنَ الخَيرِ، وَلَيسَ الأَمرُ كَذَلِكَ، وَمَا كَانَ الإِسلامُ لِيَأمُرَ أَتبَاعَهُ بِهَذَا وَلا يُقِرُّهُم عَلَيهِ، إِذْ مَا هُوَ بِدِينِ رَهبَنَةٍ وَلا تَبَتُّلٍ تَامٍّ، وَلا انقِطَاعٍ عَمَّا يَقُوتُ الإِنسَانَ وَيُقِيمُ أَوَدَهُ، وَلا انصِرَافٍ عَمَّا يَضمَنُ لَهُ الحَيَاةَ الكَرِيمَةَ وَالعِيشَةَ النَّقِيَّةَ، وَلَكِنَّ المَقصُوَدَ أَن يَتَّصِفَ المُسلِمُ بِالقَنَاعَةِ وَالرِّضَا؛ لِيَهنَأَ بِحَيَاتِهِ وَيَصفُوَ لَهُ عَيشُهُ، وَلا يَكُونَ كَحَالِ مَن شَغَلُوا أَنفُسَهُم بِمُطَارَدَةِ الآخَرِينَ وَالنَّظَرِ إِلى مَا أُوتُوا، ظَانِّينَ أَنَّهُم بِذَلِكَ يَدفَعُونَ أَنفُسَهُم لِلصُّعُودِ في مَرَاقي السَّعَادَةِ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ مَن كَانَ هَذَا شَأنَهُ، يَنظُرُ فِيمَا عِندَ فُلانٍ وَيَطمَعُ أَن يَكُونَ مِثلَ فُلانٍ، وَيَتَطَلَّعُ إِلى مِثلِ مَالِ هَذَا ولا يَقنَعُ بِغَيرِ جَاهِ ذَاكَ، فَلَن يُحَصِّلَ السَّعَادَةَ أَبَدًا؛ لأَنَّ مَعنى ذَلِكَ أَنَّهُ لَن يَسعَدَ إِلاَّ إِذَا أَصبَحَ أَعلَى النَّاسِ في كُلِّ شَيءٍ، وَهَذَا مِن أَبعَدِ المُحَالِ؛ وَقَدِ اقتَضَت الحِكمَةُ الرَّبَّانِيَّةُ في هَذَا الكَونِ، أَنَّ مَن كَمُلَت لَهُ أَشيَاءُ قَصُرَت عَنهُ أَشيَاءُ، وَمَن عَلا بِأُمُورٍ سَفُلَت بِهِ أُمُورٌ، وَيَأبى اللهُ - تَعَالى - الكَمَالَ المُطلَقَ لأَحَدٍ مِن خَلقِهِ كَائِنًا مَن كَانَ؛ وَمِن ثَمَّ كَانَتِ القَنَاعَةُ وَالرِّضَا مِن أَجَلِّ النِّعَمِ وَأَعظَمِ المِنَحِ الَّتي يُغبَطُ عَلَيهَا صَاحِبُهَا، بَل هِيَ الفَلاحُ وَالنَّجَاةُ، قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: "قَد أَفلَحَ مَن أَسلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بما آتَاهُ" رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ.
وَإِذَا كَانَ بَعضُ السَّلَفِ قَد جَعَلَ أَعلَى مَنَازِلِ القَنَاعَةِ أَن يَقتَنِعَ المُسلِمُ بِالبُلغَةِ مِن دُنيَاهُ، وَيَصرِفَ نَفسَهُ عَنِ التَّعَرُّضِ لِمَا سِوَاهُ، ثم جَعَلَ أَوسَطَ حَالِ المُقتَنِعِ أَن تَنتَهِيَ بِهِ القَنَاعَةُ إِلى الكِفَايَةِ، وَيَحذِفَ الفُضُولَ وَالزِّيَادَةَ، ثم جَعَلَ أَدنى مَنَازِلِهَا أَن تَنتَهِيَ بِهِ القَنَاعَةُ إِلى الوُقُوفِ عَلَى مَا سَنَحَ، فَلا يَكرَهُ مَا أَتَاهُ وَإِن كَانَ كَثِيرًا، وَلا يَطلُبُ مَا تَعَذَّرَ وَإِن كَانَ يَسِيرًا. فَإِنَّنَا نَقُولُ لِلنَّاسِ: إن لم تَتَّصِفُوا بِأَعلَى القَنَاعَةِ وَهُوَ الزُّهدُ في الدُّنيَا وَالتَّقَلُّلُ مِنهَا، فَكُونُوا مِن أَهلِ الكِفَايَةِ تَرتَاحُوا وَتَسلَمُوا، وَإِلاَّ فَمَا لَكُم عَنِ المَرتَبَةِ الثَّالِثَةِ، الَّتي تُنَمُّونَ فِيهَا أَموَالَكُم وَتِجَارَاتِكُم، وَتَضرِبُون في الأَرضِ طَلَبًا لِرِزقِ رَبِّكُم، وَتَمشُونَ في مَنَاكِبِهَا سَعيًا فِيمَا يُصلِحُ شَأنَكُم، وَلَكِنْ بِلا تَجَاوُزٍ لِحُدُودِ اللهِ، وَلا تَخَوُّضٍ في مَالِ اللهِ، وَلا تَحَاسُدٍ وَلا تَنَافُسٍ وَلا تَكَاثُرٍ، وَلا تَسَخُّطٍ مِن مَرتَبَةٍ وَلا تَبَرُّمٍ مِن مِهنَةٍ، وَلا اتِّصَافٍ بِالنِّفَاقِ وَإِذلالٍ لِلنُّفُوسِ لِغَيرِ اللهِ مِن أَجلِ مَنصِبٍ أَو جَاهٍ، وَلا تَنَازُلٍ عَنِ المَبَادِئِ أَو تَميِيعٍ لِلثَّوَابِتِ رَغبَةً في المَالِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا لا يُقَرُّ، قَالَ - سُبحَانَهُ -: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَينَيكَ إِلى مَا مَتَّعنَا بِهِ أَزوَاجًا مِنهُم زَهرَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفتِنَهُم فِيهِ وَرِزقُ رَبِّكَ خَيرٌ وَأَبقَى. وَأْمُرْ أَهلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصطَبِرْ عَلَيهَا لَا نَسأَلُكَ رِزقًا نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى ﴾.
مَا كَانَتِ القَنَاعَةُ لِتَمنَعَ مِن مُلكِ مَالٍ وَلو كَانَ وَفِيرًا، وَلا مِن تَحصِيلِ جَاهٍ وَلَو كَانَ عَرِيضًا، وَلَكِنَّهَا تَأبى أَن يَلِجَ حُبُّ الدُّنيَا قَلبَ المُسلِمِ فَيَملِكَ عَلَيهِ عَقلَهُ وَيَستَحوِذَ عَلَى تَفكِيرِهِ، حَتى يَدفَعَهُ إِلى مَنعِ مَا عَلَيهِ مِن حُقُوقٍ أَو تَعَدِّي مَا يَردَعُهُ مِن حُدُودٍ، أَوِ إِلى أَن يَتَكَاسَلَ عَن طَاعَةٍ أَو يُفَرِّطَ في فَرِيضَةٍ، أَو يَرتَكِبَ مُحَرَّمًا أَو يَستَسهِلَ مَكرُوهًا، أَلا فَاتَّقُوا اللهَ وَالزَمُوا القَنَاعَةَ، وَاتَّخِذُوهَا سِلاحًا وَاجعَلُوهَا لِلسَّعَادَةِ مِفتَاحًا، واملَؤُوا بها قُلُوبَكُم تَرتَاحُوا، وَيَحصُلْ لَكُمُ الأَمنُ وَالطُّمَأنِينَةُ في الدُّنيَا، وَالفَوزَ وَالفَلاحَ في الأُخرَى، ﴿ يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ * مَن عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجزَى إِلَّا مِثلَهَا وَمَن عَمِلَ صَالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فِيهَا بِغَيرِ حِسَابٍ ﴾ [غافر: 40].