رحيل
07-10-2022, 09:47 AM
"أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي".
أَثْبَتَ لَهُ " عَلَيْهِ السَّلَامُ " جَمِيعَ مَنَازِلِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَنَازِلِ هَارُونَ أَنَّهُ كَانَ خَلِيفَةً لِمُوسَى، وَلَوْ عَاشَ بَعْدَهُ لَكَانَ خَلِيفَةً أَيْضًا، وَإِلَّا (لَزِمَ) تَطَرُّقُ النَّقْضِ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ خَلِيفَتُهُ مَعَ وُجُودِهِ، وَغَيْبَتِهِ مُدَّةً يَسِيرَةً فَبَعْدَ مَوْتِهِ وَطُولِ مُدَّةِ الْغَيْبَةِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ خَلِيفَتَهُ ".
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَا رَيْبٍ وَغَيْرَهُمَا، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا سَافَرَ فِي غَزْوَةٍ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ حَجٍّ يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْمَدِينَةِ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَمَا اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي غَزْوَةِ ذِي. . . أَمَّرَ عُثْمَانَ، وَفِي غَزْوَةِ بَنِي قَيْنُقَاعَ
بَشِيرَ بْنَ (عَبْدِ) الْمُنْذِرِ، وَلَمَّا غَزَا قُرَيْشًا، وَوَصَلَ إِلَى الْفَرَعِ اسْتَعْمَلَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى يَسْتَخْلِفَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُسْلِمُونَ مَنْ كَانَ يَسْتَخْلِفُهُ، فَقَدْ سَافَرَ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي عُمْرَتَيْنِ: عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَفِي مَغَازِيهِ - أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ غَزَاةً - وَفِيهَا كُلِّهَا اسْتَخْلَفَ، وَكَانَ يَكُونُ بِالْمَدِينَةِ رِجَالٌ كَثِيرُونَ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهَا، وَهِيَ آخِرُ مَغَازِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهُ أَحَدٌ كَمَا اجْتَمَعَ مَعَهُ فِيهَا فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ إِلَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، أَوْ مَنْ هُوَ مَعْذُورٌ لِعَجْزِهِ عَنِ الْخُرُوجِ، أَوْ مَنْ هُوَ مُنَافِقٌ، وَتَخَلَّفَ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَدِينَةِ رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ كَمَا كَانَ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، بَلْ كَانَ هَذَا الِاسْتِخْلَافُ أَضْعَفَ مِنَ اَلِاسْتِخْلَافَاتِ الْمُعْتَادَةِ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْمَدِينَةِ رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْوِيَاءُ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ أَحَدًا كَمَا كَانَ يَبْقَى فِي جَمِيعِ مَغَازِيهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ بِالْمَدِينَةِ رِجَالٌ كَثِيرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْوِيَاءُ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَسْتَخْلِفُ، فَكُلُّ اسْتِخْلَافٍ اسْتَخْلَفَهُ فِي مَغَازِيهِ مِثْلَ اسْتِخْلَافِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى، وَالصُّغْرَى، وَغَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلَقِ، وَالْغَابَةِ، وَخَيْبَرَ، وَفَتْحِ مَكَّةَ، وَسَائِرِ مَغَازِيهِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ، وَمَغَازِيهِ بِضْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ فِيهَا كُلِّهَا إِلَّا الْقَلِيلَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَعُمْرَتَيْنِ قَبْلَ غَزْوَةِ تَبُوكَ.
وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يَكُونُ بِالْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ بَقِيَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ كُلُّ اسْتِخْلَافٍ قَبْلَ هَذِهِ يَكُونُ عَلِيٌّ أَفْضَلَ مِمَّنِ اسْتَخْلَفَ عَلَيْهِ عَلِيًّا، فَلِهَذَا خَرَجَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَبْكِي، وَقَالَ: أَتُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟
وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ طَعَنَ فِيهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا خَلَّفَهُ ; لِأَنَّهُ يُبْغِضُهُ، فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي إِنَّمَا اسْتَخْلَفْتُكَ لِأَمَانَتِكَ عِنْدِي
وَإِنَّ الِاسْتِخْلَافَ لَيْسَ بِنَقْصٍ وَلَا غَضٍّ، فَإِنَّ مُوسَى اسْتَخْلَفَ هَارُونَ عَلَى قَوْمِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ نَقْصًا، وَمُوسَى لَيَفْعَلُهُ بِهَارُونَ"؟ فَطَيَّبَ بِذَلِكَ قَلْبَ عَلِيٍّ، وَبَيَّنَ أَنَّ جِنْسَ الِاسْتِخْلَافِ يَقْتَضِي كَرَامَةَ الْمُسْتَخْلَفِ وَأَمَانَتَهُ، لَا يَقْتَضِي إِهَانَتَهُ وَلَا تَخْوِينَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ يَغِيبُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ خَرَجَ مَعَهُ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ.
وَالْمُلُوكُ - وَغَيْرُهُمْ - إِذَا خَرَجُوا فِي مَغَازِيهِمْ أَخَذُوا مَعَهُمْ مَنْ يَعْظُمُ انْتِفَاعُهُمْ بِهِ، وَمُعَاوَنَتُهُ لَهُمْ، وَيَحْتَاجُونَ إِلَى مُشَاوَرَتِهِ، وَالِانْتِفَاعِ بِرَأْيِهِ، وَلِسَانِهِ، وَيَدِهِ، وَسَيْفِهِ.
وَالْمُتَخَلِّفُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ سِيَاسَةٌ كَثِيرَةٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا كُلِّهِ، فَظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا غَضَاضَةٌ مِنْ عَلِيٍّ، وَنَقْصٌ مِنْهُ، وَخَفْضٌ مِنْ مَنْزِلَتِهِ حَيْثُ لَمْ يَأْخُذْهُ مَعَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى سَعْيٍ، وَاجْتِهَادٍ، بَلْ تَرَكَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى كَثِيرِ سَعْيٍ وَاجْتِهَادٍ فَكَانَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا أَنَّ جِنْسَ الِاسْتِخْلَافِ لَيْسَ نَقْصًا وَلَا غَضًّا ; إِذْ لَوْ كَانَ نَقْصًا أَوْ غَضًّا لَمَا فَعَلَهُ مُوسَى بِهَارُونَ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الِاسْتِخْلَافُ كَاسْتِخْلَافِ هَارُونَ ; لِأَنَّ الْعَسْكَرَ كَانَ مَعَ هَارُونَ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ مُوسَى وَحْدَهُ.
وَأَمَّا اسْتِخْلَافُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَمِيعُ الْعَسْكَرِ كَانَ مَعَهُ
وَلَمْ يُخَلَّفْ بِالْمَدِينَةِ - غَيْرُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ - إِلَّا مَعْذُورٌ أَوْ عَاصٍ.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: " هَذَا بِمَنْزِلَةِ هَذَا، وَهَذَا مِثْلُ هَذَا " هُوَ كَتَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَتَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ يَكُونُ بِحَسَبِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَلَا تَرَى إِلَى مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْأُسَارَى لَمَّا اسْتَشَارَ أَبَا بَكْرٍ، وَأَشَارَ بِالْفِدَاءِ، وَاسْتَشَارَ عُمَرَ فَأَشَارَ بِالْقَتْلِ.
قَالَ: " سَأُخْبِرُكُمْ عَنْ صَاحِبَيْكُمْ. "مَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 36)، وَمَثَلُ عِيسَى إِذْ قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 118)، وَمَثَلُكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ إِذْ قَالَ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (سُورَةُ نُوحٍ: 26)، وَمَثَلُ مُوسَى إِذْ قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} " (سُورَةُ يُونُسَ: 88).
فَقَوْلُهُ لِهَذَا: مَثَلُكَ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ، وَعِيسَى، وَلِهَذَا: مِثْلُ نُوحٍ، وَمُوسَى - أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِهِ: "أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى" ; فَإِنَّ نُوحًا، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى أَعْظَمُ مِنْ هَارُونَ، وَقَدْ جَعَلَ هَذَيْنِ مِثْلَهَمْ، وَلَمْ
يُرِدْ أَنَّهُمَا مِثْلُهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَكِنْ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِنَ الشِّدَّةِ فِي اللَّهِ، وَاللِّينِ فِي اللَّهِ.
أَثْبَتَ لَهُ " عَلَيْهِ السَّلَامُ " جَمِيعَ مَنَازِلِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلِاسْتِثْنَاءِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَنَازِلِ هَارُونَ أَنَّهُ كَانَ خَلِيفَةً لِمُوسَى، وَلَوْ عَاشَ بَعْدَهُ لَكَانَ خَلِيفَةً أَيْضًا، وَإِلَّا (لَزِمَ) تَطَرُّقُ النَّقْضِ إِلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ خَلِيفَتُهُ مَعَ وُجُودِهِ، وَغَيْبَتِهِ مُدَّةً يَسِيرَةً فَبَعْدَ مَوْتِهِ وَطُولِ مُدَّةِ الْغَيْبَةِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ خَلِيفَتَهُ ".
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَا رَيْبٍ وَغَيْرَهُمَا، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا سَافَرَ فِي غَزْوَةٍ، أَوْ عُمْرَةٍ، أَوْ حَجٍّ يَسْتَخْلِفُ عَلَى الْمَدِينَةِ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَمَا اسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ فِي غَزْوَةِ ذِي. . . أَمَّرَ عُثْمَانَ، وَفِي غَزْوَةِ بَنِي قَيْنُقَاعَ
بَشِيرَ بْنَ (عَبْدِ) الْمُنْذِرِ، وَلَمَّا غَزَا قُرَيْشًا، وَوَصَلَ إِلَى الْفَرَعِ اسْتَعْمَلَ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرِهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى يَسْتَخْلِفَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُسْلِمُونَ مَنْ كَانَ يَسْتَخْلِفُهُ، فَقَدْ سَافَرَ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي عُمْرَتَيْنِ: عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَةِ الْقَضَاءِ، وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَفِي مَغَازِيهِ - أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ غَزَاةً - وَفِيهَا كُلِّهَا اسْتَخْلَفَ، وَكَانَ يَكُونُ بِالْمَدِينَةِ رِجَالٌ كَثِيرُونَ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ فِي التَّخَلُّفِ عَنْهَا، وَهِيَ آخِرُ مَغَازِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ مَعَهُ أَحَدٌ كَمَا اجْتَمَعَ مَعَهُ فِيهَا فَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْهُ إِلَّا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، أَوْ مَنْ هُوَ مَعْذُورٌ لِعَجْزِهِ عَنِ الْخُرُوجِ، أَوْ مَنْ هُوَ مُنَافِقٌ، وَتَخَلَّفَ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَدِينَةِ رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ كَمَا كَانَ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، بَلْ كَانَ هَذَا الِاسْتِخْلَافُ أَضْعَفَ مِنَ اَلِاسْتِخْلَافَاتِ الْمُعْتَادَةِ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْمَدِينَةِ رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْوِيَاءُ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ أَحَدًا كَمَا كَانَ يَبْقَى فِي جَمِيعِ مَغَازِيهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَكُونُ بِالْمَدِينَةِ رِجَالٌ كَثِيرُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْوِيَاءُ يَسْتَخْلِفُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَسْتَخْلِفُ، فَكُلُّ اسْتِخْلَافٍ اسْتَخْلَفَهُ فِي مَغَازِيهِ مِثْلَ اسْتِخْلَافِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ الْكُبْرَى، وَالصُّغْرَى، وَغَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلَقِ، وَالْغَابَةِ، وَخَيْبَرَ، وَفَتْحِ مَكَّةَ، وَسَائِرِ مَغَازِيهِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا قِتَالٌ، وَمَغَازِيهِ بِضْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ فِيهَا كُلِّهَا إِلَّا الْقَلِيلَ، وَقَدِ اسْتَخْلَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَعُمْرَتَيْنِ قَبْلَ غَزْوَةِ تَبُوكَ.
وَفِي كُلِّ مَرَّةٍ يَكُونُ بِالْمَدِينَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ بَقِيَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فَكَانَ كُلُّ اسْتِخْلَافٍ قَبْلَ هَذِهِ يَكُونُ عَلِيٌّ أَفْضَلَ مِمَّنِ اسْتَخْلَفَ عَلَيْهِ عَلِيًّا، فَلِهَذَا خَرَجَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَبْكِي، وَقَالَ: أَتُخَلِّفُنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟
وَقِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْمُنَافِقِينَ طَعَنَ فِيهِ، وَقَالَ: إِنَّمَا خَلَّفَهُ ; لِأَنَّهُ يُبْغِضُهُ، فَبَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي إِنَّمَا اسْتَخْلَفْتُكَ لِأَمَانَتِكَ عِنْدِي
وَإِنَّ الِاسْتِخْلَافَ لَيْسَ بِنَقْصٍ وَلَا غَضٍّ، فَإِنَّ مُوسَى اسْتَخْلَفَ هَارُونَ عَلَى قَوْمِهِ فَكَيْفَ يَكُونُ نَقْصًا، وَمُوسَى لَيَفْعَلُهُ بِهَارُونَ"؟ فَطَيَّبَ بِذَلِكَ قَلْبَ عَلِيٍّ، وَبَيَّنَ أَنَّ جِنْسَ الِاسْتِخْلَافِ يَقْتَضِي كَرَامَةَ الْمُسْتَخْلَفِ وَأَمَانَتَهُ، لَا يَقْتَضِي إِهَانَتَهُ وَلَا تَخْوِينَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ يَغِيبُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ خَرَجَ مَعَهُ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ.
وَالْمُلُوكُ - وَغَيْرُهُمْ - إِذَا خَرَجُوا فِي مَغَازِيهِمْ أَخَذُوا مَعَهُمْ مَنْ يَعْظُمُ انْتِفَاعُهُمْ بِهِ، وَمُعَاوَنَتُهُ لَهُمْ، وَيَحْتَاجُونَ إِلَى مُشَاوَرَتِهِ، وَالِانْتِفَاعِ بِرَأْيِهِ، وَلِسَانِهِ، وَيَدِهِ، وَسَيْفِهِ.
وَالْمُتَخَلِّفُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْمَدِينَةِ سِيَاسَةٌ كَثِيرَةٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا كُلِّهِ، فَظَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ هَذَا غَضَاضَةٌ مِنْ عَلِيٍّ، وَنَقْصٌ مِنْهُ، وَخَفْضٌ مِنْ مَنْزِلَتِهِ حَيْثُ لَمْ يَأْخُذْهُ مَعَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى سَعْيٍ، وَاجْتِهَادٍ، بَلْ تَرَكَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا تَحْتَاجُ إِلَى كَثِيرِ سَعْيٍ وَاجْتِهَادٍ فَكَانَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا أَنَّ جِنْسَ الِاسْتِخْلَافِ لَيْسَ نَقْصًا وَلَا غَضًّا ; إِذْ لَوْ كَانَ نَقْصًا أَوْ غَضًّا لَمَا فَعَلَهُ مُوسَى بِهَارُونَ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الِاسْتِخْلَافُ كَاسْتِخْلَافِ هَارُونَ ; لِأَنَّ الْعَسْكَرَ كَانَ مَعَ هَارُونَ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ مُوسَى وَحْدَهُ.
وَأَمَّا اسْتِخْلَافُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَمِيعُ الْعَسْكَرِ كَانَ مَعَهُ
وَلَمْ يُخَلَّفْ بِالْمَدِينَةِ - غَيْرُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ - إِلَّا مَعْذُورٌ أَوْ عَاصٍ.
وَقَوْلُ الْقَائِلِ: " هَذَا بِمَنْزِلَةِ هَذَا، وَهَذَا مِثْلُ هَذَا " هُوَ كَتَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَتَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ يَكُونُ بِحَسَبِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ أَلَا تَرَى إِلَى مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْأُسَارَى لَمَّا اسْتَشَارَ أَبَا بَكْرٍ، وَأَشَارَ بِالْفِدَاءِ، وَاسْتَشَارَ عُمَرَ فَأَشَارَ بِالْقَتْلِ.
قَالَ: " سَأُخْبِرُكُمْ عَنْ صَاحِبَيْكُمْ. "مَثَلُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 36)، وَمَثَلُ عِيسَى إِذْ قَالَ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 118)، وَمَثَلُكَ يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ إِذْ قَالَ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} (سُورَةُ نُوحٍ: 26)، وَمَثَلُ مُوسَى إِذْ قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} " (سُورَةُ يُونُسَ: 88).
فَقَوْلُهُ لِهَذَا: مَثَلُكَ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ، وَعِيسَى، وَلِهَذَا: مِثْلُ نُوحٍ، وَمُوسَى - أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِهِ: "أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى" ; فَإِنَّ نُوحًا، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى أَعْظَمُ مِنْ هَارُونَ، وَقَدْ جَعَلَ هَذَيْنِ مِثْلَهَمْ، وَلَمْ
يُرِدْ أَنَّهُمَا مِثْلُهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَكِنْ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ مِنَ الشِّدَّةِ فِي اللَّهِ، وَاللِّينِ فِي اللَّهِ.