بنت الشام
07-03-2022, 02:38 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
المعدن الذي انطوى عليه الصديق في الجاهلية وسما فيه في الدين الحنيف :
أيها الأخوة, مع الدرس الثاني من سيرة سيدنا الصديق رضي الله عنه وأرضاه, هذا الصحابي الجليل هو الصحابي الأول، لذلك إذا قرأتم سيرته يمكن أن يكون قدوة لأي مؤمن في طريق الإيمان، فكان في نفسه تساؤل مستمر، تساؤل عن الحق، تساؤل عن الهدى، فكان هذا الصحابي الجليل صديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى ذلك أنه قريب جداً منه، كلما ارتفع مستوى الرجل إلى مستوى صنوه صار صديقاً له, النبي عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا "
(أخرجهما البخاري ومسلم عن أبي هريرة في الصحيح)
مكارم الأخلاق في الجاهلية :
هذه الأمة العربية التي اختارها الله لتكون أمة وسطاً، هذه الأمة وهي في جاهليتها تنطوي على مكارم للأخلاق, فقد كان حاتم الطائي وهو من سادة العرب في الجاهلية يقول لغلامه :
أَوْقِدْ فَإِنَّ اللَّيْلَ لَيْلٌ قَــرٌّ والرِّيحَ يَا مُوقِدُ رِيحٌ صِرُّ
عَسَى يَرَى نَارَكَ مَنْ يَمُـرُّ إِنْ جَلَبْتَ ضَيْفًا فَأَنْتَ حُـرُّ
أي إن جئتني بضيف, ومكنتني من إكرامه, فأنت حر، فبعضهم يوقد النيران الشاهقة في الليل كي يستدل بها الضيوف على مكان القِرى والإكرام، والعرب في الجاهلية كانوا يكرمون الضيف ، وينصرون المظلوم، ويعينون على نوائب الدهر فلديهم مكارم أخلاقية حقاً .
أيها الأخوة, العرب في الجاهلية كانت لهم أشهر حرم، أنا لا أنسى أنه كانت لهم نواقض كثيرة، لكن هناك مكارم أخلاق رغم الجاهلية التي كانوا يعانون منها
" خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا " .
(أخرجهما البخاري ومسلم عن أبي هريرة في الصحيح)
ففي هذه الأشهر الحرم تتحوّل السيوف إلى أغصان، وتتوقف الحروب، ويتوقف سفك الدماء، هذه ميزة كانت عندهم، بينما نسمع الآن أن الحرب دامت ثلاثة عشر عامًا, وحروب أهلية لا تبقِي ولا تذر .
موقف العلماء من الرؤيا التي رآها الصديق في منامه :كان الصدِّيق عليه رضوان الله في قِمَّة هذه النماذج التي عاشت في الجاهلية، والتي جاءها الإسلام، وهي على نقاء فطري، هذا الصحابي الجليل كما قلت لكم: لم يشرب خمراً, ولم يعبد صنماً, وكان في مخيلته تساؤل كبير عن الحق الذي يعد شفاء للنفوس, كان مرة في بلاد الشام في عمل تجاري، وقبل أن يغادر الشام إلى بلده مكة رأى رؤيا، رأى قمراً قد غادر مكانه في الأفق الأعلى، ونزل على مكة حيث تجزأ إلى قطع وأجزاء، تفرقت في جميع منازل مكة وبيوتها, ثم تضامنت هذه الأجزاء مرة أخرى، وعاد القمر إلى كيانه الأول، واستقر في حجر أبي بكر، صحا هذا الصديق من نومه، وقد رأى هذه الرؤيا، فسار إلى أحد الرهبان المتقين الذين ألفهم، وعقد معهم صلات بالشام، وقص عليه الرؤيا، فتهلل وجه الراهب الصالح، وقال لأبي بكر : لقد أهلَّتْ أيامُه، قال: من تعني؟ قال: النبي الذي يُنتَظَر، ويجيبه الراهب: نعم، وستؤمن معه، وستكون أسعد الناس به .
هذه يسميها علماء السيرة إرهاصات، والأشياء الجليلة العظيمة لا بد لها من إشارات تؤكد قدومها، وتبشر بها، سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كلم الله في المهد قال: إني عبد الله، فلما كبر, وأرسله الله رسولاً لقومه, تذكروا أن هذا الغلام هو الذي تكلم في مهده، فالمعجزات التي تظهر على أيدي الأنبياء في وقت مبكر جداً من إرسالهم للناس ليست معجزات بالمعنى الدقيق, ولكنها كما يقولون علماء السيرة: إرهاصات، وحينما يبعث النبي برسالته إلى أمته يذكر الناس أن لهذا الإنسان وضعاً خاصاً حينما كان صغيراً، فيربطون بين الحدث القديم وبين البعثة الجديدة، وهذا الربط لديهم مما يؤكد أن العناية الإلهية اختارت هذا الرجل ليكون نبياً, وهذا معنى قوله تعالى:
﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾
( سورة طه الآية : 39)
هذه الإرهاصات تؤكد للناس صدق بعثة الأنبياء .
فسيدنا الصديق يحتل مرتبة الصديقية، حينما تقرؤون سيرته ستجدون فيها ما لا يصدق ، الحب الذي ينطوي عليه هذا الصحابي الجليل للنبي يكاد لا يصدق، المؤاثرة، التضحية، الولاء ، الفهم، الإدراك في أعلى مستوى، وهذه القدرات الفذّة التي يمنحها الله للمؤمنين تقابل صدقهم في طلب الحقيقة .
كلما اشتد صدقك في طلب الحقيقة منحك الله قدرات استثنائية تعينك على تحقيق مطلبك في الحياة، إذاً: هذه كانت بالمعنى الدقيق إرهاصات لظهور النبي عليه الصلاة والسلام .
الخبر الذي ضج به أهل مكة وتصديق الصديق له :
سيدنا الصديق كان مسافراً، وعاد إلى مكة المكرمة، لكن هذه المرة عاد إلى مكة المكرمة، وفيها حدث جلل، وفيها أمر عظيم، وفيها خبر يدوي الأرجاء، ما هذا الخبر؟ اقترب أبو بكر من مكة المكرمة فشعر أن فيها حدثًا لم يكن حينما غادرها، فلما دخل مكة، وقابل أصدقاءه تقدمهم أبو جهل وتعانقا، وبدأ أبو جهل يقول: أَو حدَّثوك عن صاحبك يا عتيق، سيدنا الصديق كان اسمه في الجاهلية عتيقًا، فأجابه أبو بكر: ماذا تعني؟ فقال أبو جهل: أعني يتيم بني هاشم، قال أبو بكر: تعني محمداً الأمين، ودار حوار سريع بين أبي جهل وبين الصديق، قال: سمعت أنت ما يقول يا عمرو بن هشام؟ قال : نعم سمعته، وسمعه الناس جميعاً، قال: وماذا يقول ؟ قال: يقول إن في السماء إلهاً، أرسله إلينا لنعبده، ونترك ما كان يعبد آباؤنا، ثم إنّ سيدنا الصديق سأل أو قال: إن الله أوحى إليه؟ قال أبو جهل: أجل، قال الصديق: ألم يقل كيف كلمه ربُّه؟ قال أبو جهل: إن جبريل أتاه في غار حراء، وتألق وجه أبي بكر كأنه الشمس، قال في هدوء وسكينة: إن كان قال هذا: فقد صدق .
الأسباب التي دعت الصديق إلى تصديق خبر السماء :
شكه في طلب الحقيقة الذي وصل به إلى اليقين خلال البحث عنها :
الفصل كله حول هذه الكلمة، إن كان قال هذا: فقد صدق، ولهذه الأسباب سمي الصديق، لأن يقينه بصدق محمد عليه الصلاة والسلام فوق الشك, إنسان عاش أربعين سنة ما جرب الناس عليه كذبة قط، إنسان عاش أربعين سنة ما جرب الناس عليه خيانة قط، مثل هذا الإنسان يصدق إذا قال، طبعاً أبو جهل ما توقع هذا الموقف الهادئ، ولا هذا التصديق، هو يظن أنه سيلقي على أذني أبي بكر خبراً صاعقاً, يظن أنه سيفصم عرا المودة بينه وبين النبي، وإذ بهذا الصديق يصدق النبي عليه الصلاة والسلام، إن قال هذا: فقد صدق .
قصد أبو بكر داره ليرى أهله، وينفض عنه تعب السفر، وبعدها يقضي الله أمراً كان مفعولا، ثم إنّ سيدنا الصديق أراد أن يتصل بالنبي عليه الصلاة والسلام اتصالاً مباشراً، وهو يعرفه معرفةً جيدة، حينما كان النبي عليه الصلاة والسلام طفلاً صغيراً، وقد دعاه أصدقاؤه للعب كما يلعب الأطفال عادة، كان يقول عليه الصلاة والسلام وهو طفل صغير: أنا لم أُخلَق لهذا، وهو في سنِّ حياته الأولى كان واعياً للمهمة الكبرى التي تنتظره .
التلازم الحتمي بين المبدأ والسلوك ينتج عنهما حركة صحيحة في الحياة :
فهذه أقوال صحيحة قالها النبي عليه الصلاة والسلام عن سيدنا الصديق, وهناك أقوال أخرى .
وموقفه أيضاً من الأنصار لم ينس فضلهم وإليكم حديثه إليهم :
والنبي عليه الصلاة والسلام عندما انتهى من وقعة حنين، وكان عليه الصلاة والسلام في أوجّ قوته, بلغه أن بعض الأنصار قد وجدوا عليه في أنفسهم، يعني في منطق العصر ممكن القوي يلغي وجود المنتقدين إلغاء، ويمكن للقوي أن يهدر كرامتهم، فلو أن النبي قال في حقهم: إنهم منافقون لا نتهوا، ومن الممكن أن يهملهم، ومن الممكن أن يعاتبهم، ماذا فعل عليه الصلاة والسلام وهو في أوج قوته؟ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:
" لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ قَالَ فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي وَمَا أَنَا قَالَ فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قَالُوا بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ قَالَ أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ قَالُوا وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقْنَا "
(أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري في مسنده)
ذكرهم بفضلهم عليه .
من مقام النبوة الإنصاف :
قال لسيدنا معاذ: واللهِ يا معاذ إني لأحبك، أحد أخوانا العلماء يعد كتيبًا لطيفًا عن أقوال النبي في أصحابه، وهذه الأقوال من كتب السيرة كلها .
أبو عبيدة أمين هذه الأمة، خالد سيف من سيوف الله، ارمِ سعد فداك أبي وأمي، لو كان نبي من بعدي لكان عمر، فما من صحابي إلا ذكره عنه النبي بكلامٍ أنصفه، وأعطاه حقه، هذه من عظمة النبي، مع أنه هو أعظمهم، وأرقاهم عند الله، وهو البطل الأوحد، ومع ذلك ما نسي مَن حوله، وما نسي البطولات التي حوله، مع أنها إذا قيست إليه فلا تعدل شيئًا، ومع ذلك أبرَزَها، وهذا من الإنصاف .
ينبغي على المسلم أن لا ينسى فضل أخيه عليه متأسياً بالنبي بهذا الخلق :
أيها الأخ الكريم, خدمك أخ، أكرمك، أعطاك، دلك على الله، زوجك، قدم لك شيئًا ثمينًا، فإياك أن تنسى فضله، فمن لؤم الأصل أن تنسى فضله، أما إذا صنعت معروفاً فعليك أن تنسى ما صنعتَ، فالكلمة الطيبة صدقة، أحدهم قدم لك خدمة, وشاهدته بعد أسبوع, فقل له: جزاك الله الخير، أنا والله لا أنسى فضلك، شجِّعه، هناك شخص يتلقى خدمات الآخرين، ويتلقى المعروف وهو ساكت، وكأن هذه الخدمات ضريبة عليهم أن يؤدوها له .
يا أيها الأخوة, من فظاظة الإنسان ومِن ضحالته، يقول لك: أنا لا أحد له فضل عليّ إلا الله، وهذه كلمة حق أريد بها باطل، صحيح أنّ لله المنة والفضل، ولكن لا تنسَ قول النبي عليه الصلاة والسلام:
" مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ "
(أخرجه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ في سننه)
وكذلك اللؤم والجحود ونكران الجميل هذا من طبع اللئام, قال الشاعر:
حر ومذهب كل حر مذهبــي ما كنت بالغاوي ولا المتعصب
يأبى فؤادي أن يميل إلى الأذى حب الأذية من طباع العقـرب
لي أن أرد مساءة بمســـاءة لو أنني أرضى ببرق خــلب
حسب المسيء شعوره ومقـاله في سره يا ليتني لم أذ نــب
إذا لم ير الإنسان فضلَ أبيه عليه, وفضلَ أمه, وفضلَ أصدقائه الذين قدّموا له المعونة يوم العسرة، وفضل الذي دلّه على الله، وفضلَ الذي أكرمه، وفضل الذي زوجه فهو جاحد, بعض الناس قد يتطاول على عمه، هذا عمك الذي ربا لك زوجتك، فهل هو مِن سنك؟ هذا أب لك، والآباء ثلاثة: أب أنجبك، وأب زوّجك، وأب دلّك على الله، وفارقُ السنِّ مهم جداً .
انظر المفارقة بين أخلاق النبوة وأخلاق العظماء في الحياة ؟
ليس مِن صحابي من أصحاب رسول الله من دون استثناء إلا وذكره النبي بما يستحق, هذه من عظمة النبي عليه الصلاة والسلام، فأخلاقه وعظمته، وبطولته كالشمس في رابعة النهار ، لكن شأن العظماء في الحياة غير الأنبياء والمؤمنين, من عادتهم أنهم إذا ظهروا, أي تألقوا ووصلوا إلى قمة النجاح, لا يسمحون لأحد معهم أن يظهر، لكن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي أظهر أصحابه .
انظر إلى الحب العجيب الغريب الذي توقد في قلب الصديق اتجاه النبي ؟
يقول عليه الصلاة والسلام:
"ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال أبي بكر ".
( ورد في الأثر)
سيدنا الصديق أعطاه كل ماله، وما قبل النبي مال أحد كله إلا مال الصديق، من سيدنا عمر لم يقبل إلا نصف ماله، قد تنشأ علاقة بين شخصين يتحابان في الله، نابعة مِن علاقة إيمانية، صدقوا أيها الأخوة, إنّ الفوارق تتلاشى، المال واحد، والهموم واحدة، والفرح واحد، والحزن واحد، أحياناً تشتد العلاقة بين المؤمنين لدرجة أن الملكية تتلاشى، يقول: مالي ومالك واحد.
سيدنا الصديق بلغ من حبه للنبي عليه الصلاة والسلام حداً لم يعُدْ يرى أنّ له مالاً إطلاقاً، قال له: يا أبا بكر، ماذا أبقيت لنفسك؟ قال: أبْقيتُ لها الله ورسوله، هذا هو الإيمان العالي ، كلما ارتقى إيمانكم أحببْتم بعضكم بعضاً، وإنّ الحسد من ضعف الإيمان، وتراشق التهم من ضعف الإيمان، وأن تتمنى أن تزول عن أخيك النعمة من ضعف الإيمان .
شعار المؤمن الواحد للجميع والمجموع لواحد :
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾
( سورة آل عمران الآية : 144)
قال:
فو الله لكأن الناس يسمعون هذه الآية أول مرة في حياتهم، أما عمر فقد وقع على الأرض حين علم أن كلمات أبي بكر تؤكد أنه قد مات (2).
( رواه ابن اسحاق وغيره , كما روى البخاري نحوه بألفاظ مختلفة )
هذا الموقف الذي لا يُنسى لأبي بكر، وهو يجمع قمة التوحيد مع قمة الوفاء، فلذلك يجب أن توحدوا، وأن تكونوا أوفياء في الوقت نفسه، وإذا حملكم التوحيد على الجفوة, فليس هذا هو التوحيد الذي أراده الله، و إذا حملتكم المحبة و الوفاء على الشرك, فليست هذه المحبة التي أرادها الله عز وجل، اجعلوا من هذا الصحابي الجليل الصديق العظيم قدوة، كان في أعلى درجات الحب و الوفاء للنبي، وفي أعلى درجات التوحيد، فما عبده من دون الله، ولا أشركه مع الله، لكنه أحبه حباً ما أحبه أحد من العالمين، لا تنس أن الله هو كل شيء .
قال الصديق للسيدة عائشة: قومي إلى رسول الله، بعد التبرئة من الإفك, فقالت: والله لا أقوم إلا لله، فتبسَّم النبي، وقال: عرفت الحق لأهله، لم ينزعج إطلاقاً، فيجب أن تجمع بين الوفاء و التوحيد, و ألاّ يحملك الوفاء على الشرك, و ألا يحملك التوحيد على إنكار الجميل .
والحمد لله رب العالمين
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
المعدن الذي انطوى عليه الصديق في الجاهلية وسما فيه في الدين الحنيف :
أيها الأخوة, مع الدرس الثاني من سيرة سيدنا الصديق رضي الله عنه وأرضاه, هذا الصحابي الجليل هو الصحابي الأول، لذلك إذا قرأتم سيرته يمكن أن يكون قدوة لأي مؤمن في طريق الإيمان، فكان في نفسه تساؤل مستمر، تساؤل عن الحق، تساؤل عن الهدى، فكان هذا الصحابي الجليل صديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى ذلك أنه قريب جداً منه، كلما ارتفع مستوى الرجل إلى مستوى صنوه صار صديقاً له, النبي عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح عَنْ عَمَّارٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا "
(أخرجهما البخاري ومسلم عن أبي هريرة في الصحيح)
مكارم الأخلاق في الجاهلية :
هذه الأمة العربية التي اختارها الله لتكون أمة وسطاً، هذه الأمة وهي في جاهليتها تنطوي على مكارم للأخلاق, فقد كان حاتم الطائي وهو من سادة العرب في الجاهلية يقول لغلامه :
أَوْقِدْ فَإِنَّ اللَّيْلَ لَيْلٌ قَــرٌّ والرِّيحَ يَا مُوقِدُ رِيحٌ صِرُّ
عَسَى يَرَى نَارَكَ مَنْ يَمُـرُّ إِنْ جَلَبْتَ ضَيْفًا فَأَنْتَ حُـرُّ
أي إن جئتني بضيف, ومكنتني من إكرامه, فأنت حر، فبعضهم يوقد النيران الشاهقة في الليل كي يستدل بها الضيوف على مكان القِرى والإكرام، والعرب في الجاهلية كانوا يكرمون الضيف ، وينصرون المظلوم، ويعينون على نوائب الدهر فلديهم مكارم أخلاقية حقاً .
أيها الأخوة, العرب في الجاهلية كانت لهم أشهر حرم، أنا لا أنسى أنه كانت لهم نواقض كثيرة، لكن هناك مكارم أخلاق رغم الجاهلية التي كانوا يعانون منها
" خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا " .
(أخرجهما البخاري ومسلم عن أبي هريرة في الصحيح)
ففي هذه الأشهر الحرم تتحوّل السيوف إلى أغصان، وتتوقف الحروب، ويتوقف سفك الدماء، هذه ميزة كانت عندهم، بينما نسمع الآن أن الحرب دامت ثلاثة عشر عامًا, وحروب أهلية لا تبقِي ولا تذر .
موقف العلماء من الرؤيا التي رآها الصديق في منامه :كان الصدِّيق عليه رضوان الله في قِمَّة هذه النماذج التي عاشت في الجاهلية، والتي جاءها الإسلام، وهي على نقاء فطري، هذا الصحابي الجليل كما قلت لكم: لم يشرب خمراً, ولم يعبد صنماً, وكان في مخيلته تساؤل كبير عن الحق الذي يعد شفاء للنفوس, كان مرة في بلاد الشام في عمل تجاري، وقبل أن يغادر الشام إلى بلده مكة رأى رؤيا، رأى قمراً قد غادر مكانه في الأفق الأعلى، ونزل على مكة حيث تجزأ إلى قطع وأجزاء، تفرقت في جميع منازل مكة وبيوتها, ثم تضامنت هذه الأجزاء مرة أخرى، وعاد القمر إلى كيانه الأول، واستقر في حجر أبي بكر، صحا هذا الصديق من نومه، وقد رأى هذه الرؤيا، فسار إلى أحد الرهبان المتقين الذين ألفهم، وعقد معهم صلات بالشام، وقص عليه الرؤيا، فتهلل وجه الراهب الصالح، وقال لأبي بكر : لقد أهلَّتْ أيامُه، قال: من تعني؟ قال: النبي الذي يُنتَظَر، ويجيبه الراهب: نعم، وستؤمن معه، وستكون أسعد الناس به .
هذه يسميها علماء السيرة إرهاصات، والأشياء الجليلة العظيمة لا بد لها من إشارات تؤكد قدومها، وتبشر بها، سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كلم الله في المهد قال: إني عبد الله، فلما كبر, وأرسله الله رسولاً لقومه, تذكروا أن هذا الغلام هو الذي تكلم في مهده، فالمعجزات التي تظهر على أيدي الأنبياء في وقت مبكر جداً من إرسالهم للناس ليست معجزات بالمعنى الدقيق, ولكنها كما يقولون علماء السيرة: إرهاصات، وحينما يبعث النبي برسالته إلى أمته يذكر الناس أن لهذا الإنسان وضعاً خاصاً حينما كان صغيراً، فيربطون بين الحدث القديم وبين البعثة الجديدة، وهذا الربط لديهم مما يؤكد أن العناية الإلهية اختارت هذا الرجل ليكون نبياً, وهذا معنى قوله تعالى:
﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾
( سورة طه الآية : 39)
هذه الإرهاصات تؤكد للناس صدق بعثة الأنبياء .
فسيدنا الصديق يحتل مرتبة الصديقية، حينما تقرؤون سيرته ستجدون فيها ما لا يصدق ، الحب الذي ينطوي عليه هذا الصحابي الجليل للنبي يكاد لا يصدق، المؤاثرة، التضحية، الولاء ، الفهم، الإدراك في أعلى مستوى، وهذه القدرات الفذّة التي يمنحها الله للمؤمنين تقابل صدقهم في طلب الحقيقة .
كلما اشتد صدقك في طلب الحقيقة منحك الله قدرات استثنائية تعينك على تحقيق مطلبك في الحياة، إذاً: هذه كانت بالمعنى الدقيق إرهاصات لظهور النبي عليه الصلاة والسلام .
الخبر الذي ضج به أهل مكة وتصديق الصديق له :
سيدنا الصديق كان مسافراً، وعاد إلى مكة المكرمة، لكن هذه المرة عاد إلى مكة المكرمة، وفيها حدث جلل، وفيها أمر عظيم، وفيها خبر يدوي الأرجاء، ما هذا الخبر؟ اقترب أبو بكر من مكة المكرمة فشعر أن فيها حدثًا لم يكن حينما غادرها، فلما دخل مكة، وقابل أصدقاءه تقدمهم أبو جهل وتعانقا، وبدأ أبو جهل يقول: أَو حدَّثوك عن صاحبك يا عتيق، سيدنا الصديق كان اسمه في الجاهلية عتيقًا، فأجابه أبو بكر: ماذا تعني؟ فقال أبو جهل: أعني يتيم بني هاشم، قال أبو بكر: تعني محمداً الأمين، ودار حوار سريع بين أبي جهل وبين الصديق، قال: سمعت أنت ما يقول يا عمرو بن هشام؟ قال : نعم سمعته، وسمعه الناس جميعاً، قال: وماذا يقول ؟ قال: يقول إن في السماء إلهاً، أرسله إلينا لنعبده، ونترك ما كان يعبد آباؤنا، ثم إنّ سيدنا الصديق سأل أو قال: إن الله أوحى إليه؟ قال أبو جهل: أجل، قال الصديق: ألم يقل كيف كلمه ربُّه؟ قال أبو جهل: إن جبريل أتاه في غار حراء، وتألق وجه أبي بكر كأنه الشمس، قال في هدوء وسكينة: إن كان قال هذا: فقد صدق .
الأسباب التي دعت الصديق إلى تصديق خبر السماء :
شكه في طلب الحقيقة الذي وصل به إلى اليقين خلال البحث عنها :
الفصل كله حول هذه الكلمة، إن كان قال هذا: فقد صدق، ولهذه الأسباب سمي الصديق، لأن يقينه بصدق محمد عليه الصلاة والسلام فوق الشك, إنسان عاش أربعين سنة ما جرب الناس عليه كذبة قط، إنسان عاش أربعين سنة ما جرب الناس عليه خيانة قط، مثل هذا الإنسان يصدق إذا قال، طبعاً أبو جهل ما توقع هذا الموقف الهادئ، ولا هذا التصديق، هو يظن أنه سيلقي على أذني أبي بكر خبراً صاعقاً, يظن أنه سيفصم عرا المودة بينه وبين النبي، وإذ بهذا الصديق يصدق النبي عليه الصلاة والسلام، إن قال هذا: فقد صدق .
قصد أبو بكر داره ليرى أهله، وينفض عنه تعب السفر، وبعدها يقضي الله أمراً كان مفعولا، ثم إنّ سيدنا الصديق أراد أن يتصل بالنبي عليه الصلاة والسلام اتصالاً مباشراً، وهو يعرفه معرفةً جيدة، حينما كان النبي عليه الصلاة والسلام طفلاً صغيراً، وقد دعاه أصدقاؤه للعب كما يلعب الأطفال عادة، كان يقول عليه الصلاة والسلام وهو طفل صغير: أنا لم أُخلَق لهذا، وهو في سنِّ حياته الأولى كان واعياً للمهمة الكبرى التي تنتظره .
التلازم الحتمي بين المبدأ والسلوك ينتج عنهما حركة صحيحة في الحياة :
فهذه أقوال صحيحة قالها النبي عليه الصلاة والسلام عن سيدنا الصديق, وهناك أقوال أخرى .
وموقفه أيضاً من الأنصار لم ينس فضلهم وإليكم حديثه إليهم :
والنبي عليه الصلاة والسلام عندما انتهى من وقعة حنين، وكان عليه الصلاة والسلام في أوجّ قوته, بلغه أن بعض الأنصار قد وجدوا عليه في أنفسهم، يعني في منطق العصر ممكن القوي يلغي وجود المنتقدين إلغاء، ويمكن للقوي أن يهدر كرامتهم، فلو أن النبي قال في حقهم: إنهم منافقون لا نتهوا، ومن الممكن أن يهملهم، ومن الممكن أن يعاتبهم، ماذا فعل عليه الصلاة والسلام وهو في أوج قوته؟ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:
" لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ قَالَ فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي وَمَا أَنَا قَالَ فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ثُمَّ قَالَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ قَالُوا بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ قَالَ أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ قَالُوا وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ قَالَ أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقْنَا "
(أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري في مسنده)
ذكرهم بفضلهم عليه .
من مقام النبوة الإنصاف :
قال لسيدنا معاذ: واللهِ يا معاذ إني لأحبك، أحد أخوانا العلماء يعد كتيبًا لطيفًا عن أقوال النبي في أصحابه، وهذه الأقوال من كتب السيرة كلها .
أبو عبيدة أمين هذه الأمة، خالد سيف من سيوف الله، ارمِ سعد فداك أبي وأمي، لو كان نبي من بعدي لكان عمر، فما من صحابي إلا ذكره عنه النبي بكلامٍ أنصفه، وأعطاه حقه، هذه من عظمة النبي، مع أنه هو أعظمهم، وأرقاهم عند الله، وهو البطل الأوحد، ومع ذلك ما نسي مَن حوله، وما نسي البطولات التي حوله، مع أنها إذا قيست إليه فلا تعدل شيئًا، ومع ذلك أبرَزَها، وهذا من الإنصاف .
ينبغي على المسلم أن لا ينسى فضل أخيه عليه متأسياً بالنبي بهذا الخلق :
أيها الأخ الكريم, خدمك أخ، أكرمك، أعطاك، دلك على الله، زوجك، قدم لك شيئًا ثمينًا، فإياك أن تنسى فضله، فمن لؤم الأصل أن تنسى فضله، أما إذا صنعت معروفاً فعليك أن تنسى ما صنعتَ، فالكلمة الطيبة صدقة، أحدهم قدم لك خدمة, وشاهدته بعد أسبوع, فقل له: جزاك الله الخير، أنا والله لا أنسى فضلك، شجِّعه، هناك شخص يتلقى خدمات الآخرين، ويتلقى المعروف وهو ساكت، وكأن هذه الخدمات ضريبة عليهم أن يؤدوها له .
يا أيها الأخوة, من فظاظة الإنسان ومِن ضحالته، يقول لك: أنا لا أحد له فضل عليّ إلا الله، وهذه كلمة حق أريد بها باطل، صحيح أنّ لله المنة والفضل، ولكن لا تنسَ قول النبي عليه الصلاة والسلام:
" مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ "
(أخرجه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ في سننه)
وكذلك اللؤم والجحود ونكران الجميل هذا من طبع اللئام, قال الشاعر:
حر ومذهب كل حر مذهبــي ما كنت بالغاوي ولا المتعصب
يأبى فؤادي أن يميل إلى الأذى حب الأذية من طباع العقـرب
لي أن أرد مساءة بمســـاءة لو أنني أرضى ببرق خــلب
حسب المسيء شعوره ومقـاله في سره يا ليتني لم أذ نــب
إذا لم ير الإنسان فضلَ أبيه عليه, وفضلَ أمه, وفضلَ أصدقائه الذين قدّموا له المعونة يوم العسرة، وفضل الذي دلّه على الله، وفضلَ الذي أكرمه، وفضل الذي زوجه فهو جاحد, بعض الناس قد يتطاول على عمه، هذا عمك الذي ربا لك زوجتك، فهل هو مِن سنك؟ هذا أب لك، والآباء ثلاثة: أب أنجبك، وأب زوّجك، وأب دلّك على الله، وفارقُ السنِّ مهم جداً .
انظر المفارقة بين أخلاق النبوة وأخلاق العظماء في الحياة ؟
ليس مِن صحابي من أصحاب رسول الله من دون استثناء إلا وذكره النبي بما يستحق, هذه من عظمة النبي عليه الصلاة والسلام، فأخلاقه وعظمته، وبطولته كالشمس في رابعة النهار ، لكن شأن العظماء في الحياة غير الأنبياء والمؤمنين, من عادتهم أنهم إذا ظهروا, أي تألقوا ووصلوا إلى قمة النجاح, لا يسمحون لأحد معهم أن يظهر، لكن النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي أظهر أصحابه .
انظر إلى الحب العجيب الغريب الذي توقد في قلب الصديق اتجاه النبي ؟
يقول عليه الصلاة والسلام:
"ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال أبي بكر ".
( ورد في الأثر)
سيدنا الصديق أعطاه كل ماله، وما قبل النبي مال أحد كله إلا مال الصديق، من سيدنا عمر لم يقبل إلا نصف ماله، قد تنشأ علاقة بين شخصين يتحابان في الله، نابعة مِن علاقة إيمانية، صدقوا أيها الأخوة, إنّ الفوارق تتلاشى، المال واحد، والهموم واحدة، والفرح واحد، والحزن واحد، أحياناً تشتد العلاقة بين المؤمنين لدرجة أن الملكية تتلاشى، يقول: مالي ومالك واحد.
سيدنا الصديق بلغ من حبه للنبي عليه الصلاة والسلام حداً لم يعُدْ يرى أنّ له مالاً إطلاقاً، قال له: يا أبا بكر، ماذا أبقيت لنفسك؟ قال: أبْقيتُ لها الله ورسوله، هذا هو الإيمان العالي ، كلما ارتقى إيمانكم أحببْتم بعضكم بعضاً، وإنّ الحسد من ضعف الإيمان، وتراشق التهم من ضعف الإيمان، وأن تتمنى أن تزول عن أخيك النعمة من ضعف الإيمان .
شعار المؤمن الواحد للجميع والمجموع لواحد :
﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾
( سورة آل عمران الآية : 144)
قال:
فو الله لكأن الناس يسمعون هذه الآية أول مرة في حياتهم، أما عمر فقد وقع على الأرض حين علم أن كلمات أبي بكر تؤكد أنه قد مات (2).
( رواه ابن اسحاق وغيره , كما روى البخاري نحوه بألفاظ مختلفة )
هذا الموقف الذي لا يُنسى لأبي بكر، وهو يجمع قمة التوحيد مع قمة الوفاء، فلذلك يجب أن توحدوا، وأن تكونوا أوفياء في الوقت نفسه، وإذا حملكم التوحيد على الجفوة, فليس هذا هو التوحيد الذي أراده الله، و إذا حملتكم المحبة و الوفاء على الشرك, فليست هذه المحبة التي أرادها الله عز وجل، اجعلوا من هذا الصحابي الجليل الصديق العظيم قدوة، كان في أعلى درجات الحب و الوفاء للنبي، وفي أعلى درجات التوحيد، فما عبده من دون الله، ولا أشركه مع الله، لكنه أحبه حباً ما أحبه أحد من العالمين، لا تنس أن الله هو كل شيء .
قال الصديق للسيدة عائشة: قومي إلى رسول الله، بعد التبرئة من الإفك, فقالت: والله لا أقوم إلا لله، فتبسَّم النبي، وقال: عرفت الحق لأهله، لم ينزعج إطلاقاً، فيجب أن تجمع بين الوفاء و التوحيد, و ألاّ يحملك الوفاء على الشرك, و ألا يحملك التوحيد على إنكار الجميل .
والحمد لله رب العالمين