بنت الشام
06-25-2022, 02:19 PM
يَمتاز الحديث النبوي بالدقة في اختيار الكلمات الموحية بأغراض سامية نبيلة؛ من حيث محتوياتها ومدلولاتها، "فكان النبي يدقِّق اختياره من الكلمات الرنانة التي تتسلسل في آذان المخاطبين، وتروع معانيها؛ من تلك الأجراس الصوتية"[1].
مثل قوله صلى الله عليه وسلم: لأنجشة: ((رُوَيْدَكَ يَا أَنْجشة، ارْفق بالقَوَارير))[2].
تبدو دقته ظاهرة واضحةً في هذا الحديث؛ حيث اختار كلمة القوارير من كلمات كثيرة توحي إلى الضَّعف، ومطالبة الحماية، ومضادة القساوة، لِما تتميز بـه كلمة القوارير مـن إيحاء لغوي، وألحان مثيرة في خلجات نفس المخـاطب، وفي سُويداء قلبه، ويجد القارئ أن كلمة القوارير التي هي جمع قارورة، وهي إناء من الزجاج - قد استُعمِلت هنا وتراد بهــا المرأة؛ لأن الولد يقرُّ في رحمها كما يقر الماء في القارورة، أو تشبيهًا لها بالزجاج من حيث الضَّعف؛ لأن القارورة هي أضعفُ شيء، فلا تقبل اللعب ولا القوة والجبروتية، فـإذا أجبرته انكسَر، فإذا انكسر فسَد، ولا يعود إلى العرجون القديم؛ قال الشاعر:
إِنَّ القُلوبَ إِذا تَنافَرَ وُدُّهَا *** مِثْلُ الزُّجَاجَةِ قَطعُها لا يُجبرُ
هكذا النساء، وهكذا وصفهنَّ المصطفى صلى الله عليه وسلم بالقوارير لِما بينهما من علاقة دلالية مع قرينة إيحائية معنوية، فرسولنا الحكيم، يخاطب العقول لا الأجساد، فلمعرفة مدلول هذا الحديث لا بد من استعمال العقل والتدبر.
فقد تمتاز بلاغته باستعمال كلمات تصوِّر المشهد والحادثة تصويرًا فنيًّا مؤثـرًا في نفسية المخاطب، كما اختار كلمة "فَتَنْدَلِقُ" التي توحي إلى خروج الشيء بـالسرعة لتصوير مشهد العالم الفاشل، الذي لا يعمَل بعلمه في الدنيا؛ حيث قال أسامة بن زيد: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يُؤْتَى بالرجل يَوْمَ القيامةِ، فَيُلْقَى في النار، فتَندلِق أَقْتابَ بَطْنه، فَيَدُور بها كما يدور الحمار في الرَّحَى، فيجتمع إليه أهلُ النار، فيقولون: ما لك يا فلان؟ ألم تكن تأمُر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فيقول: بلى، كنتُ آمرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه"[3]، فإن كلمة الاندلاق التي تدل على خروج الشيء فجأةً، تصوِّر لنا مشهد العالم الفاشل في بطن جهنم، حقًّا إن هذه لصورة رهيبة تقشعرُّ لها الأبدان، وترتعد منها القلـوب، وهي صورة رجل عالم تَخرُج أقتاب بطنه من شدة العذاب، فيدور ويجول - وأمعاؤه جارية على الأرض - كما يدور الحمار إذا قيِّد على الطاحون.
فهذه هي خاصية كلامية يتصف بها كلامُه صلى الله عليه وسلم، فالألفاظ تُطيعه كأن بيده عنانها، يتصرَّف فيها كيف يشاء ومتى شـاء، ولا نعرف أن لمثل هذه الفصاحة طريقَ الاكتساب، إلا موهبة من الله؛ قال الـرافعي: "ولا نعلم أن هذه الفصاحة قد كـانت له إلا توفيقًا من الله وتوقيفًا"[4]، فكلامه مُزينٌ وإن لم يَقصِد تزيينه، ومرصَّع وإن لم يَقصِد ترصيعَه، فهو من التكلُّف والصَّنعة بعيدٌ نزيهٌ؛ قال الرافعي: "كان أفصحَ العرب، على أنه لا يتكلَّف القول، ولا يقصد تزينَه، ولا يبغي إليه وسيلة من وسائل الصَّنعة، ولا يجاوز به مقدار الإبداع في المعنى الذي يريده"[5].
[1] اللأوي لقمان، من خصائص أسلوب النبوي، ورقة الندوة قدمت لقسم اللغة العربية في جامعة عثمان بن فودي صكتوا نيجيريا، ص13.
[2] أخرجه البخاري في صحيحه، [باب من انتظر حتى دفن ]، رقم [6209] ص48، وأخرجه النسائي في سننه، رقم [10362] ص 135.
مثل قوله صلى الله عليه وسلم: لأنجشة: ((رُوَيْدَكَ يَا أَنْجشة، ارْفق بالقَوَارير))[2].
تبدو دقته ظاهرة واضحةً في هذا الحديث؛ حيث اختار كلمة القوارير من كلمات كثيرة توحي إلى الضَّعف، ومطالبة الحماية، ومضادة القساوة، لِما تتميز بـه كلمة القوارير مـن إيحاء لغوي، وألحان مثيرة في خلجات نفس المخـاطب، وفي سُويداء قلبه، ويجد القارئ أن كلمة القوارير التي هي جمع قارورة، وهي إناء من الزجاج - قد استُعمِلت هنا وتراد بهــا المرأة؛ لأن الولد يقرُّ في رحمها كما يقر الماء في القارورة، أو تشبيهًا لها بالزجاج من حيث الضَّعف؛ لأن القارورة هي أضعفُ شيء، فلا تقبل اللعب ولا القوة والجبروتية، فـإذا أجبرته انكسَر، فإذا انكسر فسَد، ولا يعود إلى العرجون القديم؛ قال الشاعر:
إِنَّ القُلوبَ إِذا تَنافَرَ وُدُّهَا *** مِثْلُ الزُّجَاجَةِ قَطعُها لا يُجبرُ
هكذا النساء، وهكذا وصفهنَّ المصطفى صلى الله عليه وسلم بالقوارير لِما بينهما من علاقة دلالية مع قرينة إيحائية معنوية، فرسولنا الحكيم، يخاطب العقول لا الأجساد، فلمعرفة مدلول هذا الحديث لا بد من استعمال العقل والتدبر.
فقد تمتاز بلاغته باستعمال كلمات تصوِّر المشهد والحادثة تصويرًا فنيًّا مؤثـرًا في نفسية المخاطب، كما اختار كلمة "فَتَنْدَلِقُ" التي توحي إلى خروج الشيء بـالسرعة لتصوير مشهد العالم الفاشل، الذي لا يعمَل بعلمه في الدنيا؛ حيث قال أسامة بن زيد: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يُؤْتَى بالرجل يَوْمَ القيامةِ، فَيُلْقَى في النار، فتَندلِق أَقْتابَ بَطْنه، فَيَدُور بها كما يدور الحمار في الرَّحَى، فيجتمع إليه أهلُ النار، فيقولون: ما لك يا فلان؟ ألم تكن تأمُر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فيقول: بلى، كنتُ آمرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه"[3]، فإن كلمة الاندلاق التي تدل على خروج الشيء فجأةً، تصوِّر لنا مشهد العالم الفاشل في بطن جهنم، حقًّا إن هذه لصورة رهيبة تقشعرُّ لها الأبدان، وترتعد منها القلـوب، وهي صورة رجل عالم تَخرُج أقتاب بطنه من شدة العذاب، فيدور ويجول - وأمعاؤه جارية على الأرض - كما يدور الحمار إذا قيِّد على الطاحون.
فهذه هي خاصية كلامية يتصف بها كلامُه صلى الله عليه وسلم، فالألفاظ تُطيعه كأن بيده عنانها، يتصرَّف فيها كيف يشاء ومتى شـاء، ولا نعرف أن لمثل هذه الفصاحة طريقَ الاكتساب، إلا موهبة من الله؛ قال الـرافعي: "ولا نعلم أن هذه الفصاحة قد كـانت له إلا توفيقًا من الله وتوقيفًا"[4]، فكلامه مُزينٌ وإن لم يَقصِد تزيينه، ومرصَّع وإن لم يَقصِد ترصيعَه، فهو من التكلُّف والصَّنعة بعيدٌ نزيهٌ؛ قال الرافعي: "كان أفصحَ العرب، على أنه لا يتكلَّف القول، ولا يقصد تزينَه، ولا يبغي إليه وسيلة من وسائل الصَّنعة، ولا يجاوز به مقدار الإبداع في المعنى الذي يريده"[5].
[1] اللأوي لقمان، من خصائص أسلوب النبوي، ورقة الندوة قدمت لقسم اللغة العربية في جامعة عثمان بن فودي صكتوا نيجيريا، ص13.
[2] أخرجه البخاري في صحيحه، [باب من انتظر حتى دفن ]، رقم [6209] ص48، وأخرجه النسائي في سننه، رقم [10362] ص 135.