Şøķåŕą
06-16-2022, 10:25 AM
محكمات الفطرة
تمهيد:
على الرغم من أننا نعيشُ عصرَ الثورة الصناعية، فإننا لم نجد صانعًا يصنع شيئًا لا معنى له ولا فائدة منه، بل يجعل من مصنوعه ما يتواءَم والهدفَ الذي صُنع من أجله، فكيف بصُنع ربِّ العالمين الذي خلَق الإنسان، وأودَع فيه فطرةً نقية خالصة تُرشده إلى الغاية التي خُلق من أجلها، "فالله سبحانه نصَب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والباطل والنور والظلام، وجعل فِطَرَ عباده مستعدةً لإدراك الحقائق ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق، لم يمكن النظرُ والاستدلال والخطاب والكلام والفهم والإفهام، كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب، ولولا ذاك لما أمكن تغذيتُها وتربيتها، كما أن في الأبدان قوةً تفرِّق بين الغذاء الملائم والمنافي، ففي القلوب قوةٌ تفرِّق بين الحق والباطل أعظمُ من ذلك"[1]، وإن كانت الحال كذلك مع الفطرة، فما هي؟
حقيقة الفطرة؟
المقصودُ بالفطرة أن الإنسان يولَد على نوع من الجِبِلَّة والطبع المتهيِّئ لقَبول الدين[2]، فالخلقةُ والهيئة التي يولد عليها الإنسان معدَّةٌ ومهيَّأة لاستقبال الرسالات السماوية وأخبار الوحي، وهي كذلك مهيَّأة للتمييز بين المخلوقات ومزوَّدة بالمبادئ الأولية الضرورية، مما يستدل به على خالقه ومعبوده ويعرف شرائعه، ويؤمن به[3]، وهذا المعنى متوافق مع اللغة أيضًا[4].
قال ابن حجر (852) رحمه الله: "وقال أبو شامة: أصل الفطرة الخلقة المبتدأة، ومنه فاطر السماوات والأرض؛ أي المبتدئ خلقهنَّ، وقوله صلى الله عليه وسلم: كلُّ مولود يولد على الفطرة؛ أي: على ما ابتدأ الله خلقه عليه...، والمعنى أن كل أحد لو ترك من وقت ولادته وما يؤديه إليه نظَره، لأداه إلى الدين الحق وهو التوحيد"[5].
ولما كان الأمر بهذه المنزلة، نجد أن هناك من العلماء من فسَّره بأنه دين الإسلام؛ لأنه الفطرة السوية ستقوده إليها ولا غرابة، قال ابن حجر (852) رحمه الله تعالى: "وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام"[6]، ثم نقل عن ابن عبد البر قوله في التمهيد: "وهو المعروف عند عامة السلف، وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30] الإسلام"[7].
وأما مصطلح المحكم، فهو مصطلح قرآني عظيم مأخوذٌ من القرآن الكريم، ويقصد به الأمر الواضح البيِّن والثابت المحفوظ الذي لا التباس فيه ولا يتغير ولا يتبدل، وإلى المحكم يرد كل ما تشابه من غيره، وهذا المنهج القرآني ليس مقتصرًا على النصوص، بل هو منهج حياة ومنهج علم يُطبق على كافة الأصعدة العلمية والعملية.
فالمقصودُ بالمحكمات الفطرية القضايا التي فطر عليها الناس كافة، وهي واضحة عندهم وثابتة، ولكن قد يعرِض لهم ما يغيِّره، ولنقف على هذه القضايا الفطرية نستعرض بعض النصوص التي ورد فيها الكلام عن الفطرة.
الفطرة في الكتاب والسنة:
لقد وردت الفطرةُ في نصوص كثيرة من نصوص الكتاب والسنة، مؤكِّدة وجوبَ التمسك بموجبها وما فيها، ومن ذلك:
1- قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [الروم: 30]؛ أي: "فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرَعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم الذي هداك الله لها، وكمَّلها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازِم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها؛ فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره"[8]، فهذا أمر صريح من المولى سبحانه وتعالى بلزوم هذه الفطرة التي فطرنا عليها من معرفته وتوحيده بصيغة الحثِّ والترغيب[9].
2- قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172]، وعلى الرغم من اختلاف المفسرين في هذه الآية؛ حيث أكَّد بعضهم أنها قصة حقيقية واقعية، وأن الإشهاد كانَ حقيقةً في عالم الذرِّ، ونفى بعضهم كونها حقيقة، وإنما هي كناية عن خلقهم على هيئة يقرون معها بالله سبحانه وتعالى، أقول على الرغم من هذا الاختلاف، فإنهم متفقون على أن البشرية مفطورة على الاعتراف بالله سبحانه وتعالى والإقرار بوحدانيته وربوبيته للخلق وألوهيته واستحقاقه العبادةَ وحده لا شريك له، فهذه قضية محكمة فطرية[10].
3- ومن أهم الأحاديث والآثار الواردة في ذلك ما جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [الروم: 30] [11].
4- ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاءَ كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا..."[12] ، "فالحنيفية الإسلام"[13]، "والحنيف في كلام العرب المستقيم المخلص ولا استقامة أكثر من الإسلام"[14].
محكمات الفطرة من الكتاب والسنة:
ومن تأمل هذه النصوص الواردة في الفطرة يستطيع استنباط مجموعة من المحكمات الفطرية المعروفة، ومنها:
1- فطرية معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده واللجأ إليه وعبادته، فأهل السنة يؤكدون أن معرفة الله تعالى فطريةٌ بديهيةٌ ضروريةٌ، وليس هو في حاجة إلى البحث والنظر والأدلة، بل هذه المعرفة كامنة في نفسه وفطرته[15]، وهذا لا يعني أن البحث والنظر والاستدلال له دوره في مؤازرة هذه الفطرة وهذه المعرفة، بل على العكس يفوز الإنسان مع كل العوامل السابقة بإعماله العقل ونظره في الأدلة، فيزداد يقينًا على يقينه وإيمانًا على إيمانه[16].
ولكن هذا التقرير الذي قعدناه لا يعني بالضرورة أن كل إنسان ولا بد أن تكون عنده هذه المعرفة حاضرة، بل قد يشوب هذه الفطرة ما يشوبها من التضليلات والشبهات والتشكيكات، ما يجعلها مغمورة في وسط تلك المدلهمات، ويكون الإنسان بحاجة في تلك الظلمات إلى سراج يضيء له طريق الفطرة وينير له ما أظلم عليه منها، سواء بالبحث والنظر والتأمل والتفكر في نوع من أنواع الأدلة، أو بالدعاء والإلحاح أو بغيرها، فقد يحتاج الإنسان إلى إيقاظ هذا المعنى الفطري الكامن في النفس[17]، ومن حكمة المولى سبحانه وتعالى أنه لم يحصر الدلالة عليه في الفطرة، فيهلك من أظلم عليه هذا الطريق، بل جعل أنوارًا عدة تضيء طريق معرفته سبحانه للبشر من عقل ونظر وفطرةٍ ومشاهدة، وآيات ورسل وأنبياء وعبر وتاريخ من غبر، فالأدلةُ الدالةُ على وجوده سبحانه وتعالى كثيرة متنوعة [18] بخلاف ما يدعيه من أخطأ في هذا الباب[19].
2- فطرية توحيد الله تعالى، فكما أن الإنسان يهتدي بفطرته لو خُلِّي بينه وبينها إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، فإنه كذلك يهتدي إلى توحيده؛ ومن هنا ردَّ القرآن من زاغ في باب التوحيد وشك فيه إلى فطرته حين قال تعالى: ﴿ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [إبراهيم: 10]، أي: أفي إلهيته وتفرُّده بوجوب العبادة شك، ولا يستحق العبادة إلا هو، وحده لا شريك له، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع[20].
3- فطرية التدين، فالإنسان يجد من نفسه افتقارًا إلى إله يعبده ويخضع له، ويلجأ إليه في الشدائد ويثني عليه في الموائد، ويتلهف إلى عونه وتدبيره ومدده، وتنجلي هذه الغريزة إذا ادلهمَّت الخطوب على الإنسان، كما يقول تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [يونس: 22]، ومن العجيب أن الدراسات الغربية الحديثة لا تعترف بهذا صراحة وتحاول تفسيره تفسيرًا ماديًّا طبيعيًّا تطوريًّا، وتعترف ضمنًا بأن التدين فطرة في الإنسان، ولكنها تزعم أن المسؤول عن ذلك جين من جيناته ولكن بلغة أخرى، فهناك كثيرٌ من الدراسات التي تجري على هذه الغريزة حتى صار يُبحث عن جين موجود في نفس الإنسان مسؤول عن التدين![21] ؛ إذًا "لا بد من إله معين، محبوب لذاته من كل حي، ومن الممتنع أن يكون هذا غير الله، فلزم أن يكون هو الله، وأن كل إنسان ولد على محبته سبحانه وتعالى"[22].
4- فطرية الاعتراف بالإسلام والدخول فيه، فالإنسان لو ترك وحده دون مشوِّه لفطرته أو مشوش عليه، لاهتدى إلى قبول الإسلام والإقرار به، ومن هنا قال من قال بأن المقصود بالفطرة دين الإسلام؛ لأن الفطرة ستقوده إليها[23].
5- فطرية البحث عن المعنى، فكل إنسان يجد من نفسه ضرورة أن لوجوده غاية، وأنه وُجد لهدف، ولا يرضى الإنسان لعقله بأن يتخيَّل صناعة جهاز صغير بلا فائدة، فكيف يُعقل أن ترضى نفسه بالقول بأن لا فائدة من وجوده!!
فالإنسان لا محالة مريد همام كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ((أصدق الأسماء حارث وهمام))[24] ، وهذا الهم وهذه الإرادة لا شك سيقودانه إلى البحث عن الأسئلة الكبرى وأجوبتها التي لا جواب شافي لها إلا في دين الإسلام، فالله خالقنا لنعبده، ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185]، ﴿ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20].
6- فطرية النَّزْعَة الأَخلاقيَّة، والمقصود بذلك أن في النفس البشرية شعور فطري يميز به بين الخير والشر، والحسن والقبيح، فكلُّ إنسان على وجه البسيطة يقر ضرورة بأن العدل مطلب وقيمة عُليا، ولا يرضى بأن يعامل إلا بالعدل، ولا يرضى على نفسه بالظلم، ويقر بأن العدل هو الخير وهو الحسن، وكذلك الحال مع الصدق، فلا يرضى أحدٌ من الناس أن يعامَل إلا بالصدق، ولا يرضى أن تعامله بالكذب والغش والخداع، وكل إنسان يحب العدل والصدق، وينفر من الظلم والكذب[25].
7- فطرية المبادئ العقلية الأولية وهي: "القضايا التي يصدق بها العقل الصريح لذاته ولغريزته"[26]، كمبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض ومبدأ السببية [27]، فهذه المبادئ بالإضافة إلى أنها محكمات عقلية هي أيضًا محكمات فطرية، فكلُّ إنسان يسلِّم بها بمجرَّد تصوُّرها، وهي موجودة في الإنسان بالقوة منذ ولادته، لا أنها متحققة بالفعل، فالإنسان مفطور على التسليم بها بمجرد تصورها، بحيث لا يحتاج إلى برهان؛ لأن الغريزة العقلية تقتضيها بالضرورة[28].
الخاتمة:
جولة ماتعة مريحة للوِجدان ممتعة للأذهان سهلة يسيرة الفهم، قريبة المأخذ مناسبة لكل المستويات[29]، فهذه من سمات المحكمات الفطرية، وهي التي يبني عليها الدين الإسلامي أسسَه وأصوله ومسائله وقضاياه، وهو ما يدعو المؤمن إلى التشبث به والعض عليه بالنواجذ، ويرغب الدعاة والعلماء إلى الالتفاف حوله والاعتصام به في دعوتهم وتبليغهم.
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
تمهيد:
على الرغم من أننا نعيشُ عصرَ الثورة الصناعية، فإننا لم نجد صانعًا يصنع شيئًا لا معنى له ولا فائدة منه، بل يجعل من مصنوعه ما يتواءَم والهدفَ الذي صُنع من أجله، فكيف بصُنع ربِّ العالمين الذي خلَق الإنسان، وأودَع فيه فطرةً نقية خالصة تُرشده إلى الغاية التي خُلق من أجلها، "فالله سبحانه نصَب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والباطل والنور والظلام، وجعل فِطَرَ عباده مستعدةً لإدراك الحقائق ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق، لم يمكن النظرُ والاستدلال والخطاب والكلام والفهم والإفهام، كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب، ولولا ذاك لما أمكن تغذيتُها وتربيتها، كما أن في الأبدان قوةً تفرِّق بين الغذاء الملائم والمنافي، ففي القلوب قوةٌ تفرِّق بين الحق والباطل أعظمُ من ذلك"[1]، وإن كانت الحال كذلك مع الفطرة، فما هي؟
حقيقة الفطرة؟
المقصودُ بالفطرة أن الإنسان يولَد على نوع من الجِبِلَّة والطبع المتهيِّئ لقَبول الدين[2]، فالخلقةُ والهيئة التي يولد عليها الإنسان معدَّةٌ ومهيَّأة لاستقبال الرسالات السماوية وأخبار الوحي، وهي كذلك مهيَّأة للتمييز بين المخلوقات ومزوَّدة بالمبادئ الأولية الضرورية، مما يستدل به على خالقه ومعبوده ويعرف شرائعه، ويؤمن به[3]، وهذا المعنى متوافق مع اللغة أيضًا[4].
قال ابن حجر (852) رحمه الله: "وقال أبو شامة: أصل الفطرة الخلقة المبتدأة، ومنه فاطر السماوات والأرض؛ أي المبتدئ خلقهنَّ، وقوله صلى الله عليه وسلم: كلُّ مولود يولد على الفطرة؛ أي: على ما ابتدأ الله خلقه عليه...، والمعنى أن كل أحد لو ترك من وقت ولادته وما يؤديه إليه نظَره، لأداه إلى الدين الحق وهو التوحيد"[5].
ولما كان الأمر بهذه المنزلة، نجد أن هناك من العلماء من فسَّره بأنه دين الإسلام؛ لأنه الفطرة السوية ستقوده إليها ولا غرابة، قال ابن حجر (852) رحمه الله تعالى: "وأشهر الأقوال أن المراد بالفطرة الإسلام"[6]، ثم نقل عن ابن عبد البر قوله في التمهيد: "وهو المعروف عند عامة السلف، وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾ [الروم: 30] الإسلام"[7].
وأما مصطلح المحكم، فهو مصطلح قرآني عظيم مأخوذٌ من القرآن الكريم، ويقصد به الأمر الواضح البيِّن والثابت المحفوظ الذي لا التباس فيه ولا يتغير ولا يتبدل، وإلى المحكم يرد كل ما تشابه من غيره، وهذا المنهج القرآني ليس مقتصرًا على النصوص، بل هو منهج حياة ومنهج علم يُطبق على كافة الأصعدة العلمية والعملية.
فالمقصودُ بالمحكمات الفطرية القضايا التي فطر عليها الناس كافة، وهي واضحة عندهم وثابتة، ولكن قد يعرِض لهم ما يغيِّره، ولنقف على هذه القضايا الفطرية نستعرض بعض النصوص التي ورد فيها الكلام عن الفطرة.
الفطرة في الكتاب والسنة:
لقد وردت الفطرةُ في نصوص كثيرة من نصوص الكتاب والسنة، مؤكِّدة وجوبَ التمسك بموجبها وما فيها، ومن ذلك:
1- قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [الروم: 30]؛ أي: "فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرَعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم الذي هداك الله لها، وكمَّلها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازِم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها؛ فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره"[8]، فهذا أمر صريح من المولى سبحانه وتعالى بلزوم هذه الفطرة التي فطرنا عليها من معرفته وتوحيده بصيغة الحثِّ والترغيب[9].
2- قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 172]، وعلى الرغم من اختلاف المفسرين في هذه الآية؛ حيث أكَّد بعضهم أنها قصة حقيقية واقعية، وأن الإشهاد كانَ حقيقةً في عالم الذرِّ، ونفى بعضهم كونها حقيقة، وإنما هي كناية عن خلقهم على هيئة يقرون معها بالله سبحانه وتعالى، أقول على الرغم من هذا الاختلاف، فإنهم متفقون على أن البشرية مفطورة على الاعتراف بالله سبحانه وتعالى والإقرار بوحدانيته وربوبيته للخلق وألوهيته واستحقاقه العبادةَ وحده لا شريك له، فهذه قضية محكمة فطرية[10].
3- ومن أهم الأحاديث والآثار الواردة في ذلك ما جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولودٍ إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: ﴿ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [الروم: 30] [11].
4- ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا، كل مال نحلته عبدًا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاءَ كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا..."[12] ، "فالحنيفية الإسلام"[13]، "والحنيف في كلام العرب المستقيم المخلص ولا استقامة أكثر من الإسلام"[14].
محكمات الفطرة من الكتاب والسنة:
ومن تأمل هذه النصوص الواردة في الفطرة يستطيع استنباط مجموعة من المحكمات الفطرية المعروفة، ومنها:
1- فطرية معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده واللجأ إليه وعبادته، فأهل السنة يؤكدون أن معرفة الله تعالى فطريةٌ بديهيةٌ ضروريةٌ، وليس هو في حاجة إلى البحث والنظر والأدلة، بل هذه المعرفة كامنة في نفسه وفطرته[15]، وهذا لا يعني أن البحث والنظر والاستدلال له دوره في مؤازرة هذه الفطرة وهذه المعرفة، بل على العكس يفوز الإنسان مع كل العوامل السابقة بإعماله العقل ونظره في الأدلة، فيزداد يقينًا على يقينه وإيمانًا على إيمانه[16].
ولكن هذا التقرير الذي قعدناه لا يعني بالضرورة أن كل إنسان ولا بد أن تكون عنده هذه المعرفة حاضرة، بل قد يشوب هذه الفطرة ما يشوبها من التضليلات والشبهات والتشكيكات، ما يجعلها مغمورة في وسط تلك المدلهمات، ويكون الإنسان بحاجة في تلك الظلمات إلى سراج يضيء له طريق الفطرة وينير له ما أظلم عليه منها، سواء بالبحث والنظر والتأمل والتفكر في نوع من أنواع الأدلة، أو بالدعاء والإلحاح أو بغيرها، فقد يحتاج الإنسان إلى إيقاظ هذا المعنى الفطري الكامن في النفس[17]، ومن حكمة المولى سبحانه وتعالى أنه لم يحصر الدلالة عليه في الفطرة، فيهلك من أظلم عليه هذا الطريق، بل جعل أنوارًا عدة تضيء طريق معرفته سبحانه للبشر من عقل ونظر وفطرةٍ ومشاهدة، وآيات ورسل وأنبياء وعبر وتاريخ من غبر، فالأدلةُ الدالةُ على وجوده سبحانه وتعالى كثيرة متنوعة [18] بخلاف ما يدعيه من أخطأ في هذا الباب[19].
2- فطرية توحيد الله تعالى، فكما أن الإنسان يهتدي بفطرته لو خُلِّي بينه وبينها إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، فإنه كذلك يهتدي إلى توحيده؛ ومن هنا ردَّ القرآن من زاغ في باب التوحيد وشك فيه إلى فطرته حين قال تعالى: ﴿ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [إبراهيم: 10]، أي: أفي إلهيته وتفرُّده بوجوب العبادة شك، ولا يستحق العبادة إلا هو، وحده لا شريك له، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع[20].
3- فطرية التدين، فالإنسان يجد من نفسه افتقارًا إلى إله يعبده ويخضع له، ويلجأ إليه في الشدائد ويثني عليه في الموائد، ويتلهف إلى عونه وتدبيره ومدده، وتنجلي هذه الغريزة إذا ادلهمَّت الخطوب على الإنسان، كما يقول تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [يونس: 22]، ومن العجيب أن الدراسات الغربية الحديثة لا تعترف بهذا صراحة وتحاول تفسيره تفسيرًا ماديًّا طبيعيًّا تطوريًّا، وتعترف ضمنًا بأن التدين فطرة في الإنسان، ولكنها تزعم أن المسؤول عن ذلك جين من جيناته ولكن بلغة أخرى، فهناك كثيرٌ من الدراسات التي تجري على هذه الغريزة حتى صار يُبحث عن جين موجود في نفس الإنسان مسؤول عن التدين![21] ؛ إذًا "لا بد من إله معين، محبوب لذاته من كل حي، ومن الممتنع أن يكون هذا غير الله، فلزم أن يكون هو الله، وأن كل إنسان ولد على محبته سبحانه وتعالى"[22].
4- فطرية الاعتراف بالإسلام والدخول فيه، فالإنسان لو ترك وحده دون مشوِّه لفطرته أو مشوش عليه، لاهتدى إلى قبول الإسلام والإقرار به، ومن هنا قال من قال بأن المقصود بالفطرة دين الإسلام؛ لأن الفطرة ستقوده إليها[23].
5- فطرية البحث عن المعنى، فكل إنسان يجد من نفسه ضرورة أن لوجوده غاية، وأنه وُجد لهدف، ولا يرضى الإنسان لعقله بأن يتخيَّل صناعة جهاز صغير بلا فائدة، فكيف يُعقل أن ترضى نفسه بالقول بأن لا فائدة من وجوده!!
فالإنسان لا محالة مريد همام كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: ((أصدق الأسماء حارث وهمام))[24] ، وهذا الهم وهذه الإرادة لا شك سيقودانه إلى البحث عن الأسئلة الكبرى وأجوبتها التي لا جواب شافي لها إلا في دين الإسلام، فالله خالقنا لنعبده، ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185]، ﴿ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد: 20].
6- فطرية النَّزْعَة الأَخلاقيَّة، والمقصود بذلك أن في النفس البشرية شعور فطري يميز به بين الخير والشر، والحسن والقبيح، فكلُّ إنسان على وجه البسيطة يقر ضرورة بأن العدل مطلب وقيمة عُليا، ولا يرضى بأن يعامل إلا بالعدل، ولا يرضى على نفسه بالظلم، ويقر بأن العدل هو الخير وهو الحسن، وكذلك الحال مع الصدق، فلا يرضى أحدٌ من الناس أن يعامَل إلا بالصدق، ولا يرضى أن تعامله بالكذب والغش والخداع، وكل إنسان يحب العدل والصدق، وينفر من الظلم والكذب[25].
7- فطرية المبادئ العقلية الأولية وهي: "القضايا التي يصدق بها العقل الصريح لذاته ولغريزته"[26]، كمبدأ الهوية ومبدأ عدم التناقض ومبدأ السببية [27]، فهذه المبادئ بالإضافة إلى أنها محكمات عقلية هي أيضًا محكمات فطرية، فكلُّ إنسان يسلِّم بها بمجرَّد تصوُّرها، وهي موجودة في الإنسان بالقوة منذ ولادته، لا أنها متحققة بالفعل، فالإنسان مفطور على التسليم بها بمجرد تصورها، بحيث لا يحتاج إلى برهان؛ لأن الغريزة العقلية تقتضيها بالضرورة[28].
الخاتمة:
جولة ماتعة مريحة للوِجدان ممتعة للأذهان سهلة يسيرة الفهم، قريبة المأخذ مناسبة لكل المستويات[29]، فهذه من سمات المحكمات الفطرية، وهي التي يبني عليها الدين الإسلامي أسسَه وأصوله ومسائله وقضاياه، وهو ما يدعو المؤمن إلى التشبث به والعض عليه بالنواجذ، ويرغب الدعاة والعلماء إلى الالتفاف حوله والاعتصام به في دعوتهم وتبليغهم.
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.