رحيل
05-29-2022, 12:09 PM
القول السني في خبر عدي بن حاتم الطائي
محمد السيد حسن محمد
يمثل إسلام عدي بن حاتم الطائي حجةً بالغة على كل أحد، وبرهانًا دامغًا يعلو كل ناصية، ولأن الناس يومهم هذا كانوا إلى دين سيدنا النبي عيسى عليه السلام أقرب، وإلى تعاليمه أفهم، وحتى ولو لم يكن العهد الجديد قد كتب إلا من بعد مائتين وخمسين عامًا، أو ثلاث مائة عام من بعثته، ومن ثم من نزول آيات الإنجيل عليه - عليه السلام - وإذ لا يزال نورها لم يحجب، وإذ لا يزال برهانها لم يطم، ومن كثرة ما توارد عليها الأغيار تبديلًا وتغييرًا وتعديلًا!
ومن طرف: نحن نريد أن نسأل: هذا كتاب كتبه الناس بعد رحيل صاحبه بثلاثمائة سنة! وليس يوجد من تابعيه أحد! وها هم قد ماتوا أيضًا، وها هم يحال عدم نسيانهم حال طول عمر أحدهم! ومنه أيعقل أن يكون هذا الكتاب هو هو كما أنزل؟!
ومنه فإن إسلام عدي وغيره من أهل الكتاب، وقد كان من الشهرة وسط قومه بمكان، ليعد برهانًا على صدق رسالتنا، ويحسب دليلا على بطلان محاجتنا، ومناصبتنا، ومعاداتنا، وإذ نحن أصحاب الحق الأصيل في دعوة الناس بالحسنى والبرهان، وكيما نعبد الله تعالى الكريم ذي العظمة والملكوت والجبروت والسلطان، وهذا الذي قال الله تعالى عنه: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:64].
وأعالجه في عشرين مسألة:
المسألة الأولى:
(أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا).
هذا قول عمر الفاروق لعدي بن حاتم الطائي رضي الله تعالى عنهما، وهو قول مفسر نفسه بنفسه، وزيادة قول لي ربما ألحقت به فسادًا، ولربما أيس منه كلام من مثلنا!
ولكن هذا عديًّا بن حاتم الطائي، وكان نصرانيًّا، وإذ كان من شأنه أنه هرب، ولما سمع بجيش نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد زحفوا قربًا منه، ولما كان قد اتخذ أهبة من عيره فأخذها، واستل نفسه هاربًا إلى الشام، وعند أهل منعته من النصارى هناك! وإذ ليس يدري المسكين أن الله ربه سيسوقه سوقًا إلى الهدى والنور والسلام والسرور والصلاح والفلاح والحبور!
ويكأن الله تعالى يقدر بلطفه أقدارًا، ولو وقف العبد عندها متأملًا قليل تأمل، ولربما أخذته رعدة من إعجاز ما خلق الله تعالى وقدر وقضى بلطفه وبقدرته ومن إرادته، بل تملكه إخبات، وبأن ما قضى الله تعالى، إن هو إلا لحكمة، وما قدره تعالى، إن هو إلا بلطف، ويكأننا لا نقف كثيرًا عند تعليل ما نرى، ولأن ما نراه كثيرًا ما يكون فوق إدراكنا، فلسنا نسبر غوره، وإذ إنه أعلى من طاقاتنا، وإذ نحن لا نطيق حمله!
وهذا مناسبة أنه راح وترك أخته سفانة بنت حاتم الطائي! وهذا مربض الفرس، إذ ولما كان أبوهما مشتهرًا هكذا بمكارم الأخلاق، وقد عرف هذا قبائل العرب وغيرهم، وصغيرهم قبل كبيرهم، ونساؤهم قبل رجالهم، وحين يترك أخته سفانة الحازمة الجزلة، ومهما يكن من أمر فإنها امرأة! وليهرب هو، فإن هذا الذي لا يمكن تصوره، ومن ذرية حاتم الطائي، ذاك الأشم الكريم كثير الرماد!
ولكنه وعند التأمل قليلًا، وكما أنف، كانت سببًا في هدايته، وكانت موجب مراجعته، وحين قد استفتاها رأيها الجزل في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن هذه سفانة، ولما وقعت في الأسر مع الأسارى، وكانت من طبيعتها أنفتها، إلا أن تأبى ذلكم موقفًا حرجًا! ويمر عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ تكلمه بأدب امرأة خلوق، وبنت رجل كان خلوقًا، وهذا الذي يقف العبد عنده، وإذ ينبغي على الذرية أن تحفظ لوالدها حقه، فلا يبدون إلا بمظهر الكاشف للب كان نقيًّا نظيفًا، وألا يظهرون إلا بهدي كان ناصعًا رقيقًا.
وإذ تناديه صلى الله عليه وسلم، بصفته الرسول النبي صلى الله عليه وسلم، لا باسمه، وكما قد فعل أشج عبد القيس من قبل، وحين ناداه أن: يا محمد!
قالت سفانة: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنُن عليَّ مَنَّ الله عليك.
وهكذا ثلاثة أيام متتالية، ونفس كلامها الآنف، ونفس جوابه صلى الله عليه وسلم أيضا، وحين قال: ومن وافدك؟ وحين تخبره أنه عدي بن حاتم الطائي، ذلك الفار من الله ورسوله! وإذ من يفر من الله تعالى إلا إليه؟! ولكنها هكذا نفوس، وجد صنفها، ويكأنها قرائح، وكان في الوجود مثلها!
ولكن الله تعالى له سننه، وحين قد فر كعب بن مالك وصاحباه، وحين نزل فيهم قرآن كريم يتلى إلى يوم الدين، وحين قال الله تعالى ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة:118].
وهذا في عقد المؤمن أبدًا، وهذا الذي فات فريقا من الناس، ولو من وجه، وإذ كان مثله كعب وصاحباه معه، وهذا الذي معنا الآن عدي بن حاتم أيضًا.
وليعلم الناس أن الكل في قبضة الله تعالى وقدره وقضائه ومشيئته، ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم:39].
ولكن لطف هذا النبي العربي الأمي الكريم صلى الله عليه وسلم، وحين أعتقها؛ ولرصيد والدها الجميل، ولإرثه النبيل، وحين قال صلى الله عليه وسلم: أطلقوا سراحها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق!
ولكن الذي نقف عنده تأملًا، هو ذلكم المشهد الإسلامي الناصع بياضًا، وحين يكتب سجل الفارين، وليس ينظر من كونهم مسلمين، أو غير مسلمين، بل ولعله يكون في مسلم أعلى رتبة؛ ولتأديب الصف المسلم، وتمحيصه، وتنقيته، وتربيته.
* * *
المسألة الثانية:
﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء:9].
وهذا الذي نقف عنده أيضًا، وحين يعمل العبد، وأن كان سويًّا مستقيماً؛ ليكون ذا ذكر حسن، وينفع نفسه وأهله من بعده أيضًا، وهذا الذي رأيناه الآن، وكيف كان موجب إطلاق سراح سفانة هو أبوها، وكيف كان ذلك سببا لعتقها هو والدها، وهذا الجانب الأهم في المسألة.
وقرآننا كان أسبق في تسجيل هذه الحيثية، وكيما تكون جوهرة فريدة، وقلادة تليدة، وحين قال الله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء:9].
* * *
المسألة الثالثة:
(من صلاحيات الإمام):
وكما أن فيه صلاحيات الإمام الأعلى للأمة، وأن يعفو من محله، وأن يعتق من سلطانه، وأن يمنح من عفوه، وأن يمن من جوده، وأن يبذل من فضله.
وهذا الذي حدث، ويوم أن أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، وحين قال صلى الله عليه وسلم لها: قد فعلت، فلا تعجلي بخروج، حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة، حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني.
ومن ثم وهي تقول: يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكساني وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
* * *
المسألة الرابعة:
(من ثمرات عفو الإمام)
ولتأتي مرحلة حاسمة فاصلة، وحين لامت أخاها؛ وأن تركها، وبما لم يجد إلا طأطأة رأسه؛ خجلًا منها وحياءً، وأن نعم فعل عدي هذا!
ولكننا لسنا نغادر مكاننا هذا، وإلا أن نشير إلى إحسان هذا النبي هكذا، وهو مما يحمل بين جنبات نفسه من عطاء، ومنح، وفضل، ولا مَنَّ به ولا أذى، خلقًا وهديًا حسنًا.
* * *
المسألة الخامسة:
(الاعتذار من شيم النبلاء)
وسبق وأن وقفنا على حكمة، وها قد حل أوانها، وحين قدم بين يديها اعتذارا لتقبله، وهما ابنا حاتم الطائي، ذي مكارم الأخلاق! وحين قال: قلت: أي أخية لا تقولي إلا خيرًا، فوالله مالي من عذر، لقد صنعت ما ذكرتِ.
قال: ثم نزلت فأقامت عندي. فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعًا، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكًا فلن تزل في عز اليمن وأنت أنت. قال: قلت: والله إن هذا الرأي.
وهذا الذي نفيده من صبر على الحدث ومتابعته، ولعله يحمل من بين نبضاته ما كان ذا حكمة، علمها الله تعالى، ولما تتبدى واضحة ظاهرة من أمامنا يومًا ما.
* * *
المسألة السادسة:
(والله ما هذا بِمَلِكٍ)
هذا قسم أقسمه عدي بن حاتم الطائي، وحين قد أقنعته أخته الذهاب إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أسلم فهذا خير، وإن كان ملكًا فعله أن ينال من حظوته شيئا!
ولكنه وحين راح مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وقد قابلته امرأة بالطريق فوقف إليها ليقضي لها حاجتها، وهنا قال عدي قوله هذا: والله ما هذا بِمَلِكٍ.
ثم راحا إلى بيته صلى الله عليه وسلم، وقد جلس على الأرض مفترشها، وحين أعطى عديًّا وسادة محشوة ليفًا، ومن بعد محاولات ليصر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس عليها عدي، وأما هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيفترش الأرض! وحينها قال قوله أيضا: والله ما هذا بملك.
المسألة السابعة:
(يا عدي: ألم تك نصرانيًّا ركوسيًّا مرباعًا؟!)
وكأنه صلى الله عليه وسلم كان عالِمًا بتاريخ هذا عدي، وحين قرره بتاريخه الذي كان فيه نصرانيًّا مرباعًا ركوسيًّا.
وأما النصرانية فمعروفة، وحين قد كانت هي الحنيفية قبل التبديل، ولما كانت هي الإسلام قبل التغيير!
ولكن الله تعالى لم يرسل وجهين: وجها يوحد، وآخر يثلث، وهذا في حق ربنا ليس يجوز!
ولكن الناس يعرفون الحق، وكما يعرفون أبناءهم، ولأن الله تعالى قال ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:146].
وأما المرباع فهو ذاك الذي كان يأخذ ربع الغنيمة من غنائم الحرب، وهذا المرباع وقد كان حرامًا في دين عدي، وبنص قوله صلى الله عليه وسلم، وحين وافقه عدي على ذلك.
وأما الرَّكُوسِيَّةُ فهم قوم لهم دين بين النصارى والصابئين[1].
وفي كل مرة يقر عدي كلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم!
* * *
المسألة الثامنة:
(أسباب صد ودلالات فتح)
ثم أخذ يعدد له النبي صلى الله عليه وسلم أسباب منعه من الدخول في الإسلام:
أولًا: الفقر والحاجة والعوز: وهذه حلها أنه المال سيفيض يوما على هذه الأمة، وليأتين عليها يوم لا تجد من يأخذ هذا المال، من كثرته!
وأما متى هذا اليوم؟ فالله تعالى به أعلم، وإن قيل إنه عند نزول هذا النبي عيسى عليه السلام، آخر الزمان.
ثانيًا: قلة أعداد العصبة المؤمنة: وكثرة أعداد عدوهم، وهذه جوابها أن سيحل الأمن، وحتى تخرج الظعينة، وهي المرأة من بيتها من القادسية، وحتى تطوف بالبيت لا يتعرض لها من أحد!
ثالثًا: وإنه يرى الملك والسلطان في غيرهم: وهذه مآلها وأنه سيسمع يوما أن قصور بابل قد فتحت أمام المسلمين!
ومن إثرها أسلم عديٌّ.
ثم أقسم أنه رأى اثنتين، ومن خروج الظعينة من القادسية إلى البيت، ولا تخشى إلا الله تعالى، وأما الثانية فقد رأى قصور بابل، وقد فتحها المسلمون، وإن هو إلا منتظر الثالثة يقينًا يقينًا.
وأقول: وسائر الذي سبق أعلام نبوة كاملة الأركان، وموجب إسلام لرائيها، وتحسم إسلاما لمن سمع!
وأقول أيضًا: وسبحان مقلب القلوب، وحين كان هذا النبي أبغض من سمعت أذنًا عدي هذا له ذكرًا، وإذ هو الآن أحب من سمعت بالآفاق له سمعًا وذكرًا!
ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام ابن إسحاق رحمه الله تعالى عن عدي بن حاتم كان يقول: ما رجل من العرب كان أشد كراهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرءًا شريفًا وكنت نصرانيًّا، وكنت أسير في قومي بالمرباع، وكنت في نفسي على دين، وكنت ملكًا في قومي لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي، وكان راعيًّا لإبلي: لا أبا لك، أعدد لي من إبلي أجمالًا ذللًا سمانًا، فاحتبسها قريبًا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد، فآذني ففعل، ثم إنه أتاني ذات غداة، فقال: يا عدي ما كنت صانعًا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها فقالوا هذه جيوش محمد، قال: قلت فقرب إليَّ أجمالي فقربها فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الحوشية وخلفت بنتًا لحاتم في الحاضر، فلما قدمت الشام أقمت بها، فتخالفتني خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصيبت ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طيء، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام قال: فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس بها فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقامت إليه وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد، فامنُن عليَّ منَّ الله عليك، قال: ومن وافدك قالت عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله، قالت ثم مضى وتركني حتى إذا كان الغد مرَّ بي فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس، قالت: حتى إذا كان بعد الغد مرَّ بي وقد يئست، فأشار إليَّ رجل خلفه أن قومي فكلِّميه، قالت: فقمت إليه فقلت يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد فامنُن عليَّ منَّ الله عليك، فقال صلى الله عليه وسلم: قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك، ثم آذنيني فسألت عن الرجل الذي أشار إليَّ أن كلميه فقيل لي علي بن أبي طالب، قالت: فقمت حتى قدم من بلى أو قضاعة، قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئت فقلت يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت فكساني وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي فنظرت إلى ظعينة تصوب إلى قومنا، قال: فقلت ابنة حاتم، قال: فإذا هي هي، فلما وقفت علي استحلت تقول القاطع الظالم احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك عورتك، قال: قلت أي أخية، لا تقولي إلا خيرًا، فوالله مالي من عذر لقد صنعت ما ذكرت قال: ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل قالت: أرى والله أن تلحق به سريعًا، فإن يكن الرجل نبيًّا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكًا فلن تزل في عز اليمن وأنت أنت، قال: قلت والله إن هذا الرأي قال فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده فسلمت عليه فقال: من الرجل فقلت عدي بن حاتم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه؛ إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف لها طويلًا تكلمه في حاجتها، قال: قلت في نفسي والله ما هذا بملك، قال ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفًا، فقذفها إلي فقال اجلس على هذه، قال: قلت بل أنت فاجلس عليها، قال بل أنت فجلست وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض قال قلت في نفسي، والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال إيه يا عدي بن حاتم ألم تك ركوسيًّا قال قلت بلى قال أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع، قال قلت بلى، قال فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك، قال: قلت أجل والله قال: وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل، ثم قال لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوِّهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فُتحت عليهم، قال: فأسلمت قال فكان عدي يقول مضت اثنتان وبقيت الثالثة والله لتكونن وقد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت وأيم الله لتكونن الثالثة ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه[2].
* * *
المسألة التاسعة:
(يا عدي بن حاتم ما أفرك؟ أفرك أن يقال: لا إله إلا الله فهل من إله إلا الله، ما أفرك؟ أفرك أن يقال: الله أكبر فهل شيء هو أكبر من الله عز وجل؟)
هذان سؤالان وجِّههما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه، ومن قبل إسلامه، وحين راح إليه صلى الله عليه وسلم، ويوم أن أعانته على ذلك أخته أو عمته، وعلى قولين في ذلك، وإذ كانت محصلة القول أنْ يذهب إلى هذا النبي العربي الأمي الكريم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إن راغبًا، وإن راهبًا، ولأنه قد راح إليه الناس، وليكن عدي من أولاء الذين راحوا، وهو على أي من الوجهين رابح، إن شاء الله تعالى.
وعلى كل حال، فهذا رأي تمثلت به المرأة الحكمة، وإن المرأة لتنطق صوابًا، ولتقول حقًّا.
وقد مر بنا في هذه السيرة النبوية المباركة الكثير من رأي صائب للنساء، وإذ ليس يوم الحديبية عنا بغائب، ويم هاج الناس وماجوا من سبب بنود صلح، كان به أوثق، ومن معية مولاه، ومن رعايته وهداه، وحين كان موقف أم سلمة فيه حاسمًا، وإذ أخذ به هذا النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا موافقًا وجازمًا.
وإذ كان من قبله ذاك موقف خديجة زوج نبينا صلى الله عليه وسلم، ويوم وحيه أول مرة لاختبار أأنه ملك فيغض بصرًا؟ أو أنه شيطان فيلمح طرفًا!
ولعل هذا أيضًا من أسباب الخير وأعوانه، لهذا عدي بن حاتم، وحين يريد الله تعالى لعبد من عبيده الخير، وإنما يسوق إليه من يدفعه إليه دفعًا، ولحكمة يعلمها الله تعالى. ولعل ذلك من أثر ما تركه فيهم أبوهم من مكارم الأخلاق، وإذ كان هو حاتم الطائي، مضرب مثل العرب والعجم في يومه، كرمًا، وبذلًا، وجودًا، وهذا الذي كان دعامة حجتها أيضًا، ولأن والده ولو كان حيا ما كان منه إلا أن راح إلى هذا الدين الحنيف الخالد الإسلام، ومعلنًا إسلامه، ومن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل حال أيضًا، فإن هذا عديًّا كان عونًا بأخته أو بعمته - ولا يمنع كلتاهما - أن تسوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحين يسمع الخير بأذنيه، لا نقلًا عن أحد، وحين رأى هذا النبي بعينيه، وحينها تتغير الملامح، وتتبدل القناعات، ويراجع العبد نفسه، وحين يرى أمارات الهدى والنور، ومتبدية على وجنتيه وأساريره، داعية الخير والهدى والصلاح.
وهذا أيضًا ما نفيده أن يكون عليه أصحاب الدعوات من حجة، وما يجب أن يكونوا عليه من برهان، وإنما حجتهم الأولى هو بدو أمارات الصلاح عليهم، وإنما كان برهانهم هو ظهور دلالات العلم أعلاهم.
* * *
المسألة العاشرة:
الجليس الصالح وأثره الإيجابي والجليس السوء وعمله السلبي:
ولسنا نغادر مكاننا هذا إلا بيان فارق قد كان عظيمًا بين هذه عمة عدي هذا، أو أخته، فإن ذلك ليس مهما ها هنا، وبقدر أهمية عمل جليس الصالح في العبد، وإما أن يحذيه، وإما أن يبتاع منه، وإما أن يجد منه ريحًا طيبة، والعكس بالعكس أيضًا، ولأن نافخ الكير، وإما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة.
فعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد؛ لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك، أو تجد منه ريحًا خبيثة[3].
* * *
يتبع
محمد السيد حسن محمد
يمثل إسلام عدي بن حاتم الطائي حجةً بالغة على كل أحد، وبرهانًا دامغًا يعلو كل ناصية، ولأن الناس يومهم هذا كانوا إلى دين سيدنا النبي عيسى عليه السلام أقرب، وإلى تعاليمه أفهم، وحتى ولو لم يكن العهد الجديد قد كتب إلا من بعد مائتين وخمسين عامًا، أو ثلاث مائة عام من بعثته، ومن ثم من نزول آيات الإنجيل عليه - عليه السلام - وإذ لا يزال نورها لم يحجب، وإذ لا يزال برهانها لم يطم، ومن كثرة ما توارد عليها الأغيار تبديلًا وتغييرًا وتعديلًا!
ومن طرف: نحن نريد أن نسأل: هذا كتاب كتبه الناس بعد رحيل صاحبه بثلاثمائة سنة! وليس يوجد من تابعيه أحد! وها هم قد ماتوا أيضًا، وها هم يحال عدم نسيانهم حال طول عمر أحدهم! ومنه أيعقل أن يكون هذا الكتاب هو هو كما أنزل؟!
ومنه فإن إسلام عدي وغيره من أهل الكتاب، وقد كان من الشهرة وسط قومه بمكان، ليعد برهانًا على صدق رسالتنا، ويحسب دليلا على بطلان محاجتنا، ومناصبتنا، ومعاداتنا، وإذ نحن أصحاب الحق الأصيل في دعوة الناس بالحسنى والبرهان، وكيما نعبد الله تعالى الكريم ذي العظمة والملكوت والجبروت والسلطان، وهذا الذي قال الله تعالى عنه: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران:64].
وأعالجه في عشرين مسألة:
المسألة الأولى:
(أسلمت إذ كفروا، وأقبلت إذ أدبروا، ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا).
هذا قول عمر الفاروق لعدي بن حاتم الطائي رضي الله تعالى عنهما، وهو قول مفسر نفسه بنفسه، وزيادة قول لي ربما ألحقت به فسادًا، ولربما أيس منه كلام من مثلنا!
ولكن هذا عديًّا بن حاتم الطائي، وكان نصرانيًّا، وإذ كان من شأنه أنه هرب، ولما سمع بجيش نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد زحفوا قربًا منه، ولما كان قد اتخذ أهبة من عيره فأخذها، واستل نفسه هاربًا إلى الشام، وعند أهل منعته من النصارى هناك! وإذ ليس يدري المسكين أن الله ربه سيسوقه سوقًا إلى الهدى والنور والسلام والسرور والصلاح والفلاح والحبور!
ويكأن الله تعالى يقدر بلطفه أقدارًا، ولو وقف العبد عندها متأملًا قليل تأمل، ولربما أخذته رعدة من إعجاز ما خلق الله تعالى وقدر وقضى بلطفه وبقدرته ومن إرادته، بل تملكه إخبات، وبأن ما قضى الله تعالى، إن هو إلا لحكمة، وما قدره تعالى، إن هو إلا بلطف، ويكأننا لا نقف كثيرًا عند تعليل ما نرى، ولأن ما نراه كثيرًا ما يكون فوق إدراكنا، فلسنا نسبر غوره، وإذ إنه أعلى من طاقاتنا، وإذ نحن لا نطيق حمله!
وهذا مناسبة أنه راح وترك أخته سفانة بنت حاتم الطائي! وهذا مربض الفرس، إذ ولما كان أبوهما مشتهرًا هكذا بمكارم الأخلاق، وقد عرف هذا قبائل العرب وغيرهم، وصغيرهم قبل كبيرهم، ونساؤهم قبل رجالهم، وحين يترك أخته سفانة الحازمة الجزلة، ومهما يكن من أمر فإنها امرأة! وليهرب هو، فإن هذا الذي لا يمكن تصوره، ومن ذرية حاتم الطائي، ذاك الأشم الكريم كثير الرماد!
ولكنه وعند التأمل قليلًا، وكما أنف، كانت سببًا في هدايته، وكانت موجب مراجعته، وحين قد استفتاها رأيها الجزل في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن هذه سفانة، ولما وقعت في الأسر مع الأسارى، وكانت من طبيعتها أنفتها، إلا أن تأبى ذلكم موقفًا حرجًا! ويمر عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ تكلمه بأدب امرأة خلوق، وبنت رجل كان خلوقًا، وهذا الذي يقف العبد عنده، وإذ ينبغي على الذرية أن تحفظ لوالدها حقه، فلا يبدون إلا بمظهر الكاشف للب كان نقيًّا نظيفًا، وألا يظهرون إلا بهدي كان ناصعًا رقيقًا.
وإذ تناديه صلى الله عليه وسلم، بصفته الرسول النبي صلى الله عليه وسلم، لا باسمه، وكما قد فعل أشج عبد القيس من قبل، وحين ناداه أن: يا محمد!
قالت سفانة: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنُن عليَّ مَنَّ الله عليك.
وهكذا ثلاثة أيام متتالية، ونفس كلامها الآنف، ونفس جوابه صلى الله عليه وسلم أيضا، وحين قال: ومن وافدك؟ وحين تخبره أنه عدي بن حاتم الطائي، ذلك الفار من الله ورسوله! وإذ من يفر من الله تعالى إلا إليه؟! ولكنها هكذا نفوس، وجد صنفها، ويكأنها قرائح، وكان في الوجود مثلها!
ولكن الله تعالى له سننه، وحين قد فر كعب بن مالك وصاحباه، وحين نزل فيهم قرآن كريم يتلى إلى يوم الدين، وحين قال الله تعالى ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة:118].
وهذا في عقد المؤمن أبدًا، وهذا الذي فات فريقا من الناس، ولو من وجه، وإذ كان مثله كعب وصاحباه معه، وهذا الذي معنا الآن عدي بن حاتم أيضًا.
وليعلم الناس أن الكل في قبضة الله تعالى وقدره وقضائه ومشيئته، ﴿ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم:39].
ولكن لطف هذا النبي العربي الأمي الكريم صلى الله عليه وسلم، وحين أعتقها؛ ولرصيد والدها الجميل، ولإرثه النبيل، وحين قال صلى الله عليه وسلم: أطلقوا سراحها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق!
ولكن الذي نقف عنده تأملًا، هو ذلكم المشهد الإسلامي الناصع بياضًا، وحين يكتب سجل الفارين، وليس ينظر من كونهم مسلمين، أو غير مسلمين، بل ولعله يكون في مسلم أعلى رتبة؛ ولتأديب الصف المسلم، وتمحيصه، وتنقيته، وتربيته.
* * *
المسألة الثانية:
﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء:9].
وهذا الذي نقف عنده أيضًا، وحين يعمل العبد، وأن كان سويًّا مستقيماً؛ ليكون ذا ذكر حسن، وينفع نفسه وأهله من بعده أيضًا، وهذا الذي رأيناه الآن، وكيف كان موجب إطلاق سراح سفانة هو أبوها، وكيف كان ذلك سببا لعتقها هو والدها، وهذا الجانب الأهم في المسألة.
وقرآننا كان أسبق في تسجيل هذه الحيثية، وكيما تكون جوهرة فريدة، وقلادة تليدة، وحين قال الله تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء:9].
* * *
المسألة الثالثة:
(من صلاحيات الإمام):
وكما أن فيه صلاحيات الإمام الأعلى للأمة، وأن يعفو من محله، وأن يعتق من سلطانه، وأن يمنح من عفوه، وأن يمن من جوده، وأن يبذل من فضله.
وهذا الذي حدث، ويوم أن أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم، وحين قال صلى الله عليه وسلم لها: قد فعلت، فلا تعجلي بخروج، حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة، حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني.
ومن ثم وهي تقول: يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكساني وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
* * *
المسألة الرابعة:
(من ثمرات عفو الإمام)
ولتأتي مرحلة حاسمة فاصلة، وحين لامت أخاها؛ وأن تركها، وبما لم يجد إلا طأطأة رأسه؛ خجلًا منها وحياءً، وأن نعم فعل عدي هذا!
ولكننا لسنا نغادر مكاننا هذا، وإلا أن نشير إلى إحسان هذا النبي هكذا، وهو مما يحمل بين جنبات نفسه من عطاء، ومنح، وفضل، ولا مَنَّ به ولا أذى، خلقًا وهديًا حسنًا.
* * *
المسألة الخامسة:
(الاعتذار من شيم النبلاء)
وسبق وأن وقفنا على حكمة، وها قد حل أوانها، وحين قدم بين يديها اعتذارا لتقبله، وهما ابنا حاتم الطائي، ذي مكارم الأخلاق! وحين قال: قلت: أي أخية لا تقولي إلا خيرًا، فوالله مالي من عذر، لقد صنعت ما ذكرتِ.
قال: ثم نزلت فأقامت عندي. فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعًا، فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكًا فلن تزل في عز اليمن وأنت أنت. قال: قلت: والله إن هذا الرأي.
وهذا الذي نفيده من صبر على الحدث ومتابعته، ولعله يحمل من بين نبضاته ما كان ذا حكمة، علمها الله تعالى، ولما تتبدى واضحة ظاهرة من أمامنا يومًا ما.
* * *
المسألة السادسة:
(والله ما هذا بِمَلِكٍ)
هذا قسم أقسمه عدي بن حاتم الطائي، وحين قد أقنعته أخته الذهاب إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أسلم فهذا خير، وإن كان ملكًا فعله أن ينال من حظوته شيئا!
ولكنه وحين راح مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، وقد قابلته امرأة بالطريق فوقف إليها ليقضي لها حاجتها، وهنا قال عدي قوله هذا: والله ما هذا بِمَلِكٍ.
ثم راحا إلى بيته صلى الله عليه وسلم، وقد جلس على الأرض مفترشها، وحين أعطى عديًّا وسادة محشوة ليفًا، ومن بعد محاولات ليصر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس عليها عدي، وأما هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيفترش الأرض! وحينها قال قوله أيضا: والله ما هذا بملك.
المسألة السابعة:
(يا عدي: ألم تك نصرانيًّا ركوسيًّا مرباعًا؟!)
وكأنه صلى الله عليه وسلم كان عالِمًا بتاريخ هذا عدي، وحين قرره بتاريخه الذي كان فيه نصرانيًّا مرباعًا ركوسيًّا.
وأما النصرانية فمعروفة، وحين قد كانت هي الحنيفية قبل التبديل، ولما كانت هي الإسلام قبل التغيير!
ولكن الله تعالى لم يرسل وجهين: وجها يوحد، وآخر يثلث، وهذا في حق ربنا ليس يجوز!
ولكن الناس يعرفون الحق، وكما يعرفون أبناءهم، ولأن الله تعالى قال ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:146].
وأما المرباع فهو ذاك الذي كان يأخذ ربع الغنيمة من غنائم الحرب، وهذا المرباع وقد كان حرامًا في دين عدي، وبنص قوله صلى الله عليه وسلم، وحين وافقه عدي على ذلك.
وأما الرَّكُوسِيَّةُ فهم قوم لهم دين بين النصارى والصابئين[1].
وفي كل مرة يقر عدي كلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم!
* * *
المسألة الثامنة:
(أسباب صد ودلالات فتح)
ثم أخذ يعدد له النبي صلى الله عليه وسلم أسباب منعه من الدخول في الإسلام:
أولًا: الفقر والحاجة والعوز: وهذه حلها أنه المال سيفيض يوما على هذه الأمة، وليأتين عليها يوم لا تجد من يأخذ هذا المال، من كثرته!
وأما متى هذا اليوم؟ فالله تعالى به أعلم، وإن قيل إنه عند نزول هذا النبي عيسى عليه السلام، آخر الزمان.
ثانيًا: قلة أعداد العصبة المؤمنة: وكثرة أعداد عدوهم، وهذه جوابها أن سيحل الأمن، وحتى تخرج الظعينة، وهي المرأة من بيتها من القادسية، وحتى تطوف بالبيت لا يتعرض لها من أحد!
ثالثًا: وإنه يرى الملك والسلطان في غيرهم: وهذه مآلها وأنه سيسمع يوما أن قصور بابل قد فتحت أمام المسلمين!
ومن إثرها أسلم عديٌّ.
ثم أقسم أنه رأى اثنتين، ومن خروج الظعينة من القادسية إلى البيت، ولا تخشى إلا الله تعالى، وأما الثانية فقد رأى قصور بابل، وقد فتحها المسلمون، وإن هو إلا منتظر الثالثة يقينًا يقينًا.
وأقول: وسائر الذي سبق أعلام نبوة كاملة الأركان، وموجب إسلام لرائيها، وتحسم إسلاما لمن سمع!
وأقول أيضًا: وسبحان مقلب القلوب، وحين كان هذا النبي أبغض من سمعت أذنًا عدي هذا له ذكرًا، وإذ هو الآن أحب من سمعت بالآفاق له سمعًا وذكرًا!
ودلك على صحة مذهبنا هذا ما رواه الإمام ابن إسحاق رحمه الله تعالى عن عدي بن حاتم كان يقول: ما رجل من العرب كان أشد كراهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرءًا شريفًا وكنت نصرانيًّا، وكنت أسير في قومي بالمرباع، وكنت في نفسي على دين، وكنت ملكًا في قومي لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي، وكان راعيًّا لإبلي: لا أبا لك، أعدد لي من إبلي أجمالًا ذللًا سمانًا، فاحتبسها قريبًا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد، فآذني ففعل، ثم إنه أتاني ذات غداة، فقال: يا عدي ما كنت صانعًا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها فقالوا هذه جيوش محمد، قال: قلت فقرب إليَّ أجمالي فقربها فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الحوشية وخلفت بنتًا لحاتم في الحاضر، فلما قدمت الشام أقمت بها، فتخالفتني خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصيبت ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طيء، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام قال: فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس بها فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقامت إليه وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد، فامنُن عليَّ منَّ الله عليك، قال: ومن وافدك قالت عدي بن حاتم، قال: الفار من الله ورسوله، قالت ثم مضى وتركني حتى إذا كان الغد مرَّ بي فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس، قالت: حتى إذا كان بعد الغد مرَّ بي وقد يئست، فأشار إليَّ رجل خلفه أن قومي فكلِّميه، قالت: فقمت إليه فقلت يا رسول الله، هلك الوالد وغاب الوافد فامنُن عليَّ منَّ الله عليك، فقال صلى الله عليه وسلم: قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك، ثم آذنيني فسألت عن الرجل الذي أشار إليَّ أن كلميه فقيل لي علي بن أبي طالب، قالت: فقمت حتى قدم من بلى أو قضاعة، قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئت فقلت يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت فكساني وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي فنظرت إلى ظعينة تصوب إلى قومنا، قال: فقلت ابنة حاتم، قال: فإذا هي هي، فلما وقفت علي استحلت تقول القاطع الظالم احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك عورتك، قال: قلت أي أخية، لا تقولي إلا خيرًا، فوالله مالي من عذر لقد صنعت ما ذكرت قال: ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل قالت: أرى والله أن تلحق به سريعًا، فإن يكن الرجل نبيًّا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكًا فلن تزل في عز اليمن وأنت أنت، قال: قلت والله إن هذا الرأي قال فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده فسلمت عليه فقال: من الرجل فقلت عدي بن حاتم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه؛ إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته فوقف لها طويلًا تكلمه في حاجتها، قال: قلت في نفسي والله ما هذا بملك، قال ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفًا، فقذفها إلي فقال اجلس على هذه، قال: قلت بل أنت فاجلس عليها، قال بل أنت فجلست وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض قال قلت في نفسي، والله ما هذا بأمر ملك، ثم قال إيه يا عدي بن حاتم ألم تك ركوسيًّا قال قلت بلى قال أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع، قال قلت بلى، قال فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك، قال: قلت أجل والله قال: وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل، ثم قال لعلك يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوِّهم وقلة عددهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فُتحت عليهم، قال: فأسلمت قال فكان عدي يقول مضت اثنتان وبقيت الثالثة والله لتكونن وقد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت ورأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحج هذا البيت وأيم الله لتكونن الثالثة ليفيض المال حتى لا يوجد من يأخذه[2].
* * *
المسألة التاسعة:
(يا عدي بن حاتم ما أفرك؟ أفرك أن يقال: لا إله إلا الله فهل من إله إلا الله، ما أفرك؟ أفرك أن يقال: الله أكبر فهل شيء هو أكبر من الله عز وجل؟)
هذان سؤالان وجِّههما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه، ومن قبل إسلامه، وحين راح إليه صلى الله عليه وسلم، ويوم أن أعانته على ذلك أخته أو عمته، وعلى قولين في ذلك، وإذ كانت محصلة القول أنْ يذهب إلى هذا النبي العربي الأمي الكريم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إن راغبًا، وإن راهبًا، ولأنه قد راح إليه الناس، وليكن عدي من أولاء الذين راحوا، وهو على أي من الوجهين رابح، إن شاء الله تعالى.
وعلى كل حال، فهذا رأي تمثلت به المرأة الحكمة، وإن المرأة لتنطق صوابًا، ولتقول حقًّا.
وقد مر بنا في هذه السيرة النبوية المباركة الكثير من رأي صائب للنساء، وإذ ليس يوم الحديبية عنا بغائب، ويم هاج الناس وماجوا من سبب بنود صلح، كان به أوثق، ومن معية مولاه، ومن رعايته وهداه، وحين كان موقف أم سلمة فيه حاسمًا، وإذ أخذ به هذا النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا موافقًا وجازمًا.
وإذ كان من قبله ذاك موقف خديجة زوج نبينا صلى الله عليه وسلم، ويوم وحيه أول مرة لاختبار أأنه ملك فيغض بصرًا؟ أو أنه شيطان فيلمح طرفًا!
ولعل هذا أيضًا من أسباب الخير وأعوانه، لهذا عدي بن حاتم، وحين يريد الله تعالى لعبد من عبيده الخير، وإنما يسوق إليه من يدفعه إليه دفعًا، ولحكمة يعلمها الله تعالى. ولعل ذلك من أثر ما تركه فيهم أبوهم من مكارم الأخلاق، وإذ كان هو حاتم الطائي، مضرب مثل العرب والعجم في يومه، كرمًا، وبذلًا، وجودًا، وهذا الذي كان دعامة حجتها أيضًا، ولأن والده ولو كان حيا ما كان منه إلا أن راح إلى هذا الدين الحنيف الخالد الإسلام، ومعلنًا إسلامه، ومن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل حال أيضًا، فإن هذا عديًّا كان عونًا بأخته أو بعمته - ولا يمنع كلتاهما - أن تسوقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحين يسمع الخير بأذنيه، لا نقلًا عن أحد، وحين رأى هذا النبي بعينيه، وحينها تتغير الملامح، وتتبدل القناعات، ويراجع العبد نفسه، وحين يرى أمارات الهدى والنور، ومتبدية على وجنتيه وأساريره، داعية الخير والهدى والصلاح.
وهذا أيضًا ما نفيده أن يكون عليه أصحاب الدعوات من حجة، وما يجب أن يكونوا عليه من برهان، وإنما حجتهم الأولى هو بدو أمارات الصلاح عليهم، وإنما كان برهانهم هو ظهور دلالات العلم أعلاهم.
* * *
المسألة العاشرة:
الجليس الصالح وأثره الإيجابي والجليس السوء وعمله السلبي:
ولسنا نغادر مكاننا هذا إلا بيان فارق قد كان عظيمًا بين هذه عمة عدي هذا، أو أخته، فإن ذلك ليس مهما ها هنا، وبقدر أهمية عمل جليس الصالح في العبد، وإما أن يحذيه، وإما أن يبتاع منه، وإما أن يجد منه ريحًا طيبة، والعكس بالعكس أيضًا، ولأن نافخ الكير، وإما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة.
فعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد؛ لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك، أو تجد منه ريحًا خبيثة[3].
* * *
يتبع