Şøķåŕą
05-18-2022, 09:43 PM
تعاقبت الأزمات والابتلاءات والمحن التي أصابت الأمة الإسلامية والبشرية جمعاء عبر الزمن، ونزلت بالناس صنوف شتى من الابتلاءات والطواعين، والمجاعات والفيضانات، والزلازل والجفاف، وغير ذلك، ولعل أكثرها فتكًا كان وباء "الطاعون" الذي انتشر أكثر من مرة.
وقد قدم المؤرخون صورًا متنوعة عن تلك الأوبئة وآثارها وعواقبها في سائر أرجاء الأرض؛ مثل: المقريزي، وابن كثير، وابن بطوطة، وابن عذارى المراكشي.
وفي هذه الأيام يشغل بال الناس الوباء العالمي المسمى بفيروس (كورونا كوفيد 19)، الذي تسبب بعدد كبير من الوفَيَات، بالإضافة إلى زرع الخوف والذعر بين الناس، ولما كان هذا النوع من الأوبئة من قضاء الله وقدره، فإننا - نحن المسلمين - مطالبون بالتعامل معه وفق شريعة الله تعالى ومنهجه.
فكيف ينبغي لنا التعامل معه؟ وما هي الإجراءات الوقائية التي ينبغي علينا اتباعها؟
أولًا: الجوائح والمصائب والابتلاءات قدر من الله تعالى:
هذه حقيقة يقينية ينبغي لنا أن نعتقدها ونستحضرها في ظل هذه الظروف التي نعيشها مع هذا الوباء الفتَّاك، وألَّا ننسى قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51].
فالبلاء واقع بقدر الله تعالى؛ قال جل ثناؤه: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]، فاقتضت حكمة الله تعالى أن تقع في الأرض ويُصاب بها الخلق ابتلاءً وتمحيصًا وتطهيرًا تارة؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142]، وهذا هو حال المؤمن الطائع الصادق، أو عقابًا وردعًا تارة أخرى؛ تماشيًا مع قوله تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40]، وهذا هو حال الجاحد العاصي، والغرض من ذلك كله تمييز الطيب من الخبيث، والمؤمن من الكافر.
ومن سنن الله سبحانه في خلقه ربط الأشياء بأسبابها، فمع أن هذه الأوبئة والجوائح مقدَّرة في الأزل، فإنها تنزل عند وجود أسبابها من كفر وظلم، وفواحش ومنكرات، فتنزل تارة للردع أو التحذير، وتارة للتمييز والتمحيص.
ثانيًا: فقه البلاء عند حلول الوباء:
إن هذه الظروف التي نعيشها، وهذا الوباء الذي حلَّ بنا، نحتاج معه إلى فقه وفهم وعلم، لنثْبُتَ فلا نجزع، ونُؤجر فلا نؤزر، ونربح فلا نخسر، فما أحوجنا إلى فقه البلاء والابتلاء! والبشرية كلها تعاني من هذه الجائحة – التي لم تستثنِ بلدًا أو مجتمعًا بعينه - فلمَ لا نجعل من هذه المحنة منحةً، ومن العسر يسرًا، ومن الضيق سَعَةً، ومن الهم والغم سعادة وسرورًا! وأول درس ينبغي أن نفقهه من هذا الوباء:
الوقوف عند حقيقة هذه الدنيا؛ فهي دار اختبار وابتلاء، فبالأمس القريب كان الناس يملؤون الشوارع والمنتزهات والأسواق مكتظة بمرتاديها، لكن بعد نزول الوباء وحلول البلاء، شُلَّت الحركة، لماذا؟ لأن الدنيا في تقلب دائم وفي تغير مستمر.
ولو سلِم من محن الدنيا وابتلاءاتها إنسان لصلاحه وعلو شأنه وقدره، لكان أولى الناس بذلك الأنبياء والمرسلين، ولكنهم الأسوة والقدوة لكل مصابٍ مبتلًى.
وإذا تأملنا في تاريخ الأمة الإسلامية، ونظرنا كيف تعاملت مع الجوائح والأوبئة، لرأينا أنهم انطلقوا من قوله صلى الله عليه وسلم أثناء حديثه عن وباء الطاعون: ((إذا سمعتم به بأرض فلا تقدُموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه))[1]، إنه الحجر الصحي وهو أنجع وسيلة وتدبير وقائي للحد من انتشار الأوبئة والأمراض المعدية.
وللمسلمين تجارب في تطبيق هذا الحجر الصحي، فعند انتشار طاعون 1798م في المغرب، استطاع المغاربة تطبيقه باتخاذ كافة التدابير الوقائية لعدم دخوله للبلاد، فاستطاعوا تأخير قدومه من الشرق عدة سنوات.
يقول محمد الأمين البزاز: "كان الوباء متفشيًا في الإسكندرية، وفي السنة التالية نقله الحجاج والتجار إلى تونس، ثم من تونس إلى الجزائر... بقي المغرب بمنجًى في الوقت الذي كانت البلدان المجاورة ضحية الطاعون"[2].
وقد عزى محمد البزاز أسباب ذلك إلى فرض حجر صحي، شمل إقامة نطاق عسكري في الحدود الشرقية، مع اتخاذ إجراءات صحية وقائية على الواجهة البحرية، وكذا وقْف جميع المواصلات القارية في الحدود الشرقية[3].
ثالثًا: وسائل الثبات عند نزول البلاء وحلول الوباء:
♦ الإقبال على القرآن الكريم:
هو وسيلة التثبيت الأولى وهو حبل الله المتين والنور المبين، من تمسَّك به، عصمه الله، ومن اتبعه، أنجاه الله، ومن دعا إليه، هُدي إلى صراط مستقيم.
قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32].
فهو مصدر الإيمان والأمان، والأمل والسكينة والسعادة، وله أثر بالغ في تحقيق هذا الأمن النفسي؛ لأنه يخاطب مَلَكَاتٍ خفية في النفس تنفعل مع القرآن، وتُحدث أثرًا بالغًا في النفس؛ بحيث يهز الوجدان ويُجلي البصيرة.
♦ التقرب من الله تعالى والإكثار من العمل الصالح؛ لقوله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27].
وكذلك يكون هذا التقرب عن طريق التعلق بالدعاء في الرخاء حتى يستجيب الله في الشدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء))[4].
♦ التحلي بالصبر:
إن الصبر دليل صريح على إيمان العبد، فهو أداة التمحيص بين المؤمن الصادق الصامد من غيره؛ وصدق الحق سبحانه حينما قال: ﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 93].
والإيمان نصفان: نصفٌ صبرٌ ونصفٌ شكرٌ، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له، فكيف لا والصبر لا يأتي إلا بخير؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ما أُعطيَ أحدٌ قط خيرًا أوسع من الصبر))[5].
وفي الحديث الصحيح: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له))[6].
ولو لم يكن في الصبر إلا معية الله تعالى لأهله وحبه سبحانه لهم لكفى؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، وقال أيضًا: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]، ولقد بشَّر الله تعالى الصابرين بثلاثٍ، كلٌّ منها خير مما عليه أهل الدنيا؛ فقال سبحانه: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أن أكمل الصبر هو الذي يكون مع أول وقوع المصيبة؛ فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))[7].
♦ الثقة بنصر الله تعالى: إن صاحب الثقة بالله تعالى لا يهتز يقينه، ولا يتزعزع إيمانه، حتى في أشد الأوقات وأصعبها؛ لأنه يعلم أن الأمر كله لله تعالى، وأن أشد الأوقات ظلمة يطلع فيها فجر مشرق، وحين تشتد الكربات يقترب الفرج؛ وكما قال عز وجل: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6].
إن هذه الصفة هي دليل على يقين العبد بربه، وحسن الظن به سبحانه، فالمسلم المتيقن هو الذي يتسلح بالتفاؤل والأمل، يعيش الحاضر وعيونه على المستقبل ولو في المحن؛ لأن الظروف الصعبة هي التي تدفعنا لإخراج أفضل ما لدينا، والنظر للمستقبل بأمل وتفكير إيجابي كله تفاؤل وثقة في موعود الله تعالى، وهذا يدفعه إلى العمل بجدٍّ لتحقيق النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة.
إن هذا اليقين بنصر الله كان واضحًا جليًّا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى في أشد اللحظات وأحرج الساعات: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما))، وفي كتابِ الله حكاية عن ذلك؛ قال تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [التوبة: 40][8].
وعكس هذا هو ما يعتقده الجاحد العاصي اليائس المحبَط القانط من رحمةِ الله تعالى؛ وهذا الصنف يصدق فيه قوله سبحانه: ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].
♦ وجوب الأخذ بأسباب الوقاية والعلاج، مع القناعة والاعتقاد بأننا نفر من أقدار الله إلى أقدار الله.
♦ وجوب تجنب أماكن العدوى، والالتزام بقواعد الحجر الصحي التي تحددها الجهات الرسمية؛ لذلك لا ينبغي الخروج من مكان الوباء أو القدوم إليه لكيلا تنتشر دائرة العدوى.
♦ الاعتقاد والتيقن بأن لنا في هذا الوباء والبلاء أجرًا إن نحن صبرنا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون شهادة لكل مسلم))[9]، وإنا نحسب أنَّ مَن مات بهذا الوباء مثل من مات بالطاعون إذا كان المبتلَى ذا نية على الشهادة، وصبر على البلاء، وشكر لله على كل حال.
وأخيرًا فإن التقيد بإرشادات الجهات الرسمية من باب الأخذ بالأسباب من المأمور بها شرعًا؛ لأنها الأكثر معرفة ودراسة تفاصيل المرض وآثاره.
وقد قدم المؤرخون صورًا متنوعة عن تلك الأوبئة وآثارها وعواقبها في سائر أرجاء الأرض؛ مثل: المقريزي، وابن كثير، وابن بطوطة، وابن عذارى المراكشي.
وفي هذه الأيام يشغل بال الناس الوباء العالمي المسمى بفيروس (كورونا كوفيد 19)، الذي تسبب بعدد كبير من الوفَيَات، بالإضافة إلى زرع الخوف والذعر بين الناس، ولما كان هذا النوع من الأوبئة من قضاء الله وقدره، فإننا - نحن المسلمين - مطالبون بالتعامل معه وفق شريعة الله تعالى ومنهجه.
فكيف ينبغي لنا التعامل معه؟ وما هي الإجراءات الوقائية التي ينبغي علينا اتباعها؟
أولًا: الجوائح والمصائب والابتلاءات قدر من الله تعالى:
هذه حقيقة يقينية ينبغي لنا أن نعتقدها ونستحضرها في ظل هذه الظروف التي نعيشها مع هذا الوباء الفتَّاك، وألَّا ننسى قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51].
فالبلاء واقع بقدر الله تعالى؛ قال جل ثناؤه: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22]، فاقتضت حكمة الله تعالى أن تقع في الأرض ويُصاب بها الخلق ابتلاءً وتمحيصًا وتطهيرًا تارة؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142]، وهذا هو حال المؤمن الطائع الصادق، أو عقابًا وردعًا تارة أخرى؛ تماشيًا مع قوله تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40]، وهذا هو حال الجاحد العاصي، والغرض من ذلك كله تمييز الطيب من الخبيث، والمؤمن من الكافر.
ومن سنن الله سبحانه في خلقه ربط الأشياء بأسبابها، فمع أن هذه الأوبئة والجوائح مقدَّرة في الأزل، فإنها تنزل عند وجود أسبابها من كفر وظلم، وفواحش ومنكرات، فتنزل تارة للردع أو التحذير، وتارة للتمييز والتمحيص.
ثانيًا: فقه البلاء عند حلول الوباء:
إن هذه الظروف التي نعيشها، وهذا الوباء الذي حلَّ بنا، نحتاج معه إلى فقه وفهم وعلم، لنثْبُتَ فلا نجزع، ونُؤجر فلا نؤزر، ونربح فلا نخسر، فما أحوجنا إلى فقه البلاء والابتلاء! والبشرية كلها تعاني من هذه الجائحة – التي لم تستثنِ بلدًا أو مجتمعًا بعينه - فلمَ لا نجعل من هذه المحنة منحةً، ومن العسر يسرًا، ومن الضيق سَعَةً، ومن الهم والغم سعادة وسرورًا! وأول درس ينبغي أن نفقهه من هذا الوباء:
الوقوف عند حقيقة هذه الدنيا؛ فهي دار اختبار وابتلاء، فبالأمس القريب كان الناس يملؤون الشوارع والمنتزهات والأسواق مكتظة بمرتاديها، لكن بعد نزول الوباء وحلول البلاء، شُلَّت الحركة، لماذا؟ لأن الدنيا في تقلب دائم وفي تغير مستمر.
ولو سلِم من محن الدنيا وابتلاءاتها إنسان لصلاحه وعلو شأنه وقدره، لكان أولى الناس بذلك الأنبياء والمرسلين، ولكنهم الأسوة والقدوة لكل مصابٍ مبتلًى.
وإذا تأملنا في تاريخ الأمة الإسلامية، ونظرنا كيف تعاملت مع الجوائح والأوبئة، لرأينا أنهم انطلقوا من قوله صلى الله عليه وسلم أثناء حديثه عن وباء الطاعون: ((إذا سمعتم به بأرض فلا تقدُموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه))[1]، إنه الحجر الصحي وهو أنجع وسيلة وتدبير وقائي للحد من انتشار الأوبئة والأمراض المعدية.
وللمسلمين تجارب في تطبيق هذا الحجر الصحي، فعند انتشار طاعون 1798م في المغرب، استطاع المغاربة تطبيقه باتخاذ كافة التدابير الوقائية لعدم دخوله للبلاد، فاستطاعوا تأخير قدومه من الشرق عدة سنوات.
يقول محمد الأمين البزاز: "كان الوباء متفشيًا في الإسكندرية، وفي السنة التالية نقله الحجاج والتجار إلى تونس، ثم من تونس إلى الجزائر... بقي المغرب بمنجًى في الوقت الذي كانت البلدان المجاورة ضحية الطاعون"[2].
وقد عزى محمد البزاز أسباب ذلك إلى فرض حجر صحي، شمل إقامة نطاق عسكري في الحدود الشرقية، مع اتخاذ إجراءات صحية وقائية على الواجهة البحرية، وكذا وقْف جميع المواصلات القارية في الحدود الشرقية[3].
ثالثًا: وسائل الثبات عند نزول البلاء وحلول الوباء:
♦ الإقبال على القرآن الكريم:
هو وسيلة التثبيت الأولى وهو حبل الله المتين والنور المبين، من تمسَّك به، عصمه الله، ومن اتبعه، أنجاه الله، ومن دعا إليه، هُدي إلى صراط مستقيم.
قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ﴾ [الفرقان: 32].
فهو مصدر الإيمان والأمان، والأمل والسكينة والسعادة، وله أثر بالغ في تحقيق هذا الأمن النفسي؛ لأنه يخاطب مَلَكَاتٍ خفية في النفس تنفعل مع القرآن، وتُحدث أثرًا بالغًا في النفس؛ بحيث يهز الوجدان ويُجلي البصيرة.
♦ التقرب من الله تعالى والإكثار من العمل الصالح؛ لقوله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27].
وكذلك يكون هذا التقرب عن طريق التعلق بالدعاء في الرخاء حتى يستجيب الله في الشدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء))[4].
♦ التحلي بالصبر:
إن الصبر دليل صريح على إيمان العبد، فهو أداة التمحيص بين المؤمن الصادق الصامد من غيره؛ وصدق الحق سبحانه حينما قال: ﴿ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 93].
والإيمان نصفان: نصفٌ صبرٌ ونصفٌ شكرٌ، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فلا إيمان لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له، فكيف لا والصبر لا يأتي إلا بخير؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ما أُعطيَ أحدٌ قط خيرًا أوسع من الصبر))[5].
وفي الحديث الصحيح: ((عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له))[6].
ولو لم يكن في الصبر إلا معية الله تعالى لأهله وحبه سبحانه لهم لكفى؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، وقال أيضًا: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]، ولقد بشَّر الله تعالى الصابرين بثلاثٍ، كلٌّ منها خير مما عليه أهل الدنيا؛ فقال سبحانه: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].
وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أن أكمل الصبر هو الذي يكون مع أول وقوع المصيبة؛ فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))[7].
♦ الثقة بنصر الله تعالى: إن صاحب الثقة بالله تعالى لا يهتز يقينه، ولا يتزعزع إيمانه، حتى في أشد الأوقات وأصعبها؛ لأنه يعلم أن الأمر كله لله تعالى، وأن أشد الأوقات ظلمة يطلع فيها فجر مشرق، وحين تشتد الكربات يقترب الفرج؛ وكما قال عز وجل: ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ [الشرح: 5، 6].
إن هذه الصفة هي دليل على يقين العبد بربه، وحسن الظن به سبحانه، فالمسلم المتيقن هو الذي يتسلح بالتفاؤل والأمل، يعيش الحاضر وعيونه على المستقبل ولو في المحن؛ لأن الظروف الصعبة هي التي تدفعنا لإخراج أفضل ما لدينا، والنظر للمستقبل بأمل وتفكير إيجابي كله تفاؤل وثقة في موعود الله تعالى، وهذا يدفعه إلى العمل بجدٍّ لتحقيق النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة.
إن هذا اليقين بنصر الله كان واضحًا جليًّا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى في أشد اللحظات وأحرج الساعات: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما))، وفي كتابِ الله حكاية عن ذلك؛ قال تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا ﴾ [التوبة: 40][8].
وعكس هذا هو ما يعتقده الجاحد العاصي اليائس المحبَط القانط من رحمةِ الله تعالى؛ وهذا الصنف يصدق فيه قوله سبحانه: ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87].
♦ وجوب الأخذ بأسباب الوقاية والعلاج، مع القناعة والاعتقاد بأننا نفر من أقدار الله إلى أقدار الله.
♦ وجوب تجنب أماكن العدوى، والالتزام بقواعد الحجر الصحي التي تحددها الجهات الرسمية؛ لذلك لا ينبغي الخروج من مكان الوباء أو القدوم إليه لكيلا تنتشر دائرة العدوى.
♦ الاعتقاد والتيقن بأن لنا في هذا الوباء والبلاء أجرًا إن نحن صبرنا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون شهادة لكل مسلم))[9]، وإنا نحسب أنَّ مَن مات بهذا الوباء مثل من مات بالطاعون إذا كان المبتلَى ذا نية على الشهادة، وصبر على البلاء، وشكر لله على كل حال.
وأخيرًا فإن التقيد بإرشادات الجهات الرسمية من باب الأخذ بالأسباب من المأمور بها شرعًا؛ لأنها الأكثر معرفة ودراسة تفاصيل المرض وآثاره.