Şøķåŕą
04-03-2022, 04:24 PM
الحديث الموضوع: تعريفُه وصِيَغُه ومَصادِرُه
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
"الحديث الموضوع" باب كبير من أبواب هجر السنة النبوية؛ بل هو أشدُّها على الإطلاق؛ لسهولة التلبيس من خلاله على المسلمين، لا سيما وأنَّ المُسْلِمَ يُحِبُّ حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُقدِّسه ويعظِّمه، فإذا سَمِعَ حديثاً يُنسَب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يتمسَّك به ويحاول تطبيقه في حياته؛ وهو لا يدري أنه موضوع، فيدخل في باب البدع، التي تؤدِّي به إلى الضَّلالة، المُفضِية إلى النار.
وقد تعرَّضت السنة النبوية لاعتداءٍ أثيم، وخطبٍ جسيم، بشرذمةٍ من الوضَّاعين المختلِقين لبعض الأقوال التي أرادوها أحاديث نبوية، ولمَّا كانت السنة النبوية قد وصلت إلى درجةٍ عالية في الكمال والشمول، وخلت أقوالُ النبي صلى الله عليه وسلم وأفعالُه من كلِّ ما يُكدِّر الرسالة أو يُشوِّه الصورة الصافية لمكانة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد أغاظ هذا أعداء الدين من أولئك الذين آمنوا باللسان وكفروا بالقلوب، فدَسُّوا في الخفاء أحاديثَ مكذوبةٍ وضعوها على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، آملين أنْ تَختلط بالثابت عنه، وساعدتهم على الوضع ظروفٌ أحاطت بالأمة الإسلامية في بعض فتراتها؛ من خلافاتٍ سياسية، وجهلٍ بالدين وأهدافه ومراميه، إلى غير ذلك من الظروف التي تراكمت فأوجدت ركاماً من نزيف الأفكار وقيحِها، وألصقت بالرسول صلى الله عليه وسلم زوراً وبهتاناً، فأوجدتْ رَدَّ فِعلٍ من جانب العلماء المسلمين، لكن بعد أن خلَّفت آثاراً سلبية في الأمة، وما زالت تعاني من مخلَّفاتها في العصر الحديث!
وفي هذه الفترة العصيبة والمنعطف التاريخي في حياة الأمة الإسلامية، نادى بعض مَنْ يعيش على أنقاض مُخلَّفات ماضية، تَدْفَعه خلفياتٌ مُعيَّنة إلى ترك السُّنة والاحتجاج بها؛ مُدَّعياً أنَّ فيها الكثيرَ من المصنوع والموضوع، محاولاً التشكيك في سلامتها، وزاد الطين بِلَّة والقلب عِلَّة ما مُنِيَ به المسلمون في هذا العصر من ضعفٍ في الثقافة الدينية الصحيحة عامة، وعِلْمِ أصول الحديث ومصطلِحه خاصة، فاستولت الخُرافةُ الكاذبة، والمذاهبُ الفكرية المُنحرفة على عقول الكثير، فلو عَلِمَ هؤلاء ما قام به علماء الأمة من أدوارٍ خالدة، وجهودٍ جبارة في مقاومة الوضع، وتعريفِ الأمة به، وتحذيرها منه لهان المصاب، ولكنهم جهلوا أو تجاهلوا هذه الجهود، وحاولوا طَمْسَها، والقضاءَ عليها[1].
وقد قيَّض الله تعالى للسنة النبوية مَنْ نافح عنها، وبيَّن إفكَ المرجفين، وتخرُّصات المُتقوِّلين؛ من العلماء المحدِّثين؛ الذين كتبوا المصنَّفات والأسفار الطِّوال، وعن هذه الجهود المباركة قال ابن تيمية رحمه الله: (قَامَ عُلَمَاءُ النَّقْلِ وَالنُّقَّادُ بِعِلْمِ الرِّوَايَةِ وَالإسْنَادِ، فَسَافَرُوا فِي ذَلِكَ إلَى الْبِلادِ، وَهَجَرُوا فِيهِ لَذِيذَ الرُّقَادِ، وَفَارَقُوا الأمْوَالَ وَالأولادَ، وَأَنْفَقُوا فِيهِ الطَّارِفَ وَالتِّلادَ، وَصَبَرُوا فِيهِ عَلَى النَّوَائِبِ، وَقَنَعُوا مِنْ الدُّنْيَا بِزَادِ الرَّاكِبِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَالْقِصَصِ الْمَأْثُورَةِ، مَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَعْلُومٌ، وَلِمَنْ طَلَبَ مَعْرِفَتَهُ مَعْرُوفٌ مَرْسُومٌ، بِتَوَسُّدِ أَحَدِهِمْ التُّرَابَ، وَتَرْكِهِمْ لَذِيذَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَتَرْكِ مُعَاشَرَةِ الأهْلِ وَالأصْحَابِ، وَالتَّصَبُّرِ عَلَى مَرَارَةِ الاغْتِرَابِ، وَمُقَاسَاةِ الأهْوَالِ الصِّعَابِ، أَمْرٌ حَبَّبَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ وَحَلاَّهُ؛ لِيَحْفَظَ بِذَلِكَ دِينَ اللَّهِ، كَمَا جَعَلَ الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، يَقْصِدُونَهُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَيَتَحَمَّلُونَ فِيهِ أُمُورًا مُؤْلِمَةً تَحْصُلُ فِي الطَّرِيقِ، وَكَمَا حُبِّبَ إلَى أَهْلِ الْقِتَالِ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ حِكْمَةً مِنْ اللَّهِ يَحْفَظُ بِهَا الدِّينَ؛ لِيَهْدِيَ الْمُهْتَدِينَ، وَيُظْهِرَ بِهِ الْهُدَى وَدِينَ الْحَقِّ، الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[2].
وقال الشوكاني رحمه الله: (أكثَرَ العلماءُ - رحمهم الله - من البيان للأحاديث الموضوعة، وهتكوا أستار الكذَّابين، ونفوا عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم انتحال المبطلين، وتحريف الغالين، وافتراء المفترين، وزور المُزَوِّرين)[3].
ومِمَّا يؤكِّد وجوب استمرار الجهود المتلاحقة في هذا الميدان أنَّ الموضوع من الحديث لا يزال له وجود ظاهر؛ في الوعظ والخطابة والإرشاد، وله وجود أيضاً في الأحاديث والندوات والمؤتمرات التي تُذاع في الإعلام بشتى طرائقه؛ يتأثر به الملايين من الناس، فيساعد ذلك كله في نشر "الموضوع المكذوب" على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى المؤلَّفات التي تؤلَّف في مختلف العلوم الشرعية، لا تزال تَزْخَرُ بالأحاديث الموضوعة[4].
والوضع في الحديث أخطر بكثير من الفِرق والمذاهب التي تفشَّت؛ فالمسلم يُمكنه التمييز بين الفِرق، كما أنه ليس في مقدور كلِّ هذه الفِرق إيصال دعوتها إلى أفراد المسلمين، بينما "الحديث الموضوع" مع جهل المسلم بوضعه، وإيمانه بضرورة متابعة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في سُنَّته، يتأثَّر به ويظن أنه بذلك يتعبَّد الله تعالى ويتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو مكمن الخطر من تفشِّي وانتشار "الحديث الموضوع" في الأمة.
تعريف "الحديث الموضوع":
الموضوع لغة: الموضوع: اسم مفعول من وضع الشيء يَضَعَه - بالفتح - وضعاً، وتأتي مادة (وضع) في اللغة لمعاني عدة منها: الإسقاط، الترك، الافتراء والإلصاق[5]. وجاء في اللسان: (والضَّعةُ والضِّعةُ خِلاف الرِّفْعةِ في القَدْرِ، ورجلٌ وَضِيعٌ صار وَضِيعاً فهو وَضِيعٌ، وهو ضِدُّ الشريف، ووَضَعَ منه فلانٌ، أَي: حَطَّ مِنْ درَجتِه، والوَضِيعُ: الدَّنِيءُ من الناس)[6].
الموضوع اصطلاحاً: قال ابن الصلاح رحمه الله: (هو المُخْتَلَقُ المَصْنُوعُ)[7]. وقيل: هو ما نُسِبَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم اختلاقاً وكذباً؛ مِمَّا لم يقله، أو يفعله، أو يُقِرُّه[8].
صِيَغُ الحديث الموضوع:
قال الذهبي رحمه الله – في مراتب الحديث الموضوع وصِيغِه: (وهو مراتب: منه: ما اتفقوا على أنه كَذِب. ويُعرَفُ ذلك بإقرار واضعِه، وبتجربةِ الكذبِ منه، ونحوِ ذلك. ومنه: ما الأكثرون على أنه موضوع، والآخَرُون يقولون: هو حديثٌ ساقطٌ مطروح، ولا نَجسُرُ أن نُسمَّيَه موضوعاً. ومنه: ما الجمهورُ على وَهْنِه وسُقوطِه، والبعضُ على أنه كذِب)[9]. وللعلماء عبارات متعددة للتعريف بالأحاديث الموضوعة، ومنها[10]:
1- التصريح بوضعه، فيقولون: (موضوع)، (باطل)، (كذب).
2- قولهم: (لا أصل له)، (لا أصل له بهذا اللفظ)، (ليس له أصل).
3- قولهم: (لا يصح)، (لا يثبت)، (لم يصح في هذا الباب شيء).
4- قولهم: (لا إسناد له)، (ليس حديثاً)، (ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم)، (لم أقف عليه).
(فإنْ سألتَ: عن الحكمة من وراء اختلافهم في تعداد هذه الدرجات، مع أنها جميعاً في الدَّرك الأسفل من الحديث الهابط؟ فالجواب: أنَّ هذا يدل على مدى إنصافهم في إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ولو كان الكلُّ ساقطاً، فذلك من العدل الذي أُمِر به المسلمون، والعلماء أَولى به من غيرهم، ففاوتوا بين الدرجات، وإنْ كانت في السيئات)[11].
مصادر الحديث الموضوع:
للحديث الموضوع عدة مصادر وطرق، ومن أهمِّها:
1- أنْ يخترعه الواضع من تلقاء نفسه، ثم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويُعرف ذلك: إمَّا بإقراره، أو ما يُنَزَّل منزلة الإقرار: كأن يدعو الحديثُ إلى مبدأٍ يدعو إليه الوَضَّاع، أو تدل على ذلك قرائن الأحوال، ومن القرينة في الراوي: أنْ يكون مبتدعاً؛ كالرافضة، والزنادقة، ومَنْ لفَّ لفيفهم من الكيد للإسلام، والحقد على المسلمين. ومن القرينة في المروي: ما وضعه علماء الحديث من قواعد، ومن ذلك، قولهم: إذا رأيتَ الحديثَ يُباين المعقول، أو يُخالف الصحيح من المنقول، أو يُناقض الأصول؛ فاعلم أنه موضوع[12].
2- أنْ يأخذ الواضِعُ كلام غيره فينسبه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويكون الموضوع إمَّا من كلام الصحابة، أو من كلام التابعين، أو بعض قدماء الحكماء، أو غيرهم[13].
3- أنْ يَهِمَ الراوي فينسب كلامَ الغيرِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن غيرِ قصدٍ وتعمدٍ للوضع؛ مثل: (مَنْ كثرت صلاته في الليل حَسُنَ وجهه في النهار)[14]، ولذا عدَّه بعضُهم في حُكم المدرج[15].
بداية الوضع في الحديث:
ترجع بدايات الوضع في الحديث النبوي بحدوث الفتنة التي أدَّت إلى مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد دخل أصحاب الأهواء عبر ذلك التَّفرُّق والاختلاف إلى الكذب في الحديث؛ لتأييد أهوائهم، ولقد كان للصحابة والتابعين وتابعيهم جهود عظيمة في مقاومة الوضع، عن طريقين:
الأول: الإنكار على الوضَّاعين، والتحرُّج من الرواية عن كلِّ أحد يزعم أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: الرواية عن المُسندين الثقات الحفَّاظ.
ومما يدل على العناية بالإسناد؛ لحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: (إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ)[16].
2- وعَنه أيضاً قال: (لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ)[17].
3- وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: (الإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، وَلَوْلاَ الإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ)[18].
4- وقال أيضاً: (بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْقَوَائِمُ) يَعْنِي: الإِسْنَادَ[19].
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
"الحديث الموضوع" باب كبير من أبواب هجر السنة النبوية؛ بل هو أشدُّها على الإطلاق؛ لسهولة التلبيس من خلاله على المسلمين، لا سيما وأنَّ المُسْلِمَ يُحِبُّ حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويُقدِّسه ويعظِّمه، فإذا سَمِعَ حديثاً يُنسَب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يتمسَّك به ويحاول تطبيقه في حياته؛ وهو لا يدري أنه موضوع، فيدخل في باب البدع، التي تؤدِّي به إلى الضَّلالة، المُفضِية إلى النار.
وقد تعرَّضت السنة النبوية لاعتداءٍ أثيم، وخطبٍ جسيم، بشرذمةٍ من الوضَّاعين المختلِقين لبعض الأقوال التي أرادوها أحاديث نبوية، ولمَّا كانت السنة النبوية قد وصلت إلى درجةٍ عالية في الكمال والشمول، وخلت أقوالُ النبي صلى الله عليه وسلم وأفعالُه من كلِّ ما يُكدِّر الرسالة أو يُشوِّه الصورة الصافية لمكانة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد أغاظ هذا أعداء الدين من أولئك الذين آمنوا باللسان وكفروا بالقلوب، فدَسُّوا في الخفاء أحاديثَ مكذوبةٍ وضعوها على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، آملين أنْ تَختلط بالثابت عنه، وساعدتهم على الوضع ظروفٌ أحاطت بالأمة الإسلامية في بعض فتراتها؛ من خلافاتٍ سياسية، وجهلٍ بالدين وأهدافه ومراميه، إلى غير ذلك من الظروف التي تراكمت فأوجدت ركاماً من نزيف الأفكار وقيحِها، وألصقت بالرسول صلى الله عليه وسلم زوراً وبهتاناً، فأوجدتْ رَدَّ فِعلٍ من جانب العلماء المسلمين، لكن بعد أن خلَّفت آثاراً سلبية في الأمة، وما زالت تعاني من مخلَّفاتها في العصر الحديث!
وفي هذه الفترة العصيبة والمنعطف التاريخي في حياة الأمة الإسلامية، نادى بعض مَنْ يعيش على أنقاض مُخلَّفات ماضية، تَدْفَعه خلفياتٌ مُعيَّنة إلى ترك السُّنة والاحتجاج بها؛ مُدَّعياً أنَّ فيها الكثيرَ من المصنوع والموضوع، محاولاً التشكيك في سلامتها، وزاد الطين بِلَّة والقلب عِلَّة ما مُنِيَ به المسلمون في هذا العصر من ضعفٍ في الثقافة الدينية الصحيحة عامة، وعِلْمِ أصول الحديث ومصطلِحه خاصة، فاستولت الخُرافةُ الكاذبة، والمذاهبُ الفكرية المُنحرفة على عقول الكثير، فلو عَلِمَ هؤلاء ما قام به علماء الأمة من أدوارٍ خالدة، وجهودٍ جبارة في مقاومة الوضع، وتعريفِ الأمة به، وتحذيرها منه لهان المصاب، ولكنهم جهلوا أو تجاهلوا هذه الجهود، وحاولوا طَمْسَها، والقضاءَ عليها[1].
وقد قيَّض الله تعالى للسنة النبوية مَنْ نافح عنها، وبيَّن إفكَ المرجفين، وتخرُّصات المُتقوِّلين؛ من العلماء المحدِّثين؛ الذين كتبوا المصنَّفات والأسفار الطِّوال، وعن هذه الجهود المباركة قال ابن تيمية رحمه الله: (قَامَ عُلَمَاءُ النَّقْلِ وَالنُّقَّادُ بِعِلْمِ الرِّوَايَةِ وَالإسْنَادِ، فَسَافَرُوا فِي ذَلِكَ إلَى الْبِلادِ، وَهَجَرُوا فِيهِ لَذِيذَ الرُّقَادِ، وَفَارَقُوا الأمْوَالَ وَالأولادَ، وَأَنْفَقُوا فِيهِ الطَّارِفَ وَالتِّلادَ، وَصَبَرُوا فِيهِ عَلَى النَّوَائِبِ، وَقَنَعُوا مِنْ الدُّنْيَا بِزَادِ الرَّاكِبِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكَايَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَالْقِصَصِ الْمَأْثُورَةِ، مَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ مَعْلُومٌ، وَلِمَنْ طَلَبَ مَعْرِفَتَهُ مَعْرُوفٌ مَرْسُومٌ، بِتَوَسُّدِ أَحَدِهِمْ التُّرَابَ، وَتَرْكِهِمْ لَذِيذَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَتَرْكِ مُعَاشَرَةِ الأهْلِ وَالأصْحَابِ، وَالتَّصَبُّرِ عَلَى مَرَارَةِ الاغْتِرَابِ، وَمُقَاسَاةِ الأهْوَالِ الصِّعَابِ، أَمْرٌ حَبَّبَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ وَحَلاَّهُ؛ لِيَحْفَظَ بِذَلِكَ دِينَ اللَّهِ، كَمَا جَعَلَ الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا، يَقْصِدُونَهُ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَيَتَحَمَّلُونَ فِيهِ أُمُورًا مُؤْلِمَةً تَحْصُلُ فِي الطَّرِيقِ، وَكَمَا حُبِّبَ إلَى أَهْلِ الْقِتَالِ الْجِهَادُ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ حِكْمَةً مِنْ اللَّهِ يَحْفَظُ بِهَا الدِّينَ؛ لِيَهْدِيَ الْمُهْتَدِينَ، وَيُظْهِرَ بِهِ الْهُدَى وَدِينَ الْحَقِّ، الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[2].
وقال الشوكاني رحمه الله: (أكثَرَ العلماءُ - رحمهم الله - من البيان للأحاديث الموضوعة، وهتكوا أستار الكذَّابين، ونفوا عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم انتحال المبطلين، وتحريف الغالين، وافتراء المفترين، وزور المُزَوِّرين)[3].
ومِمَّا يؤكِّد وجوب استمرار الجهود المتلاحقة في هذا الميدان أنَّ الموضوع من الحديث لا يزال له وجود ظاهر؛ في الوعظ والخطابة والإرشاد، وله وجود أيضاً في الأحاديث والندوات والمؤتمرات التي تُذاع في الإعلام بشتى طرائقه؛ يتأثر به الملايين من الناس، فيساعد ذلك كله في نشر "الموضوع المكذوب" على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى المؤلَّفات التي تؤلَّف في مختلف العلوم الشرعية، لا تزال تَزْخَرُ بالأحاديث الموضوعة[4].
والوضع في الحديث أخطر بكثير من الفِرق والمذاهب التي تفشَّت؛ فالمسلم يُمكنه التمييز بين الفِرق، كما أنه ليس في مقدور كلِّ هذه الفِرق إيصال دعوتها إلى أفراد المسلمين، بينما "الحديث الموضوع" مع جهل المسلم بوضعه، وإيمانه بضرورة متابعة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في سُنَّته، يتأثَّر به ويظن أنه بذلك يتعبَّد الله تعالى ويتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو مكمن الخطر من تفشِّي وانتشار "الحديث الموضوع" في الأمة.
تعريف "الحديث الموضوع":
الموضوع لغة: الموضوع: اسم مفعول من وضع الشيء يَضَعَه - بالفتح - وضعاً، وتأتي مادة (وضع) في اللغة لمعاني عدة منها: الإسقاط، الترك، الافتراء والإلصاق[5]. وجاء في اللسان: (والضَّعةُ والضِّعةُ خِلاف الرِّفْعةِ في القَدْرِ، ورجلٌ وَضِيعٌ صار وَضِيعاً فهو وَضِيعٌ، وهو ضِدُّ الشريف، ووَضَعَ منه فلانٌ، أَي: حَطَّ مِنْ درَجتِه، والوَضِيعُ: الدَّنِيءُ من الناس)[6].
الموضوع اصطلاحاً: قال ابن الصلاح رحمه الله: (هو المُخْتَلَقُ المَصْنُوعُ)[7]. وقيل: هو ما نُسِبَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم اختلاقاً وكذباً؛ مِمَّا لم يقله، أو يفعله، أو يُقِرُّه[8].
صِيَغُ الحديث الموضوع:
قال الذهبي رحمه الله – في مراتب الحديث الموضوع وصِيغِه: (وهو مراتب: منه: ما اتفقوا على أنه كَذِب. ويُعرَفُ ذلك بإقرار واضعِه، وبتجربةِ الكذبِ منه، ونحوِ ذلك. ومنه: ما الأكثرون على أنه موضوع، والآخَرُون يقولون: هو حديثٌ ساقطٌ مطروح، ولا نَجسُرُ أن نُسمَّيَه موضوعاً. ومنه: ما الجمهورُ على وَهْنِه وسُقوطِه، والبعضُ على أنه كذِب)[9]. وللعلماء عبارات متعددة للتعريف بالأحاديث الموضوعة، ومنها[10]:
1- التصريح بوضعه، فيقولون: (موضوع)، (باطل)، (كذب).
2- قولهم: (لا أصل له)، (لا أصل له بهذا اللفظ)، (ليس له أصل).
3- قولهم: (لا يصح)، (لا يثبت)، (لم يصح في هذا الباب شيء).
4- قولهم: (لا إسناد له)، (ليس حديثاً)، (ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم)، (لم أقف عليه).
(فإنْ سألتَ: عن الحكمة من وراء اختلافهم في تعداد هذه الدرجات، مع أنها جميعاً في الدَّرك الأسفل من الحديث الهابط؟ فالجواب: أنَّ هذا يدل على مدى إنصافهم في إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، ولو كان الكلُّ ساقطاً، فذلك من العدل الذي أُمِر به المسلمون، والعلماء أَولى به من غيرهم، ففاوتوا بين الدرجات، وإنْ كانت في السيئات)[11].
مصادر الحديث الموضوع:
للحديث الموضوع عدة مصادر وطرق، ومن أهمِّها:
1- أنْ يخترعه الواضع من تلقاء نفسه، ثم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويُعرف ذلك: إمَّا بإقراره، أو ما يُنَزَّل منزلة الإقرار: كأن يدعو الحديثُ إلى مبدأٍ يدعو إليه الوَضَّاع، أو تدل على ذلك قرائن الأحوال، ومن القرينة في الراوي: أنْ يكون مبتدعاً؛ كالرافضة، والزنادقة، ومَنْ لفَّ لفيفهم من الكيد للإسلام، والحقد على المسلمين. ومن القرينة في المروي: ما وضعه علماء الحديث من قواعد، ومن ذلك، قولهم: إذا رأيتَ الحديثَ يُباين المعقول، أو يُخالف الصحيح من المنقول، أو يُناقض الأصول؛ فاعلم أنه موضوع[12].
2- أنْ يأخذ الواضِعُ كلام غيره فينسبه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويكون الموضوع إمَّا من كلام الصحابة، أو من كلام التابعين، أو بعض قدماء الحكماء، أو غيرهم[13].
3- أنْ يَهِمَ الراوي فينسب كلامَ الغيرِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن غيرِ قصدٍ وتعمدٍ للوضع؛ مثل: (مَنْ كثرت صلاته في الليل حَسُنَ وجهه في النهار)[14]، ولذا عدَّه بعضُهم في حُكم المدرج[15].
بداية الوضع في الحديث:
ترجع بدايات الوضع في الحديث النبوي بحدوث الفتنة التي أدَّت إلى مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد دخل أصحاب الأهواء عبر ذلك التَّفرُّق والاختلاف إلى الكذب في الحديث؛ لتأييد أهوائهم، ولقد كان للصحابة والتابعين وتابعيهم جهود عظيمة في مقاومة الوضع، عن طريقين:
الأول: الإنكار على الوضَّاعين، والتحرُّج من الرواية عن كلِّ أحد يزعم أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: الرواية عن المُسندين الثقات الحفَّاظ.
ومما يدل على العناية بالإسناد؛ لحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1- عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: (إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ)[16].
2- وعَنه أيضاً قال: (لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ)[17].
3- وقال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: (الإِسْنَادُ مِنَ الدِّينِ، وَلَوْلاَ الإِسْنَادُ لَقَالَ مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ)[18].
4- وقال أيضاً: (بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْقَوَائِمُ) يَعْنِي: الإِسْنَادَ[19].