Şøķåŕą
03-23-2022, 04:41 PM
تحريم الاستعانة بغير الله
الاستعانة معنــــاها: طلب العـون والـتـــــــوفيق[1]، وهي من الـــــــعبادات القلبيــــــة التي لا تــــصرف إلا إلى الله تعالى؛ فقد قال تـــــــــــعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]؛ أي: نـــــــــطلب العون منك في جميع أمـــــــــورنا[2]، وفي الـحديث: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لــــو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصــحف))[3]، قـــــوله: ((وإذا استعنت فاستعن بالله))؛ أي: أردت الاســــتعانة في الــــطاعة وغيرها من أمور الدنيا والآخرة، فاستعن بالله، فــــــــإنه المستــــــعان وعليه التــكلان في كل زمان ومكان[4].
وفي هذا يقــــــــول الـحافـــــظ ابن رجب: "وأما الاستعانة بالله عــــــــــــز وجل دون غيره من الــــــــخلق، فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بـــــــجلب مصالـحه، ودفع مضاره، ولا معين له على مصالـح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعــــــــانه الله، فهو المــــــعان، ومن خذله فهو المــخذول، وهذا تحقيق معنى قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإن المعنى: لا تــــــحول للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بالله، وهذه كلمة عظيمة، وهي كنز من كنوز الـــجنة، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلها في الدنيا، وعند الموت وبعده من أهـــــــــــوال البرزخ ويـــــوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عـــــــــز وجل، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كــــــــــله أعانه، وفي الـــــــحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعـــــجز))[5]، ومن ترك الاستعانة بالله، واستعان بــــــــــغيره، وكله الله إلى من استعان به فصـــــــار مخذولًا، ومن كلام بعض السلف: يا رب، عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك؟ عــجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك؟"[6].
وإذا علـــــــم هذا، فإنه لا وجه لمن يستعيـــــــــن بالــــــجن في العلاج، أو كشف السـحر، أو التحصـن بهم واعتقــــــــاد أنهــــــــــم يقدرون على جلب النفـــــــع ودفــــــع الــــضر؛ فقد قال تــــــــــــعالى: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6]؛ رهقًا؛ أي: خــــطيئةً وإثمًا[7]، فقد كان الرجل من العـــرب إذا نـزل الــــــــوادي فبات به، قال: أعـوذ بعزيز هذا الـــــــوادي من شــــــــــر سفهاء قومه[8]، فيبيت في جـــــــــــواره حتى يصبح، وكان أول من تعوذ بالــــــــجن قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتــــــــــركوهم[9].
وفي هذا نــــــــوع استمتاع وتبــــادل منافع بين الإنس والــجن، فالـجني يـــــــحمي الإنسي ويـــــخدمه، والإنسي يعظــــم الــجني ويتقــرب إليه؛ وفي هذا يقــــول سبحانه وتعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 128]، فقــــوله تـــعالى: ﴿ اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ﴾؛ أي: تــــــــمتع كل من الـــــجني والإنسي بصاحبه وانتفع به، فالـجني يستمتع بطاعة الإنسي له وعبادته، وتعظيمه، واستعاذته به، والإنسي يستمتع بنيل أغـــــــراضه، وبلوغ حاجاته[10].
هذا، وإنمــــــا كانت الاستعانة بالـجن في الـعلاج وكشف السـحر وغيره غير جائـــــزة لأمور:
أولًا: لأن الاستعانة بالــــجن شرك بالله، لأنه لا يــــــــجوز دعاء وتعظيـــــــــم غير الله، ولأنه لا يقدر على دفـع الضـر وجلب النفــع إلا الله وحده، فمن عظـم الـجن واعتقـــد فيهم جلب الشـفاء وكشف الـــضر، فقد أشرك بالله؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ﴾ [فصلت: 36]، فأمر سبحانه وتـعالى بدفع وساوس الشيطان ونـزغاته بالاســـــتعاذة به جل شأنه، فهو وحده القـــادر على دفع كيد الشيطـــان وأذاه، ولله المثل الأعلى، فلا يستعاذ من الكلاب إلا بـــــــــــــرب الكلاب، وقد حُكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الــخطايا؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: هذا يــــــــــطول، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنع من العبور ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي، قال: هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك[11]، فلــــو كانت الاستعــــــاذة بغير الله جائــــــــزة لـــــما ذم سبحانه وتعالى استعاذة الإنـــــس بالـجن في قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6]؛ أي: إثمـــــــًا، وذلك أن الاستــــــــــــــــعاذة بهم تتضمـــــــن تعظيمـًا، واعترافًا بالقـــــدرة على جلب النفـــع ودفع الـــــضرر، وهي أمور لا تُنسب إلا إلى الله تعالى.
ثانيًا: أنه إذا كان ما يخبــــــر به الإنســــان يتوقف فيه حتى يتبيـــن صوابه، فمن باب أولى إخبار الـــجني، لأنه لا يعلـــــم حاله ولا صدقه ولا صلاحه؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]، وتــــلبس الـــجني بالإنسي وأذيته له هو فسـق ظاهـــر، خصـوصًا إذا علمنا أن الـجن من طبعهم الـــــــكذب؛ فقد قال تعالى: ﴿ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ﴾ [الجن: 11]، وفي الـحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ((وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعليَّ عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجةً شديدةً، وعيالًا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك، وسيعود، فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله، شكا حاجةً شديدةً، وعيالًا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات، أنك تزعم لا تعود، ثم تعود قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبـــح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة، قال: لا، قال: ذاك شيطان))[12]؛ قال ابن حــجـر: "قـوله: ((وهو كذوب))، هو من التتميم البليغ لأنه لـــــــــما أوهم مدحه بوصفه الصدق في قوله: ((صدقك))، استدرك نفي الصدق عنه بصيغة مبالغة والمعنى: صدقك في هذا القول مع أن عادته الكذب المستمر، وهو كقولهم: قد يصدق الكذوب"[13]؛ ولهذا نهى صــــــــلى الله عليه وسلم عن إتيان الكهان وتـــــــــــــــصديقهم؛ فعن صــــفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صـــــــلاة أربعيــــــن ليلةً))[14]؛أي: إنه لا ثواب له فيها[15]، وإنــما نهي عن إتيان الكهان وتصديـــــــــقهم لأن ما يتلقــــونه من الـــــجن من أخبار، أغلبه كذب وبهتان.
ثـــالثًا: إن الاستعانة بالــــجن جـــرت العـــادة أنها لا تقــــــع إلا بين الشياطين من الإنس والــــــــجن؛ فقد قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112]؛ إذ لم يثبت عن النبي صـــلى الله عليه وسلم أنه استعان بالـــــجن أو استنصـــــر بهم، وكذلك صـحابته الكرام، والصالـحون من بعده، بل نــجد أن الـشرع حث على الاستعاذة بالله من الـجن والشياطيـــــــــن؛ قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ﴾ [الأعراف: 200]، وقال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴾ [المؤمنون: 97، 98].
رابعًا: أُمـــرنا بالــــحذر من فتنة الشيطــــان وألاعيبه، لأنه عدو للإنســــــــان؛ فقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6]، وقال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ﴾ [الأعراف: 27]، فعداوة الشياطين للإنسان ظـــاهرة وغير خافية، فقد يأتي الإنسان في صــــورة الناصـح الأمين ليستدرجه ويـــــــوقعه في الهلاك، كما فعل مع آدم عليه السلام؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ ﴾؛ أي: لا يصـــــــــرفنكم الشيطان عن الدين، كما فتن أبــــــــــويكم بالإخراج من الـــــــجنة[16].
خامسًا: إن الاستعانة بالـجن تــؤدي إلى تسلطهم على الإنس وإصابته بالخبــــــــــل؛ ولهذا قال المفســــرون: كان الـــــجن يفرقون[17] من الإنس كما يـفرق الإنس منهم أو أشد، وكان الإنس إذا نــــــــزلوا واديًا هرب الــــجن، فيقول سيد الـقـــــــوم: نعوذ بسيد أهل هذا الوادي، فقال الـــــجن: نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم، فدنوا من الإنس فأصابوهم بالــخبل والـــجنون[18].
وبناء على هذا كله، فإنه لا يـجوز تـصديق الـجن أو الاستعانة بهم في الـــــــــحماية، أو كشف الــــســــحر أو غير ذلك، سدًّا لذريعة الفتنــــــــــــة والـــفســــــــاد، فمن كان مستعينًا فليستعـــن بالله، ومن كان مستــــــــجيرًا فليستجـــــر بالله، ومـــن كان معتصمًا فليعتصم بالله، وليأخذ بالأسباب المشــــــــروعة، ففيها الغنية عما سـواهـــــا؛ وفي الـحديث عن خــــــــــــولة بنت حكيم، أن رسول الله صــــلى الله عليه وسلم قال: ((من نـــــــــــزل منزلًا فليقل: أعــــــوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق))؛ فإنه لن يضــــــره شيء حتى يرتحل[19]، قال الملا علي القـاري: "وفي هذا الـحديث رد على ما كان يفعله أهل الــــــــجاهلية من كونهم إذا نزلوا منزلًا قالوا: نــــــعوذ بسيد هذا الــــــوادي ويــــــــعنون به كبير الــــــــجن"[20].
والـحمد لله أولًا وآخرًا.
الاستعانة معنــــاها: طلب العـون والـتـــــــوفيق[1]، وهي من الـــــــعبادات القلبيــــــة التي لا تــــصرف إلا إلى الله تعالى؛ فقد قال تـــــــــــعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]؛ أي: نـــــــــطلب العون منك في جميع أمـــــــــورنا[2]، وفي الـحديث: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لــــو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصــحف))[3]، قـــــوله: ((وإذا استعنت فاستعن بالله))؛ أي: أردت الاســــتعانة في الــــطاعة وغيرها من أمور الدنيا والآخرة، فاستعن بالله، فــــــــإنه المستــــــعان وعليه التــكلان في كل زمان ومكان[4].
وفي هذا يقــــــــول الـحافـــــظ ابن رجب: "وأما الاستعانة بالله عــــــــــــز وجل دون غيره من الــــــــخلق، فلأن العبد عاجز عن الاستقلال بـــــــجلب مصالـحه، ودفع مضاره، ولا معين له على مصالـح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعــــــــانه الله، فهو المــــــعان، ومن خذله فهو المــخذول، وهذا تحقيق معنى قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإن المعنى: لا تــــــحول للعبد من حال إلى حال، ولا قوة له على ذلك إلا بالله، وهذه كلمة عظيمة، وهي كنز من كنوز الـــجنة، فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلها في الدنيا، وعند الموت وبعده من أهـــــــــــوال البرزخ ويـــــوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله عـــــــــز وجل، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كــــــــــله أعانه، وفي الـــــــحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعـــــجز))[5]، ومن ترك الاستعانة بالله، واستعان بــــــــــغيره، وكله الله إلى من استعان به فصـــــــار مخذولًا، ومن كلام بعض السلف: يا رب، عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك؟ عــجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك؟"[6].
وإذا علـــــــم هذا، فإنه لا وجه لمن يستعيـــــــــن بالــــــجن في العلاج، أو كشف السـحر، أو التحصـن بهم واعتقــــــــاد أنهــــــــــم يقدرون على جلب النفـــــــع ودفــــــع الــــضر؛ فقد قال تــــــــــــعالى: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6]؛ رهقًا؛ أي: خــــطيئةً وإثمًا[7]، فقد كان الرجل من العـــرب إذا نـزل الــــــــوادي فبات به، قال: أعـوذ بعزيز هذا الـــــــوادي من شــــــــــر سفهاء قومه[8]، فيبيت في جـــــــــــواره حتى يصبح، وكان أول من تعوذ بالــــــــجن قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتــــــــــركوهم[9].
وفي هذا نــــــــوع استمتاع وتبــــادل منافع بين الإنس والــجن، فالـجني يـــــــحمي الإنسي ويـــــخدمه، والإنسي يعظــــم الــجني ويتقــرب إليه؛ وفي هذا يقــــول سبحانه وتعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 128]، فقــــوله تـــعالى: ﴿ اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ﴾؛ أي: تــــــــمتع كل من الـــــجني والإنسي بصاحبه وانتفع به، فالـجني يستمتع بطاعة الإنسي له وعبادته، وتعظيمه، واستعاذته به، والإنسي يستمتع بنيل أغـــــــراضه، وبلوغ حاجاته[10].
هذا، وإنمــــــا كانت الاستعانة بالـجن في الـعلاج وكشف السـحر وغيره غير جائـــــزة لأمور:
أولًا: لأن الاستعانة بالــــجن شرك بالله، لأنه لا يــــــــجوز دعاء وتعظيـــــــــم غير الله، ولأنه لا يقدر على دفـع الضـر وجلب النفــع إلا الله وحده، فمن عظـم الـجن واعتقـــد فيهم جلب الشـفاء وكشف الـــضر، فقد أشرك بالله؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ﴾ [فصلت: 36]، فأمر سبحانه وتـعالى بدفع وساوس الشيطان ونـزغاته بالاســـــتعاذة به جل شأنه، فهو وحده القـــادر على دفع كيد الشيطـــان وأذاه، ولله المثل الأعلى، فلا يستعاذ من الكلاب إلا بـــــــــــــرب الكلاب، وقد حُكي عن بعض السلف أنه قال لتلميذه: ما تصنع بالشيطان إذا سول لك الــخطايا؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: فإن عاد؟ قال: أجاهده، قال: هذا يــــــــــطول، أرأيت لو مررت بغنم فنبحك كلبها ومنع من العبور ما تصنع؟ قال: أكابده وأرده جهدي، قال: هذا يطول عليك، ولكن استغث بصاحب الغنم يكفه عنك[11]، فلــــو كانت الاستعــــــاذة بغير الله جائــــــــزة لـــــما ذم سبحانه وتعالى استعاذة الإنـــــس بالـجن في قوله تعالى: ﴿ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ﴾ [الجن: 6]؛ أي: إثمـــــــًا، وذلك أن الاستــــــــــــــــعاذة بهم تتضمـــــــن تعظيمـًا، واعترافًا بالقـــــدرة على جلب النفـــع ودفع الـــــضرر، وهي أمور لا تُنسب إلا إلى الله تعالى.
ثانيًا: أنه إذا كان ما يخبــــــر به الإنســــان يتوقف فيه حتى يتبيـــن صوابه، فمن باب أولى إخبار الـــجني، لأنه لا يعلـــــم حاله ولا صدقه ولا صلاحه؛ قال تعالى: ﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]، وتــــلبس الـــجني بالإنسي وأذيته له هو فسـق ظاهـــر، خصـوصًا إذا علمنا أن الـجن من طبعهم الـــــــكذب؛ فقد قال تعالى: ﴿ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ ﴾ [الجن: 11]، وفي الـحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ((وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام فأخذته، وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج، وعليَّ عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله، شكا حاجةً شديدةً، وعيالًا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك، وسيعود، فعرفت أنه سيعود، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود، فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة، ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله، شكا حاجةً شديدةً، وعيالًا، فرحمته، فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله، وهذا آخر ثلاث مرات، أنك تزعم لا تعود، ثم تعود قال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، قلت: ما هو؟ قال: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: ما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [البقرة: 255]، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبـــح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة، قال: لا، قال: ذاك شيطان))[12]؛ قال ابن حــجـر: "قـوله: ((وهو كذوب))، هو من التتميم البليغ لأنه لـــــــــما أوهم مدحه بوصفه الصدق في قوله: ((صدقك))، استدرك نفي الصدق عنه بصيغة مبالغة والمعنى: صدقك في هذا القول مع أن عادته الكذب المستمر، وهو كقولهم: قد يصدق الكذوب"[13]؛ ولهذا نهى صــــــــلى الله عليه وسلم عن إتيان الكهان وتـــــــــــــــصديقهم؛ فعن صــــفية عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صـــــــلاة أربعيــــــن ليلةً))[14]؛أي: إنه لا ثواب له فيها[15]، وإنــما نهي عن إتيان الكهان وتصديـــــــــقهم لأن ما يتلقــــونه من الـــــجن من أخبار، أغلبه كذب وبهتان.
ثـــالثًا: إن الاستعانة بالــــجن جـــرت العـــادة أنها لا تقــــــع إلا بين الشياطين من الإنس والــــــــجن؛ فقد قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ [الأنعام: 112]؛ إذ لم يثبت عن النبي صـــلى الله عليه وسلم أنه استعان بالـــــجن أو استنصـــــر بهم، وكذلك صـحابته الكرام، والصالـحون من بعده، بل نــجد أن الـشرع حث على الاستعاذة بالله من الـجن والشياطيـــــــــن؛ قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ﴾ [الأعراف: 200]، وقال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴾ [المؤمنون: 97، 98].
رابعًا: أُمـــرنا بالــــحذر من فتنة الشيطــــان وألاعيبه، لأنه عدو للإنســــــــان؛ فقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ [فاطر: 6]، وقال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ﴾ [الأعراف: 27]، فعداوة الشياطين للإنسان ظـــاهرة وغير خافية، فقد يأتي الإنسان في صــــورة الناصـح الأمين ليستدرجه ويـــــــوقعه في الهلاك، كما فعل مع آدم عليه السلام؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ ﴾؛ أي: لا يصـــــــــرفنكم الشيطان عن الدين، كما فتن أبــــــــــويكم بالإخراج من الـــــــجنة[16].
خامسًا: إن الاستعانة بالـجن تــؤدي إلى تسلطهم على الإنس وإصابته بالخبــــــــــل؛ ولهذا قال المفســــرون: كان الـــــجن يفرقون[17] من الإنس كما يـفرق الإنس منهم أو أشد، وكان الإنس إذا نــــــــزلوا واديًا هرب الــــجن، فيقول سيد الـقـــــــوم: نعوذ بسيد أهل هذا الوادي، فقال الـــــجن: نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم، فدنوا من الإنس فأصابوهم بالــخبل والـــجنون[18].
وبناء على هذا كله، فإنه لا يـجوز تـصديق الـجن أو الاستعانة بهم في الـــــــــحماية، أو كشف الــــســــحر أو غير ذلك، سدًّا لذريعة الفتنــــــــــــة والـــفســــــــاد، فمن كان مستعينًا فليستعـــن بالله، ومن كان مستــــــــجيرًا فليستجـــــر بالله، ومـــن كان معتصمًا فليعتصم بالله، وليأخذ بالأسباب المشــــــــروعة، ففيها الغنية عما سـواهـــــا؛ وفي الـحديث عن خــــــــــــولة بنت حكيم، أن رسول الله صــــلى الله عليه وسلم قال: ((من نـــــــــــزل منزلًا فليقل: أعــــــوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق))؛ فإنه لن يضــــــره شيء حتى يرتحل[19]، قال الملا علي القـاري: "وفي هذا الـحديث رد على ما كان يفعله أهل الــــــــجاهلية من كونهم إذا نزلوا منزلًا قالوا: نــــــعوذ بسيد هذا الــــــوادي ويــــــــعنون به كبير الــــــــجن"[20].
والـحمد لله أولًا وآخرًا.