نزف القلم
03-16-2022, 11:55 PM
ثَبت في الصحيحين وغيرهما أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا إِذْ هِيَ حَبَسَتْهَا، وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ))[1].
والمقصود بخَشاش الأرض: حشراتها وهوامُّها.
وقد جاء ذكر كيفية تعذيب هذه المرأة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((دَنَتْ – أي: اقتربت - مِنِّي النار، فإذا امرأة تخدِشها هِرَّة، قلت: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعًا، لا أَطْعَمَتْهَا ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض))[2].
ولنا مع هذه القصة عدة وقفات وفوائد، أجملها فيما يلي:
الفائدة الأولى: تحريم تعذيبالهِرَّة وغيرها من الحيوان الذي لا يؤذي:
بَلَغت رحمة الإسلام بالحيوان حدًّا عجيبًا، لدرجة أَنَّه اعتبر الإساءة إليه وتعذيبه وعدم الرفق به جريمة، فقد نهى الإسلام عن سَبِّ الحيوان، ونهى عن المكث طويلًا على ظهره وهو واقف، ونهى عن تجويعه وتحميله فوق طاقته، وتعريضه للضعف والهزال، كما نهى عن التلهي به في الصيد، واتخاذه هدفًا لتعليم التسديد والتصويب، ونهى عن التحريش بين الحيوانات ووسمها في وجوهها بالكيِّ.
ولم تقتصر النصوص على الوصية بحيوان دون غيره، ولا على الوصية به في وقت خاص، وإنما هي شاملةٌ وعامة في كل الأوقات حتى عند ذبحه.
وقد جاء تبويب الأئمة الفضلاء - على حديث الهِرَّة - يؤكد هذا المعنى، فعلى سبيل المثال لا الحصر، بوب الإمام النووي (ت: 676هـ) عند شرحه لصحيح مسلم: "باب تحريم تعذيب الهِرَّة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي".
وذكره في رياض الصالحين تحت باب "النهي عن تعذيب العَبْد والدابة والمرأة والولد بغير سبب شرعي أَوْ زائد عَلَى قدر الأدب".
الفائدة الثانية: أَنَّه لا مانع من حبس الهِرَّة في البيت بشرط سقيها وإطعامها.
قال أبو اسحاق الشيرازي (ت: 476هـ): "مَنْ مَلَكَ بهيمة لزمه القيامة بعلفها... ولا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق، لأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم منع أن يكلف العبد ما لا يطيق، فوجب أن تكون البهيمة مثله، ولا يحلب من لبنها إلا ما يفضل عن ولدها، لأنه غذاء للولد فلا يجوز منعه، وإن امتنع من الإنفاق على رقيقه أو على بهيمته، أُجْبِرَ عليه كما يُجبَرُ على نفقة زوجته..."[3].
ويتساءل الإمام الصنعاني (ت: 1182هـ): لماذا أدخلت الهِرَّة النار؟ ثم يجيب قائلًا: "لتنتصف ممن أساء إليها، ويجعل الله النار على الهِرَّة بردًا وسلامًا، وعلى المرأة عذابًا ونكالًا، وفيه تحريم قتل الهِرَّة، وفيه عدم وجوب إطعامها، بل تترك تأكل مما جعله لها رزقًا من حشرات الأرض"[4].
وقد ورد في السنة ما يدل على أنَّ البهائم تقتص من ابن آدم يوم القيامة نظير ما ظلمها أو جوعها.
الفائدة الثالثة: أَنَّه يحرم - من باب أولى - تعذيب الإنسان بغير حق:
حرم الله تعالى إيذاء المسلم، وتوعد عليه بالوعيد الشديد؛ لأن المسلم حرام الدم والمال والعِرض، ومن آذى مؤمنا - حَيًّا أو مَيِّتًا - بغير ذنب يُوجِب ذلك، فقد دخل في الوعيد المذكور في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]، يُعَلِّق شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ) على هذه الآية بقوله: "لا نعلم خلافًا في أنَّ الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات لا تسقط عقوبتهم بالتوبة"[5].
أَمَّا ابن القيم (ت: 751هـ) فيقول مُتَعَجِّبًا: "وإِذا كانت امْرَأَةٌ قد دَخَلَتِ النَّارَ في هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حتى مَاتَتْ جُوعًا وَعَطَشًا، فَرَآهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النَّارِ وَالْهِرَّةُ تَخْدِشُهَا في وَجْهِهَا وَصَدْرِهَا، فَكَيْفَ عُقُوبَةُ مَنْ حَبَسَ مُؤْمِنًا حتى مات بِغَيْرِ جُرْمٍ؟"[6].
الفائدة الرابعة: التحذير من الذنوب وإن كانت صغيرة، وأَنَّ الإصرار على الصغائر يُلحِقها بالكبائر.
ينبغي أن يكونَ المؤمنُ عظيمَ الخوف مِن الله تعالى من كل ذنبٍ، صغيرًا كان أو كبيرًا؛ لأن الله تعالى قد يعذِّب على القليل، فإنه لا يُسأَل عما يفعل سبحانه وتعالى، كما أن السيئة قد يقترن بها من الاستخفاف والإصرار ما يجعلها كبيرة؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ):"والحسنة الواحدة قد يقترن بها من الصدق واليقين ما يجعلها تكفر الكبائر، كحديث البغيِ التي سَقَتْ كلبًا، وإلا فليس كل من سقى كلبًا عطشان يُغفَر له، كما أنه قد يقترن بالسيئة من الاستخفاف والإصرار ما يُعَظِّمُهَا"[7].
وقد ورد في السنة ما يدل على أَنَّ امرأة تدخل النار لأنها آذَتْ جارتها بلسانِها، ورجل يدخل النار لأنه يجر ثوبه خيلاء، وآخر يُعذَّب في قبره بسبب بوله، وثالث يدخل النار لأنه قال: "والله لا يغفر اللهُ لفلانٍ"...
ويوجه الإمام ابن القيم (ت: 751هـ) تحذيرًا للذين يستهينون بالمعاصي، فيقول: "يا مغرورًا بالأمانيِّ: لُعِنَ إبليس وأهبط من مَنْزِل العِزّ بِتَرْكِ سَجْدَة واحدة أُمِرَ بها، وأُخِرج آدم من الجنة بلقمة تناولها، وأُمِر بإيساع الظهر سياطًا بكلمة قذف أو بقطرة سُكْر، ودخلت امرأة النار في هرة، فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه"[8].
الفائدة الخامسة: المقصود من القصة الاعتبار والتنبيه
ذهب جمهور العلماء إلى أَنَّ المرأة المشار إليها كانت مسلمة، في حين ذهب القاضي عِيَاض (ت: 544هـ) إلى أَنَّ هذه المرأة يُحْتَمل أَنَّها كانت كافرة فعُذِّبت لكفرها، وزِيدت عذابًا بسيِّئ أعمالها، وكان منها هذا؛ إذ لم تكن مؤمنة فتُغفَر صغائرها باجتناب الكبائر[9].
وقد ذكر الإمام النووي (ت: 676هـ) كلام القاضي عِيَاض ثم تعقبه بقوله: "الصواب المصرَّح به في الحديث أنها عُذِّبَت بسبب الهِرَّة، وهو كبيرة؛ لأنها ربطتها وأصرت على ذلك حتى ماتت، والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة كما هو مقرر في كتب الفقه وغيرها، وليس في الحديث ما يقتضي كفر هذه المرأة"[10].
وعلى فرض أَنَّ هذه المرأة كانت كافرة، فليس المراد من هذه القصة وغيرها مجرد الحديث عن الماضين، وإنما المقصود تحذير المسلم من أن يقدم على مثل هذا الفعل، "فَمَا مِنْ قِصَّةٍ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا وَسِيَاقُهَا لِفَائِدَةٍ في حَقِّ النبي صلى الله عليه وسلم وأُمَّتِهِ"[11].
ويلفت الإمام البقاعي (ت: 885هـ) نَظَرَنا إلى السبب الذي من أجله مُنِعَ أَكْثَر الناس عن فهم معاني الْقُرْآنِ، فيقول: "لكلٍّ من الماضين مَثَل يتكرر في هذه الأمة الخاتمة... فما صَدَّ أكثرَ هذه الأمة عن فهم القرآن ظنُّهم أنَّ الذي فيه مِن قَصَص الأوَّلِين وأخبار المُثَابين والمُعَاقَبين مِن أهل الأديان أجمعين أنَّ ذلك إنما مقصوده الإخبار والقَصص فقط، كلا، وليس كذلك؛ إنما مقصودُهُ الاعتبار والتنبيه لمشاهدة متكررة في هذه الأمة من نظائر جميع أولئك الأعداد، وتلك الأحوال والآثار"[12]، وما يقال عن قصص القرآن يقال أيضا عن صحيح قصص السُّنة.
اللهم لا تؤيسنا من روحك، ولا تقنطنا من رحمتك، واجـعـلنـا رحماء بخـلقـك، ناصحين لعبادك، شاكرين لنعمائك، اللهم آمين.
[1]أخرجه البخاري (2365)، ومسلم (2242).
[2] أخرجه البخاري (2364).
[3] المهذب في فقة الإمام الشافعي، للشيرازي (3/ 164).
[4] التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 440).
[5]الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 403).
[6]الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (الداء والدواء) (ص: 150).
[7] مختصر الفتاوى المصرية (ص: 577)، وينظر: مجموع الفتاوى (11/ 659).
[8] الفوائد لابن القيم (ص: 63).
[9]إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم (7/ 179).
[10] شرح النووي على مسلم (6/ 207) (14/240).
[11]إحياء علوم الدين (1/ 285).
[12] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (8/ 525)، وكرر نفس المعنى في (3/ 395)، (3/ 406).
د. أحمد عبدالمجيد مكي
والمقصود بخَشاش الأرض: حشراتها وهوامُّها.
وقد جاء ذكر كيفية تعذيب هذه المرأة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((دَنَتْ – أي: اقتربت - مِنِّي النار، فإذا امرأة تخدِشها هِرَّة، قلت: ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعًا، لا أَطْعَمَتْهَا ولا أرسلتها تأكل من خشاش الأرض))[2].
ولنا مع هذه القصة عدة وقفات وفوائد، أجملها فيما يلي:
الفائدة الأولى: تحريم تعذيبالهِرَّة وغيرها من الحيوان الذي لا يؤذي:
بَلَغت رحمة الإسلام بالحيوان حدًّا عجيبًا، لدرجة أَنَّه اعتبر الإساءة إليه وتعذيبه وعدم الرفق به جريمة، فقد نهى الإسلام عن سَبِّ الحيوان، ونهى عن المكث طويلًا على ظهره وهو واقف، ونهى عن تجويعه وتحميله فوق طاقته، وتعريضه للضعف والهزال، كما نهى عن التلهي به في الصيد، واتخاذه هدفًا لتعليم التسديد والتصويب، ونهى عن التحريش بين الحيوانات ووسمها في وجوهها بالكيِّ.
ولم تقتصر النصوص على الوصية بحيوان دون غيره، ولا على الوصية به في وقت خاص، وإنما هي شاملةٌ وعامة في كل الأوقات حتى عند ذبحه.
وقد جاء تبويب الأئمة الفضلاء - على حديث الهِرَّة - يؤكد هذا المعنى، فعلى سبيل المثال لا الحصر، بوب الإمام النووي (ت: 676هـ) عند شرحه لصحيح مسلم: "باب تحريم تعذيب الهِرَّة ونحوها من الحيوان الذي لا يؤذي".
وذكره في رياض الصالحين تحت باب "النهي عن تعذيب العَبْد والدابة والمرأة والولد بغير سبب شرعي أَوْ زائد عَلَى قدر الأدب".
الفائدة الثانية: أَنَّه لا مانع من حبس الهِرَّة في البيت بشرط سقيها وإطعامها.
قال أبو اسحاق الشيرازي (ت: 476هـ): "مَنْ مَلَكَ بهيمة لزمه القيامة بعلفها... ولا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق، لأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم منع أن يكلف العبد ما لا يطيق، فوجب أن تكون البهيمة مثله، ولا يحلب من لبنها إلا ما يفضل عن ولدها، لأنه غذاء للولد فلا يجوز منعه، وإن امتنع من الإنفاق على رقيقه أو على بهيمته، أُجْبِرَ عليه كما يُجبَرُ على نفقة زوجته..."[3].
ويتساءل الإمام الصنعاني (ت: 1182هـ): لماذا أدخلت الهِرَّة النار؟ ثم يجيب قائلًا: "لتنتصف ممن أساء إليها، ويجعل الله النار على الهِرَّة بردًا وسلامًا، وعلى المرأة عذابًا ونكالًا، وفيه تحريم قتل الهِرَّة، وفيه عدم وجوب إطعامها، بل تترك تأكل مما جعله لها رزقًا من حشرات الأرض"[4].
وقد ورد في السنة ما يدل على أنَّ البهائم تقتص من ابن آدم يوم القيامة نظير ما ظلمها أو جوعها.
الفائدة الثالثة: أَنَّه يحرم - من باب أولى - تعذيب الإنسان بغير حق:
حرم الله تعالى إيذاء المسلم، وتوعد عليه بالوعيد الشديد؛ لأن المسلم حرام الدم والمال والعِرض، ومن آذى مؤمنا - حَيًّا أو مَيِّتًا - بغير ذنب يُوجِب ذلك، فقد دخل في الوعيد المذكور في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58]، يُعَلِّق شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ) على هذه الآية بقوله: "لا نعلم خلافًا في أنَّ الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات لا تسقط عقوبتهم بالتوبة"[5].
أَمَّا ابن القيم (ت: 751هـ) فيقول مُتَعَجِّبًا: "وإِذا كانت امْرَأَةٌ قد دَخَلَتِ النَّارَ في هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حتى مَاتَتْ جُوعًا وَعَطَشًا، فَرَآهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النَّارِ وَالْهِرَّةُ تَخْدِشُهَا في وَجْهِهَا وَصَدْرِهَا، فَكَيْفَ عُقُوبَةُ مَنْ حَبَسَ مُؤْمِنًا حتى مات بِغَيْرِ جُرْمٍ؟"[6].
الفائدة الرابعة: التحذير من الذنوب وإن كانت صغيرة، وأَنَّ الإصرار على الصغائر يُلحِقها بالكبائر.
ينبغي أن يكونَ المؤمنُ عظيمَ الخوف مِن الله تعالى من كل ذنبٍ، صغيرًا كان أو كبيرًا؛ لأن الله تعالى قد يعذِّب على القليل، فإنه لا يُسأَل عما يفعل سبحانه وتعالى، كما أن السيئة قد يقترن بها من الاستخفاف والإصرار ما يجعلها كبيرة؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ):"والحسنة الواحدة قد يقترن بها من الصدق واليقين ما يجعلها تكفر الكبائر، كحديث البغيِ التي سَقَتْ كلبًا، وإلا فليس كل من سقى كلبًا عطشان يُغفَر له، كما أنه قد يقترن بالسيئة من الاستخفاف والإصرار ما يُعَظِّمُهَا"[7].
وقد ورد في السنة ما يدل على أَنَّ امرأة تدخل النار لأنها آذَتْ جارتها بلسانِها، ورجل يدخل النار لأنه يجر ثوبه خيلاء، وآخر يُعذَّب في قبره بسبب بوله، وثالث يدخل النار لأنه قال: "والله لا يغفر اللهُ لفلانٍ"...
ويوجه الإمام ابن القيم (ت: 751هـ) تحذيرًا للذين يستهينون بالمعاصي، فيقول: "يا مغرورًا بالأمانيِّ: لُعِنَ إبليس وأهبط من مَنْزِل العِزّ بِتَرْكِ سَجْدَة واحدة أُمِرَ بها، وأُخِرج آدم من الجنة بلقمة تناولها، وأُمِر بإيساع الظهر سياطًا بكلمة قذف أو بقطرة سُكْر، ودخلت امرأة النار في هرة، فلا تأمنه أن يحبسك في النار بمعصية واحدة من معاصيه"[8].
الفائدة الخامسة: المقصود من القصة الاعتبار والتنبيه
ذهب جمهور العلماء إلى أَنَّ المرأة المشار إليها كانت مسلمة، في حين ذهب القاضي عِيَاض (ت: 544هـ) إلى أَنَّ هذه المرأة يُحْتَمل أَنَّها كانت كافرة فعُذِّبت لكفرها، وزِيدت عذابًا بسيِّئ أعمالها، وكان منها هذا؛ إذ لم تكن مؤمنة فتُغفَر صغائرها باجتناب الكبائر[9].
وقد ذكر الإمام النووي (ت: 676هـ) كلام القاضي عِيَاض ثم تعقبه بقوله: "الصواب المصرَّح به في الحديث أنها عُذِّبَت بسبب الهِرَّة، وهو كبيرة؛ لأنها ربطتها وأصرت على ذلك حتى ماتت، والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة كما هو مقرر في كتب الفقه وغيرها، وليس في الحديث ما يقتضي كفر هذه المرأة"[10].
وعلى فرض أَنَّ هذه المرأة كانت كافرة، فليس المراد من هذه القصة وغيرها مجرد الحديث عن الماضين، وإنما المقصود تحذير المسلم من أن يقدم على مثل هذا الفعل، "فَمَا مِنْ قِصَّةٍ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا وَسِيَاقُهَا لِفَائِدَةٍ في حَقِّ النبي صلى الله عليه وسلم وأُمَّتِهِ"[11].
ويلفت الإمام البقاعي (ت: 885هـ) نَظَرَنا إلى السبب الذي من أجله مُنِعَ أَكْثَر الناس عن فهم معاني الْقُرْآنِ، فيقول: "لكلٍّ من الماضين مَثَل يتكرر في هذه الأمة الخاتمة... فما صَدَّ أكثرَ هذه الأمة عن فهم القرآن ظنُّهم أنَّ الذي فيه مِن قَصَص الأوَّلِين وأخبار المُثَابين والمُعَاقَبين مِن أهل الأديان أجمعين أنَّ ذلك إنما مقصوده الإخبار والقَصص فقط، كلا، وليس كذلك؛ إنما مقصودُهُ الاعتبار والتنبيه لمشاهدة متكررة في هذه الأمة من نظائر جميع أولئك الأعداد، وتلك الأحوال والآثار"[12]، وما يقال عن قصص القرآن يقال أيضا عن صحيح قصص السُّنة.
اللهم لا تؤيسنا من روحك، ولا تقنطنا من رحمتك، واجـعـلنـا رحماء بخـلقـك، ناصحين لعبادك، شاكرين لنعمائك، اللهم آمين.
[1]أخرجه البخاري (2365)، ومسلم (2242).
[2] أخرجه البخاري (2364).
[3] المهذب في فقة الإمام الشافعي، للشيرازي (3/ 164).
[4] التحبير لإيضاح معاني التيسير (4/ 440).
[5]الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 403).
[6]الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (الداء والدواء) (ص: 150).
[7] مختصر الفتاوى المصرية (ص: 577)، وينظر: مجموع الفتاوى (11/ 659).
[8] الفوائد لابن القيم (ص: 63).
[9]إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم (7/ 179).
[10] شرح النووي على مسلم (6/ 207) (14/240).
[11]إحياء علوم الدين (1/ 285).
[12] نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (8/ 525)، وكرر نفس المعنى في (3/ 395)، (3/ 406).
د. أحمد عبدالمجيد مكي